رم - د . مهدي مبارك عبد الله
في خطوة وصفت بأنها الأكثر تطرفًا في تاريخ التشريع الإسرائيلي الحديث صادقت لجنة الأمن القومي في الكنيست الإسرائيلي مؤخرا على مشروع قانون يسمح بفرض عقوبة الإعدام على الأسرى الفلسطينيين المدانين بقتل إسرائيليين تمهيدًا لعرضه على الهيئة العامة للكنيست في قراءة أولى وهذه الخطوة وإن كانت متوقعة في ظل التكوين الفاشي للحكومة الإسرائيلية الحالية إلا أنها تشكل منعطفًا خطيرًا في مسار التعامل مع الفلسطينيين باعتبارهم " كائنات مباحة للقتل" لا أسرى حرب أو مقاومين للاحتلال وذلك في تناقض صارخ مع كافة القوانين والمواثيق الدولية
القانون ليس وليد اللحظة بل طُرح سابقًا عدة مرات وتم تأجيله تحت ضغوط داخلية وخارجية لكنه عاد بقوة الآن بفضل الدعم الكامل من الوزيرين الأكثر تطرفًا في المشهد السياسي الإسرائيلي إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي وبتسلئيل سموتريتش وزير المالية حيث قررا الانتقال من مرحلة التحريض الدموي إلى اقرار التشريع الدموي مستغلين لحظة الانقسام العالمي والانشغال بالحروب في غزة وأوكرانيا وأماكن أخرى لتمرير ما يمكن وصفه بجريمة قانونية مكتملة الادلة والأركان .
الغريب أن هذا القانون يطرح الان بينما يسير العالم نحو إلغاء عقوبة الإعدام بشكل تام حيث أوقفت أكثر من ثلثي دول العالم تنفيذ هذه العقوبة وأغلب المنظمات الحقوقية الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة تطالب بإلغائها كليا باعتبارها عقوبة غير إنسانية ولا تحقق العدالة ولا تردع الجريمة لكن إسرائيل وكعادتها لا ترى نفسها جزءًا من هذا العالم بل دولية فوق القانون وفوق المساءلة تطبق ما تشاء من قوانين على من تشاء مادام الهدف والضحية فلسطينيًا
ما يسمى بمشروع " إعدام الأسرى" ليس مجرد قانون عقابي بل انعكاس حي للعقلية الإجرامية التي تدار بها مؤسسات الاحتلال والتي لا تكتفي بالإعدام البطيء للأسرى الفلسطينيين من خلال التعذيب والتجويع والإهمال الطبي والحرمان ومنع الزيارات والعلاج بل تسعى الآن إلى جعل الموت " شرعيًا " بقوة القانون الجديد الذي يفرض الإعدام الإلزامي بقرار صدرمن غالبية القضاة وليس بالإجماع كما في القوانين السابقة حيث يمنع تخفيف العقوبة أو استبدالها ما يعني أن قرار القتل سيكون محميا و سهلًا وسريعًا وبلا استئناف او مراجعة او إنصاف
السؤال المطروح باستغراب هنا لماذا الآن ولمصلحة من يفتح هذا الباب الجهنمي وهل التوقيت بريء ام هو سياسي بامتياز في ظل معاناة الحكومة اليمينية بقيادة نتنياهو من عدة أزمات داخلية عميقة بداية من الفشل في غزة إلى التصدع داخل المجتمع الإسرائيلي وصولا إلى الضغوط الدولية المتزايدة بسبب جرائم الحرب المتواصلة وهل ايضا تمرير قانون دموي كهذا هو محاولة لصناعة نصر وهمي أمام جمهور اليمين المتطرف ورسالة انتخابية مغلفة برائحة الدم والرعب والموت
الأهم من كل ذلك هل سيؤدي هذا القانون فعلًا إلى " ردع " الفلسطينيين ومنعهم من تنفيذ عمليات فدائية أو استشهادية فالتاريخ يُجيب بانه لم تنجح كل أساليب الإعدام والتصفية والاغتيال منذ النكبة حتى اليوم في كسر إرادة الفلسطينيين فمن يواجه قنبلة نووية بالحجارة لا يخشى حبل المشنقة ومن يحتجز في معسكرات سرية ويعذّب بالماء المغلي لا تهزه التهديدات بالقتل العلني والفلسطينيون لا ينفذون عملياتهم عبثا أو حبًّا في الموت بل بدافع الكرامة والانتقام والدفاع عن الوطن السليب ورفض الاحتلال وهذه المشاعر الجياشة لا تلغى بقوانين الموت مهما عظمت
امام كل ذلك على قادة اسرائيل المتغطرسين ان يفهموا ان الردع الحقيقي لن يتحقق بالإعدامات بل بإنهاء الاحتلال والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني بالحرية والعودة والاستقلال أما استخدام القانون كأداة قتل جديدة فلن يسكت صوت المقاومة ويطفئ نارها بل سيزيدها لهيبها و شرعية انتشارًا ومثلما فشلت " سياسات القبضة الحديدية " في العقود الماضية سيفشل هذا القانون الذي سيسجل في التاريخ كوصمة عار على جبين دولة تدعي الديمقراطية وهي تمارس اعتى واقذر صور الفاشية
الامر الذي يجب التوقف عنده بجدية هو أن مشروع قانون إعدام الأسرى الفلسطينيين لا يمكن قراءته إلا ضمن سياق أوسع من سياسات الفصل العنصري التي تمارسها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني فهذا القانون لا يشمل إلا الفلسطينيين ويستثني أي يهودي إسرائيلي يرتكب جريمة مشابهة بما في ذلك الجنود والمستوطنين الذين قتلوا مدنيين أو نفذوا مذابح مروعة مثل مجزرة الحرم الإبراهيمي أو حرق عائلة دوابشة او غيرهما وهذه الانتقائية تكشف بوضوح الطبيعة العنصرية للكيان والقانون وتجعل من الجهاز القضائي الإسرائيلي شريكًا في التمييز العرقي المنظم وهو ما يرقى إلى جريمة ضد الإنسانية وفقًا للتعريفات المعتمدة في القانون الدولي المعاصر
