رم - مهدي مبارك عبد الله
يوم الأربعاء 22 اكتوبر الجاري صادقت الهيئة العامة للكنيست الإسرائيلي "بالقراءة التمهيدية" على مقترح مشروع قانون ضم الضفة الغربية بشكل كامل والمقدم من رئيس حزب "نوعام" اليميني المتطرف أفي ماعوز والمقترح الثاني المقدم من حزب " إسرائيل بيتنا " برئاسة أفيغدور ليبرمان والذي ينص على ضم مستوطنة معاليه أدوميم إلى السيادة الإسرائيلية ليحال بعد ذلك إلى لجنة الخارجية والأمن لاستكمال مداولاته التشريعية
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في ذات السياق قال إنّه ينبغي إعادة إمكانية فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية كما قال وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش ان عام 2025 سيكون عام "السيادة الإسرائيلية" على "يهودا والسامرة" وهو الاسم الذي تطلقه إسرائيل على الضفة الغربية وقد لاقى قرار الكنيست الداعم لفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، تنديدا دوليا واسع النطاق واعتبر انتهاكا للقانون الدولي وخطوة تقوّض بشدة إمكانية تطبيق حل الدولتين
المملكة الأردنية الهاشمية تشهد مرحلة شديدة الحساسية تتشابك فيها التطورات الإقليمية مع إرث تاريخي معقد وتتعمق فيها المخاوف من تداعيات سياسية وأمنية قد تنفجر في أية لحظة في صدارة هذه التهديدات تأتي الخطة الإسرائيلية لضم الضفة الغربية التي أقرها الكنيست الإسرائيلي في خطوة تعيد فتح جراح جيوسياسية قديمة وتفرض على عمان استحقاقات استراتيجية غير قابلة للتأجيل سيما وإن ضم الضفة ليس مجرد قضية فلسطينية بل يمس مباشرة العمق الاستراتيجي والسيادي للأردن كدولة تقع على خط تماس مباشر مع التغيرات الإسرائيلية في الجغرافيا والواقع السكاني للمنطقة في ظل هشاشة التوازنات القائمة بين الدول على الحدود الشرقية والغربية للمملكة
التقرير الصادر عن المعهد الإيطالي لتحليل العلاقات الدولية مؤخرا أكد بوضوح أن الخطة الإسرائيلية لضم الضفة تعيد إلى الواجهة كوابيس استراتيجية لطالما حاول الأردن تجاوزها عبر دبلوماسية حاسمة ومتوازنة وتحالفات مدروسة فالضفة الغربية لم تكن يوما مجرد جارة للأردن بل كانت جزءا من إدارة الدولة حتى عام 1967 وعليه فإن أي تغيير جذري في وضعها القانوني والسياسي يهدد بشكل مباشر البنية السكانية والهوية الوطنية الأردنية الأمر الذي يتجاوز البعد الرمزي إلى معضلات أمنية واقتصادية تتعلق باحتمالية تدفق موجات جديدة من اللاجئين الفلسطينيين نحو الداخل الأردني مما يشكل ضغطا ديموغرافيا لا يمكن تحمله في معظم المحافظات الرئيسية التي لا تزال تحمل إرثا طويلا من الاحتكاك مع ملفات اللجوء الفلسطيني منذ نكبة عام 1948 وحتى اليوم
دراسة المعهد الإيطالي عادت بالتاريخ إلى الوراء لتربط هذه التطورات بجذور نشأة الدولة الأردنية ذاتها حيث تشير إلى أن المملكة التي ولدت من رحم الثورة العربية الكبرى بدعم بريطاني ظلت دائما ضحية خرائط القوى الاستعمارية التي قسمت الشرق الأوسط إلى مناطق نفوذ بعد الحرب العالمية الأولى وقد مثلت الضفة الغربية أحد مفاتيح النفوذ السياسي الأردني منذ 1948 حين تمكن الجيش الأردني من السيطرة عليها جزئيا خلال الحرب الأولى مع إسرائيل غير أن هزيمة حزيران عام 1967 وما تبعها من خسارة القدس والضفة لم تضع حدا للعلاقة العضوية بين عمان وهذه المنطقة بل حولتها إلى مصدر قلق دائم خاصة في ظل المتغيرات الديموغرافية وظهور منظمة التحرير الفلسطينية كلاعب داخل الأراضي الأردنية ما أدى لاحقا إلى احداث ايلول المؤسفة عام 1970
ومنذ اتفاقية وادي عربة عام 1994 حاول الأردن التكيف مع الواقع الجديد مستفيدا من موقعه كدولة عازلة بين إسرائيل من جهة والعالم العربي من جهة أخرى غير أن التوازن الذي بني على دبلوماسية الحذر والانفتاح المشروط على تل أبيب لم يكن كافيا لضمان أمن المملكة في ظل تحولات غير مسبوقة كالحرب المستمرة في غزة وتصاعد التوتر في الجنوب السوري وتهديدات الحشد الشعبي العراقي على الحدود الشرقية إذ باتت عمان محاطة بجبهات غير مستقرة تتطلب استنفارا أمنيا شاملا خاصة بعد تزايد محاولات التهريب وانتشار السلاح وعودة التنافس الإقليمي في سوريا بين تركيا وإيران وإسرائيل في تلك المرحلة
