رم - د.ناديا نصير
لم تكن الأصوات التي اخترقت الأجواء فجأة مجرد صفارات إنذار؛ بل كانت أشبه بصفعة توقظنا من سكون نعيشه وسط عالمٍ مضطرب. مرّت صواريخ في سماء الأردن، ودوّت صفارات الإنذار في مناطق متعددة، وسط استنفار أمني عالي وحالة من الترقب الشعبي. لكن ما بين هدير الطائرات وهمس الأمهات، ارتفعت مشاعر القلق الجماعي، وارتبكت الأنفاس، لا سيما عند من لا يحتملون المفاجآت: أطفالنا وكبارنا.
بين الصوت والمشاعر: كيف يتشكل الأثر النفسي؟
الصوت المفاجئ، كصفارة الإنذار، لا يدخل الأذن فقط، بل يطرق باب الذاكرة والخوف. بعض الأطفال قد لا يفهمون ما يحدث، لكنهم يلتقطون الخوف من ملامح الوجوه حولهم. وكبار السن، وخصوصًا من مرّوا بتجارب حروب أو نزاعات، قد يعودون بأذهانهم إلى أيام أرادوا نسيانها.
ولذلك فإن الأثر النفسي لا يتوقف عند اللحظة، بل يبدأ منها. القلق، الارتباك، التشوش، وحتى فقدان الشهية أو اضطرابات النوم، كلها مؤشرات على الحاجة لتدخل نفسي بسيط لكن فعّال.
فالأردن هو قلب المنطقة وروح الاستقرار حيث أننا لا نعيش في جزيرة معزولة، ونعلم أن موقع الأردن الجغرافي يجعله دائمًا في قلب الحدث، لكنه في كل مرة يثبت أنه قلب نابض بالاتزان، محاط بأذرع تحرسه سياسيًا وأمنيًا، ويحتاج الآن أن نحرسه نفسيًا أيضًا، خصوصًا في بيوتنا ومدارسنا ومجتمعاتنا الصغيرة.
كيف نُطمئن قلوبنا.. وقلوبهم؟
نصائح نفسية للتعامل مع الأطفال أثناء الأزمات المفاجئة:
* اشرحوا لهم بلغة بسيطة وغير مخيفة: لا تقل لطفلك «هناك حرب»، بل قل «كان في صوت إنذار لأن هناك شيء طار في السماء، بس إحنا بأمان».
* استخدموا القصص والألعاب: لتفريغ مشاعر الخوف، شجّع الطفل على تأليف قصة بطل خارق أنقذ المدينة، أو أرسموا سويًا «بيت الأمان».
* راقبوا تغيّرات السلوك: إذا بدأ طفلك بالتبول الليلي، أو أصبح صامتًا بشكل غير معتاد، فهذه إشارات تستحق الدعم لا التأنيب.
* قدّموا نموذجًا هادئًا: الطفل يقرأ مشاعر والديه أكثر مما يسمع كلماتهم. إذا رأى أمّه مطمئنة، سيكون هو كذلك.
* شجعوا الحركة والنشاط: التوتر يتراكم في الجسد، لذا اسمحوا باللعب، الرقص، أو حتى القفز، فهذه أنشطة تُفرّغ الشحنات السلبية.
* خصصوا وقتًا للعناق: الدراسات النفسية تؤكد أن العناق لثوانٍ معدودة يُفرز هرمونات الطمأنينة ويعيد توازن الجهاز العصبي للطفل.
نصائح عملية لدعم كبار السن نفسيًا في مثل هذه اللحظات:
* طمئنوهم دون إثارة القلق: لا تُكثروا من تحليل الأخبار أمامهم، بل اختصروا المعلومة بالقول «الموضوع تحت السيطرة».
* أعيدوا بناء الإحساس بالسيطرة: اسألوهم رأيهم في أمر منزلي، أو استشيروا في موضوع بسيط، فهذا يمنحهم إحساسًا بأنهم ما زالوا عنصر أمان لا متلقٍ فقط.
