أ.د. علي حياصات
لم يعد خافيًا أن ميزان القيم في المجتمع الأردني قد تغيّر. فما كان يُقاس بالجهد والإنجاز أصبح يُقاس بالظهور والواجهة، وما كان يُكتسب بالمثابرة والعمل صار يُمنح بالمجاملة والعلاقات. وهكذا بات التقدير يُمنح لمن يجيد الحضور الشكلي لا لمن يصنع الفعل.
في الماضي، كان الأردني يُعرف بعمله وسيرته لا بعدد صوره أو حفلات تكريمه. كان المعلّم يُكرَّم بأثره في طلابه، والطبيب يُحترم لأخلاقه قبل شهادته، والمهندس يُذكر بجودة ما أنجز لا بعدد الدروع على جدران مكتبه. أما اليوم، فقد أصبح النجاح يقاس بعدد المناسبات التي يُدعى إليها ، وبمدى حضوره الإعلامي، حتى وإن خلا من أي إنجاز حقيقي.
هذا التحوّل لم يكن صدفة، بل نتيجة تراكماتٍ اجتماعية وثقافية. فقد روّجت وسائل التواصل الاجتماعي لثقافة “الشهرة السريعة الفارغة من المضمون”، ومنحت الصورة سلطةً تفوق الفعل، بينما تراجع دور المدرسة والعائلة في ترسيخ القيم الأصيلة، وتراجع معها الإيمان بمعنى الجهد الحقيقي.
تتجلّى هذه الظاهرة في تفاصيل حياتنا اليومية، حفلات تكريم بلا معايير واضحة، واجتماعات تدور حول “من حضر” لا “ماذا أُنجز”، ومؤسسات تتباهى بالصور أكثر من النتائج. حتى النقابات والجمعيات والمنتديات الثقافية التي كانت يوماً عماد العمل العام أصابها هذا البريق الزائف، فضعُف أثرها الحقيقي أمام استعراضٍ متزايد للمظاهر.
جيل الشباب هو الأكثر تأثرًا بهذه المعادلة الجديدة، إذ يرى أن الطريق إلى المكانة الاجتماعية لا يمرّ عبر الجدّ والعلم والعمل، بل عبر الظهور أو القرب من دوائر النفوذ. ومع الوقت، تتلاشى قيمة العمل، ويختلط من يستحق التقدير بمن يطلبه بلا سبب.
ورغم ذلك، تبقى جذور الأصالة في المجتمع الأردني حيّة في عمق الناس، تظهر في المواقف الصعبة، وفي كرم العائلة وتكافل الجيران. لكنها قيم تحتاج إلى من يوقظها من تحت غبار المظاهر ويعيد ترتيب الأولويات في ضمير المجتمع.
استعادة التوازن ممكنة، لكنها تحتاج إلى وعيٍ ومشروع ثقافي وتربوي يعيد الاعتبار للفعل الصادق، ويُكرّس الاحترام القائم على الكفاءة لا الوجاهة. فالمجتمع لا يُقاس بعدد الصور المنشورة ولا بحجم التصفيق، بل بقدرته على تكريم الفكر والعمل الحقيقي.
وحين نتعلّم أن نكرّم الإبداع لا الضجيج، وأن نحتفي بما يُنجز لا بما يُعرض، سنكتشف أن أصالة هذا المجتمع لم تختفِ، بل تنتظر من يعيد إليها الضوء.
|
لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
|
|
| الاسم : | |
| البريد الالكتروني : | |
| التعليق : | |