المملكة الهاشمية التي تفتقر لموارد طبيعية كبيرة أو قوة عسكرية تقارن بجيرانها تجد نفسها مضطرة اليوم إلى اتخاذ خطوات داخلية غير مسبوقة لمواجهة هذه التهديدات أبرزها حظر جبهة العمل الإسلامي ذات الصبغة الإخوانية وإعادة فرض الخدمة العسكرية الإلزامية في رسالة مزدوجة موجهة للداخل والخارج على حد سواء فالحظر السياسي جاء متناسقا مع موقف السلطة الفلسطينية في رام الله الراغبة في عزل حركة حماس بينما تعكس إعادة التجنيد محاولة جادة لبناء قوة دفاعية مرنة قادرة على تأمين حدود طويلة ومعقدة من جهة وتوظيف فئات شبابية عاطلة عن العمل من جهة أخرى للحد من خطر التطرف الذي قد يتسرب إلى الداخل بفعل الفراغ الاقتصادي المستعصي
ومع تصاعد المواجهات بين إسرائيل ولبنان وعودة إيران للعب دور في سوريا والعراق رغم ضعفها الحالي تبقى العلاقة الأردنية الإسرائيلية هي بيت القصيد في الحسابات الاستراتيجية لعمان خاصة خصوصا وأن مشروع الضم الإسرائيلي لا يعني فقط إنهاء حلم الدولة الفلسطينية بل يشير ايضا إلى تحولات أيديولوجية داخل إسرائيل نفسها نحو تطرف سياسي وديني يصعب التفاهم معه ضمن إطار اتفاقيات السلام السابقة فإسرائيل اليوم تبتعد شيئا فشيئا عن منطق الدولة التي تقبل بالتسويات وتقترب من نموذج القوة المهيمنة والسيطرة على كامل الأرض بين النهر والبحر وهو تصور لا يترك للأردن أي مساحة للمناورة لا سياسيا ولا جغرافيا
القلق الأردني المشروع لا ينبع فقط من الخشية من تفجر الأوضاع في الضفة الغربية بل من سيناريو أسوأ يتمثل في تزامن العملية مع تطورات عسكرية في الجنوب السوري حيث توجد قوى درزية مدعومة أمريكيا ومليشيات إيرانية نائمة تحاول التمدد بالإضافة الى وجود جيش إسرائيلي لا يخفي نواياه بالتحرك ضد التهديدات وبذلك يصبح الأردن أمام جبهة محتملة واحدة تمتد من درعا إلى أريحا وهو احتمال كفيل بنسف كل ترتيبات الاستقرار التي بنتها المملكة على مدى العقود الثلاثة الماضية
إذا ما أُضيف إلى ذلك الضغط الشعبي في الداخل الأردني حيث لا تزال قطاعات واسعة من المواطنين ترفض العلاقات مع إسرائيل وتطالب بمواقف أكثر صرامة فإن الحكومة تجد نفسها في وضع داخلي لا يسمح لها بمزيد من التنازلات أو المراهنات خاصة أن الشارع بعد الحرب على غزة وتزايد البطالة والتضخم بات أكثر تقبلا لخطابات المواجهة وأقل ثقة في التحالفات التقليدية مع الغرب الذي لا يظهر حماسة حقيقية لوقف الخطة الإسرائيلية الاستفزازية تجاه بلاده
معلوم بان الأردن اليوم لا يواجه مجرد تهديد حدودي بل تحديا وجوديا في صلب هويته السياسية والاجتماعية والجغرافية والخطة الإسرائيلية لضم الضفة الغربية ليست سوى رأس جبل الجليد في مواجهة استراتيجية مفتوحة تحتاج من عمان ليس فقط إلى تحديث أدواتها الأمنية بل إلى إعادة صياغة خطابها السياسي على المستويين الإقليمي والدولي لإعادة تثبيت موقعها كدولة محورية في توازنات الشرق الأوسط وليس كطرف هش ينتظر نتائج المعارك الجانبية على أطراف حدوده
في المحصلة يقف الأردن اليوم عند مفترق طرق بالغ الخطورة تتداخل فيه الذاكرة التاريخية مع الحسابات الجيوسياسية وتتقاطع فيه التهديدات الإسرائيلية المباشرة مع هشاشة الداخل وتعدد جبهات التوتر المحيطة به فخطة ضم الضفة الغربية ليست مجرد خطوة إسرائيلية أحادية بل إنذار استراتيجي يعيد تشكيل معادلة الأمن الإقليمي بأكملها ويضع المملكة الهاشمية أمام خيارين لا ثالث لهما إما البقاء في موقع الدولة التي تكتفي بالتحذير والاحتواء أو الانتقال إلى مرحلة جديدة من الفعل السياسي والأمني الذي يعيد تعريف علاقتها بجوارها وحدودها وهويتها الوطنية
خاتمة : الأردن الذي لطالما قدم نفسه كصوت للاعتدال والحكمة والوسيط الإقليمي الفاعل يجد نفسه اليوم مطالبا برفع سقف مواقفه وحماية توازنه دون أن يقع في فخ المغامرة أو العزلة الدولية ومن هنا فإن تعاطي عمان مع هذا الملف لن يحدد فقط مستقبل الضفة بل سيحدد تأثير الأردن وموقعه المستقبلي في خارطة الشرق الأوسط المتغيرة بسرعة غير مسبوقة
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]