* لا تتركوهم وحدهم: حتى إن لم يتحدثوا، وجود شخص إلى جانبهم يخفف الضغط النفسي بنسبة كبيرة.
* مارسوا تمارين التنفس البطيء معهم: شهيق ٤ ثواني - احتفاظ ٤ ثواني - زفير ٤ ثواني. تكرار هذا التمرين يُخفض نبض القلب ويُشعرهم بالارتياح.
* وفروا لهم ركنًا آمنًا: كرسي مفضل، إذاعة مطمئنة، أو قراءة القرآن الكريم بهدوء، فهذه تفاصيل صغيرة تصنع راحة كبيرة.
* راقبوا النوم والشهية: أي اضطراب مستمر بعد الحادثة يستحق الدعم من مختص نفسي، فالوقاية خير من تراكم الأثر.
عندما تدوي الصفارة... لا تدع الخوف يدوّي فيك
عندما تخترق صفارات الإنذار سكون اللحظة، فإن أول ردّة فعل فطرية هي التجمّد أو التشتّت أو الارتباك. لكن ما تحتاجه أجسامنا وعقولنا في تلك اللحظة هو العكس تمامًا: الانتقال من الفوضى إلى التنظيم، ومن الذعر إلى الإدراك. ففي اللحظة التي تسمع فيها صفارة الإنذار:
* توقّف فورًا عما تفعله: استمع للصوت لا لتفسيراته في خيالك. هذا ليس وقت التوقعات، بل وقت الأمان.
* كن نموذجًا للهدوء: حتى إن كنت خائفًا، فتصرفك المتّزن هو مرساة النجاة لطفلك، ولجدّتك التي ترتجف يدها دون أن تنطق.
* توجّه إلى المكان الآمن المخصص (مخبأ، غرفة داخلية، ممر بعيد عن النوافذ): ليس من الضعف أن تحتمي، بل من الحكمة.
* نظّم أنفاسك قبل أفكارك: خذ شهيقًا عميقًا، واحبسه، ثم ازفر ببطء... هذا ليس مجرد تمرين تنفسي، بل مفتاح لإعادة برمجة الدماغ في اللحظة الحرجة.
* طمئن من حولك بصوت واضح، دون مبالغة: قل «نحن نعرف ماذا نفعل، والأمر تحت السيطرة»، فالعقل في الأزمة يحتاج صوتًا خارجيًا يرشده أكثر من أي تحليل داخلي.
* إن كان معك طفل... انزل إلى مستواه، حدّق في عينيه وقل له ببساطة: «أنا معك، ونحن في أمان».
* إن كان معك كبير سن... أمسك يده، وذكّره بأن ما نسمعه ليس بالضرورة تهديدًا، بل إجراء احترازي لحمايتنا.
الصفارات لا تعني النهاية، بل تعني أن هناك منظومة تعمل، وأن هناك فرصة للبقاء، وأن الخوف لا يجب أن يقودك، بل أن يُدار بعقلٍ هادئ وقلبٍ يقظ.
ما بعد الإنذار ماذا نقول لأنفسنا؟حين نمر بموقف مفاجئ يحمل في طياته خطرًا محتملاً، فإن الجسم يفرز هرمونات التوتر بشكل طبيعي. لكن المهم أن نُعيد برمجة تفكيرنا بعدها
نعم، خفنا... لكننا بخير.
نعم، سمعنا صفارات... لكن لم يُصب أحد.
نعم، هناك اضطراب إقليمي... لكن الأردن ما زال صامدًا، مستقرًا، قويًا.
وفي النهاية من يطمئن... يُطمئن
في الأزمات، لا نحتاج فقط إلى جدران تحمينا، بل إلى قلوب تحتوينا. أن نكون نحن، كمجتمع، مصدر طمأنينة لبعضنا، هو ما يجعل الأحداث تمر دون أن تترك أثرًا عميقًا في نفس صغير، أو ذاكرة مُتعبة لكبير.
فلنُحافظ على هذا الوطن آمنًا... في جغرافيته، وفي وجدان أبنائه.
أخصائية العلاج النفسي