من ابسط الذرائع الواهية التي تروج لها المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لتبرير القانون هي تحقيق "الردع" غير أن التجربة العملية تؤكد فشل هذا النهج مرارًا وتكرارًا فمنذ سنوات طويلة تنفذ إسرائيل عمليات اغتيال ميداني وتهدم منازل منفذي العمليات الاستشهادية وتفرض العقوبات الجماعية على عائلاتهم ومع كل ذلك لم تتوقف العمليات الفدائية بل ازدادت في فترات القمع الشديد وعمليات القتل المنظم علما بان الردع السلوكي الحقيقي لا يبنى على العقوبات الوحشية بل على معالجة جذور الصراع بأنهاء الاحتلال ووقف الاستيطان والحرمان من الحقوق الأساسية أما عندما تتحول الدولة إلى ماكينة قمع لا تفرق حينها بين مقاتل ومدني وبين مقاوم وأسير يتحول كيان الاحتلال إلى دولة مارقة تتغذى على العنف وتنتج الاجرام من جديد بصور واشكال غير معهودة
من المفارقات المثيرة للسخرية أن جهات أمنية إسرائيلية كبرى عبرت عن رفضها لتوقيت إقرار القانون بل وذهبت إلى حد التحذير من أن ذلك سيؤدي إلى تعريض حياة الجنود الذين يقعون في اسرى لدى المقاومة للخطر علما بان هذا التحفّظ لم ينبع من رحمة مفاجئة أو أخلاق مستيقظة بل جاء من إدراك براغماتي أن مثل هذا القانون قد يفجر الوضع ويعقد بعض الملفات الحساسة بمعنى آخر حتى في حسابات المصالح البحتة تمرير هذا القانون يعد مقامرة خطيرة قد تعود بنتائج عكسية على دولة الاحتلال نفسها
مشروع القانون الجديد يتضمّن بندًا خطيرًا يُلزم القضاء العسكري أو المدني بالحكم بالإعدام دون الحاجة إلى إجماع القضاة والاكتفاء بالأغلبية كما يمنع إمكانية استبدال العقوبة بالسجن مدى الحياة وهذا التحايل على منظومة العدالة يهدف إلى إغلاق أي باب للرحمة أو التخفيف أو حتى مراجعة الحكم وهو ما يتناقض جذريًا مع قواعد العدالة الإجرائية الدولية وفي حال تطبيقه فإن ذلك سيجعل من القضاة أدوات تنفيذ موجه لا أكثر وينزع عنهم صفتهم كجهة مستقلة يفترض أن تحكم وفق القرائن والأدلة وليس الأجندات السياسية
المؤسف انه رغم خطورة القانون فإن الردود الدولية جاءت خجولة إلى الآن باستثناء بعض بيانات القلق التي لا ترقى لمستوى الحدث والسؤال الذي يطرح نفسه هل بات المجتمع الدولي عاجزًا فعلا عن ردع إسرائيل أم أنه متواطئ معها بصمته فمنظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش والمقررين الأمميين الخاصين مطالبون اليوم بمواقف أكثر صرامة ووضوحًا لان القانون ليس تهديدًا نظريًا بل قد يصبح واقعًا في أي لحظة خصوصًا في ظل تصاعد التحريض الإعلامي والسياسي ضد الأسرى واستعداد حكومة نتنياهو وبن غفير لتجاوز كل الخطوط الحمراء من أجل تثبيت بقائها على أنقاض القانون الدولي واشلاء الفلسطينيين
بعيدًا عن العجز القانوني الدولي فإن سن مثل هذا القانون قد يفتح الباب لتصعيد خطير في ردود الفعل من جانب فصائل المقاومة الفلسطينية التي ترى في الأسرى أيقونات للنضال والتحرير وان استهدافهم بهذه الطريقة قد يدفعها لإعادة النظر في قواعد الاشتباك والرد بالأدهى من ذلك وأن تزايد الإعدامات قد يدفع بعض الشباب الفلسطيني للذهاب إلى أقصى درجات العمليات الاستشهادية طالما أن النتيجة واحدة الموت وفي هذه الحالة تكون إسرائيل قد ساهمت بنفسها في خلق بيئة موت وفوضى لا يمكن السيطرة عليها لاحقًا وتدفع ثمنها اولا
ختاما : القانون في جوهره لا يسعى إلى معاقبة شخص ارتكب عملية انتحارية بل إلى إيصال رسالة عامة مفادها أن من يقاوم الاحتلال سيقتل حتى لو سلّم نفسه وهذا تهديد مباشر لكل فلسطيني يرى في المقاومة خيارًا مشروعًا وإسرائيل هنا تخطئ اكثر وان مشروع القانون الجديد إن تم تمريره وتطبيقه لن يكون مجرد بند في كتاب التشريع بل إعلان عن دخول إسرائيل في مرحلة أكثر ظلامية يتحول معها الاحتلال إلى منظومة شرعنة للقتل باسم القانون لا تختلف كثيرًا عن أسوأ الأنظمة الديكتاتورية التي عرفها التاريخ لكن في المقابل ان كل نظام قمعي يولّد مقاومة وكل محاولة لإخضاع شعب تخلق حالة وعي أعلى وما يبدو اليوم كتشريع دموي قد يصبح غدًا وثيقة إدانة تاريخية ضد من وضعوا حبر الدم على كراسات القوانين وحبال المشانق
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]