الأحزاب السياسية الأردنية: هل نمتلك أدوات التحول الديمقراطي؟


رم - الدكتور ليث عبدالله القهيوي


ليس السؤال عمّا إذا كانت الأحزاب السياسية الأردنية موجودة، بل عمّا إذا كانت تمتلك اليوم أدوات التحول الديمقراطي القادرة على تحريك توازنات السلطة والمجتمع. منذ الاستئناف السياسي في نهاية الثمانينيات، عرف الأردن تعددية حزبية تأرجحت بين فترات الانفراج والانكماش السياسي، وبين الرغبة الرسمية في “تنظيم الموضوع” والخشية الدائمة من انفلات الكلف الأمنية. على هذه الأرضية تشكّلت منظومة حزبية واسعة بعددها، ضعيفة بوزنها، مُثقَلة بإرث تشريعي وانتخابي شجّع الفردية والعصبية المحلية على حساب التمثيل البرامجي. لذا تبدو معادلة السياسة الأردنية وكأنها حقل قوى: سلطة تنفيذية، برلمان محدود الفاعلية، رأي عام متشكك، وأحزاب تحاول القفز بين الفجوات.

ان جوهر المشكلة ليس في النصوص وحدها بل في الاقتصاد السياسي للتمثيل. لسنوات طويلة أعاد “الصوت الفردي” إنتاج وسطاء محليين لا أحزاباً وطنية، ولا تزال ذيوله ممتدة حتى اليوم رغم التحسينات التشريعية الأخيرة وكرّس علاقة زبائنية بين الناخب وممثل الدائرة، فيما بقيت البرامج العامة والبدائل الاقتصادية أسيرة الشعارات. حتى حين تحسنت القواعد نسبياً نحو قوائم ونهج أكثر تمثيلاً، ظل أثر ذلك جزئياً لأن الثقة لا تبنى بقانون واحد، بل بتراكم أداء يقنع الجمهور بأن الصوت الحزبي يغير السياسات لا اليافطات. وهنا تتبدى المعضلة: المواطن يسأل عن الجدوى المباشرة، والأحزاب لا تصل إلى السلطة كي تثبت الجدوى، فتستمر دائرة الشك.

لكن المشهد الراهن ليس ساكناً. إصلاحات العقد الأخير من هيئات مستقلة للإشراف على الاقتراع إلى تحديث قوانين الانتخاب والأحزاب فتحت نافذة تاريخية لإعادة هندسة النظام التمثيلي. التغيير الحقيقي سيقاس بقدرة هذه القواعد على إنتاج كتل حزبية وازنة تتنافس على صياغة السياسات العامة، لا على توزيع الخدمات. وعند هذه النقطة، تنتقل الكرة إلى ملعب الأحزاب نفسها: هل تملك أدوات التنظيم والتمويل والاتصال السياسي وبناء التحالفات العابرة للمناطق والهويات؟ أم ستبقى أسيرة نخب صغيرة تريد اعادة انتاج انفسها ومقار مغلقة؟

في مقاربة استراتيجية، يمكن تفكيك أدوات التحول إلى أربعة مسارات متلازمة. الأول تنظيمي: التحول من “جمعيات سياسية” إلى مؤسسات تعلم وتخطيط وتنفيذ، تمتلك قواعد بيانات للناخبين، وبنى محلية قادرة على العمل بين الانتخابات لا خلالها فقط. الاندماج بين الأحزاب المتشابهة ليس ترفاً بل ضرورة لتقليل التشرذم ورفع الكتلة الحرجة. الثاني برامجي: الانتقال من عموميات الإصلاح إلى مصفوفات سياسات قابلة للقياس في ملفات الضرائب، التشغيل، النقل، والطاقة، مع كلفة وزمن ومؤشرات أداء. الناخب الأردني سئم الوصفات العامة؛ يريد حلولاً ملموسة تحسّن معيشته.

المسار الثالث تعبوي-اتصالي: بناء ثقة جديدة مع جمهور شاب ومتعلم عبر حضور جامعي ونقابي ومنصات رقمية، ولغة سياسية حديثة تربط الكرامة الاقتصادية بالحريات الصلبة. لا يكفي خطاب المعارضة الأخلاقي؛ المطلوب حملة مستمرة لتغيير التفضيلات، تُظهر كيف تترجم المشاركة الحزبية إلى خدمات عامة أفضل ومساءلة أقوى. أما المسار الرابع فهو ائتلافي: تشكيل جبهات واسعة حول أجندات محددة (نزاهة، منافسة، حوكمة محلية) تضم نقابات ومجتمعاً مدنياً وقطاع أعمال إصلاحي، بما يخلق “كتلة مصلحة” تحمي التغيير من قوى الشدّ العكسي.

على الضفة المقابلة، يظل التزام الدولة حاكماً لنجاح الانتقال. الحياد الإداري، استقرار قواعد اللعبة الانتخابية لدورات متتالية، وتمكين العمل الحزبي في الجامعات والمؤسسات العامة، كلها شروط لازمة لبناء توقعات عقلانية لدى الناخب والمرشح. التحول الديمقراطي الأردني بطبيعته تدرجي وتوافقي؛ لكنه بلا ضمانات مؤسسية يصبح مجرد إعلان نوايا. الاستثمار الرسمي في تمويل حزبي مشروط بالأداء، وتطبيق صارم لقواعد تكافؤ الفرص، سيولد حوافز صحية لإنتاج أحزاب برنامجية قادرة على الحكم.

استشرافاً للمستقبل، ثمة ثلاثة مسارات محتملة. سيناريو الجمود: تبقي القواعد الجديدة على طابعها الشكلي إذا لم تتبدل موازين الحوافز، فتتكرس برلمانات مشتتة وأحزاب هامشية. سيناريو التعددية المدارة: ترتفع حصة القوائم الحزبية تدريجياً وتظهر كتل وسطية محافظة تحسن إجراءات الحوكمة دون تغيير عميق في علاقة السلطة بالمجتمع. وسيناريو الاختراق التدريجي: تتشكل كتلتان أو ثلاث ذات برامج اقتصادية متمايزة، تتنافس على تشكيل حكومات برلمانية ائتلافية، فتدخل الدولة في دورة تعلم مؤسسي تحسن الأداء وتعيد بناء الثقة.

الممكن والمرغوب يلتقيان عند سياسة صغيرة التفاصيل عظيمة الأثر: قضايا البلديات، النقل العام، التعليم التقني، دعم المشاريع الصغيرة وريادة الأعمال ، ومكافحة الاحتكار. إذا نجحت الأحزاب في ربط هذه الملفات بحياة الناس وإظهار أثرها عبر مجالس بلدية وبرلمانية فاعلة، يمكن لتفضيلات الناخب أن تتحول من الولاء المحلي إلى الاختيار البرامجي. عندها فقط تصبح الأحزاب أدوات حقيقية للتحول الديمقراطي: مؤسسات تنتج سياسات وتتحمل الكلفة، لا منصات للاحتجاج الموسمي. اللحظة مؤاتية، والنافذة مفتوحة، لكنها لن تبقى كذلك طويلاً؛ فإما أن تُستثمر ببناء قدرات وتحالفات ذكية، أو تتلاشى في ضجيج مواسم انتخابية أخرى.
ويبقى التحدي الحقيقي في تحويل القواعد القانونية إلى ثقافة سياسية جديدة تقنع الأردني أن التحول الديمقراطي ليس مشروع الدولة وحدها، بل مسؤولية المجتمع بأسره.



عدد المشاهدات : (4226)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :