رم - بقلم: د. ماجد عسيلة
في زمن تتكاثر فيه الأبواق وتفبرك فيه الحقائق، لم يعد التحريض على الدول يتم عبر جيوش أو احتلال مباشر، بل بات يمارس بأدوات ناعمة، وعبر منصات رقمية، ومن خلال حملات تضليل مدروسة تستهدف ضرب الثقة وزعزعة الاستقرار من الداخل.
الأردن بما يمثله من ثقل سياسي وموقف قومي ثابت، لم يكن بمنأى عن هذه الحملات؛ فمنذ سنوات تتعرض الدولة الأردنية لهجمات ممنهجة تتخذ أشكالا متعددة، تبدأ بتشويه المواقف، ولا تنتهي عند بث الشائعات وخلق الأزمات، واستغلال الظروف المعيشية، وكأن الهدف هو أن يفقد المواطن إيمانه بوطنه وثقته بمؤسساته وارتباطه بقيادته.
هذه الحملات لا تستهدف الحكومة كأشخاص، بل تستهدف الأردن ككيان وموقف ودور، تستهدف وصايته الهاشمية على المقدسات التي تشكل صمام أمان للقدس، وتستهدف ثباته القومي في دعم القضية الفلسطينية ورفضه للمساومات، وتستهدف حياده العقلاني في صراعات الإقليم ومواقفه التي طالما كانت ضميرا للعرب في وقت عز فيه الضمير.
من هنا نفهم لماذا يحرض البعض على الأردن كلما صدح بصوته في المواقف العروبية، أو تحرك على الأرض لفك الحصار عن غزة، أو تصدى لمحاولات تهويد القدس، أو عندما اختار أن يكون طرفا يسعى للسلام العادل لا السلام المزيف.
أدوات التحريض
لم تعد الأدوات التقليدية هي المستخدمة، بل بات التحريض يمارس عبر مقالات مدفوعة الأجر في مواقع مأجورة، حسابات وهمية تضخ الشائعات بمئات التغريدات يوميا، "نشطاء" يتم تلميعهم ليبثوا خطابا مغلفا بالوطنية لكنه ينخر في أساسات الدولة، فيديوهات مجتزأة وتصريحات محرفة وسياقات مقصودة.
ما يزيد الخطر أن بعض هذه الحملات يدار من خارج الحدود بأموال معروفة الأهداف، ولكنها تجد من يرددها دون وعي داخل المجتمع، فيصبح الأذى مضاعفا والتشويش أكثر تأثيرا.
التصدي لحملات التحريض لا يكون بالصراخ، بل بالرواية الصادقة والعقل الهادئ، والعمل المستمر، وهنا تقع المسؤولية على الدولة بأن تبادر في إيضاح الحقائق بشفافية، وتتصدى مبكرا لما يثار قبل أن يتحول إلى "رأي عام"، وعلى الإعلام الوطني أن يكون في الصفوف الأولى، لا في موقع الدفاع، بل في موقع المبادرة محتكما إلى المهنية لا الانفعال، وكذلك على مؤسسات الشباب والتعليم والثقافة في غرس الوعي الرقمي في العقول الناشئة، كي لا تكون عرضة للانقياد الأعمى وراء "ترند" أو "بوست"، وأخيرا على المواطن بأن يتأكد أن حماية الوطن لا تكون فقط بالبندقية، بل أحيانا بكلمة أو موقف أو حتى امتناع عن نشر إشاعة.
الأردن لم يكن في تاريخه إلا وطنا ثابتا يقف عندما يتردد الآخرون، ويساند عندما يتقاعس غيره، ويمد يده حين تغلق الأبواب.. لذلك فإن استهدافه ليس ضعفا فيه بل تأكيد على قيمته، لكن هذه القيمة تحتاج إلى وعي دائم، فالوطن لا يحميه الصوت العالي بل الصوت العاقل، ولا تصونه النوايا الطيبة فقط، بل الإدراك العميق أن هناك من لا يريد له أن يستمر كما هو.. "قويا واثقا، ومتماسكا".
الأردن ليس حسابا على منصة ولا موضوعا في غرفة دردشة.. الأردن هو نحن بمواقفنا ووعينا والتفافنا حول ثوابته وثوابت قيادتنا الهاشمية.. فلنكن شركاء في صد كل تحريض ودرعا لكل محاولة اختراق.