المرأة بين صناعة الذات وصناعة التطبيقات


رم -

د. لينا جزراوي

لم يعد تأثير وسائل التواصل الاجتماعي محصورًا في تبادل الأفكار أو التسلية اليومية، بل امتد ليصبح جزءًا عميقًا من تشكيل صورة الإنسان عن نفسه، بل وبناء ثقته الذاتية. لقد تحول إرضاء السوشال ميديا إلى غاية لا تتحقق، معيارها عدد الإعجابات والتعليقات والمشاهدات، في معادلة تجعل القبول الذاتي مرهونًا بقبول الآخرين الافتراضيين.

وفي هذا السياق المربك، نقلت إحدى الفضائيات خبرًا صادمًا عن انتشار عمليات تقصير القامة بين النساء حول العالم، والسبب المعلن هو الحصول على حبيب. يقوم هذا المنطق على فكرة أن الرجل يفضل المرأة القصيرة لأنها تجعله يشعر بالسلطة والهيمنة، وأنها كلما كانت أقصر، بدت أضعف وأكثر حاجة للحماية والرعاية. مشهد يشيع فيه وهم السيطرة الذكورية على حساب حياة امرأة قد تعرض نفسها للخطر الجسدي لمجرد القبول في علاقة عاطفية!

كيف يمكن قراءة هذه الظاهرة؟
هل هي مجرد تجلٍّ جديد لعلاقة الخضوع والهيمنة بين الجنسين؟ أم انعكاس لمعايير الحداثة وأدواتها التي تصنع نموذجًا موحدًا للمرأة المثالية؟ أم أنها جزء من لعبة السوق الرأسمالية التي تسوّق الجسد بوصفه سلعة، وتروج عمليات التجميل بوصفها حلولًا سحرية للقبول الاجتماعي؟

إن السؤال الأعمق هنا: لماذا تسعى امرأة إلى التضحية بصحتها واحتمالية فقدان حياتها لأجل قبول رجل ما؟ وهل نجد في المقابل رجالًا يضحون بأجسادهم وحياتهم لمجرد الحصول على رضا امرأة؟

هذا يقودنا إلى استحضار ما قالته الفيلسوفة الفرنسية سيمون دي بوفوار: “نحن نأتي إلى هذا العالم إناثًا، والمجتمع يجعل منا نساءً”. قصدت بوفوار أن المرأة لا تُعرَّف بيولوجيًا فحسب، بل تُصنع اجتماعيًا وفق قيم وثقافات تحدد شكلها ودورها. ولو عادت بوفوار اليوم، لكانت أشارت بلا شك إلى وسائل التواصل الاجتماعي كأخطر أدوات صناعة المرأة الحديثة. فالمرأة المعاصرة تُصاغ صورتها اليوم عبر تطبيقات رقمية تقدّم نموذجًا عالميًا واحدًا للأنوثة المثالية وفق معايير السوق الرأسمالية، نموذج يتسلل إلى كل بيت وكل شاشة، ليصير معيارًا لا مفر من مقارنته.

النتيجة أن نساء كثيرات يجدن أنفسهن في صراع مرير مع هذا “النموذج الافتراضي”، بعضهن يقتربن منه بعمليات تجميل جراحية، وبعضهن يعانين من الإحباط والاكتئاب حين يكتشفن أن بلوغ المثالية المفروضة ضرب من المستحيل.

السؤال المحوري اليوم: كيف يمكن للمرأة العربية أن تتجاوز هذه الفخاخ؟
الجواب يكمن في إعادة الاعتبار إلى العقل والثقافة كقوة تأسيسية للذات. فالثقة بالنفس لا تُستمد من عدد الإعجابات أو تقليد صورة مفروضة، بل من تنمية الوعي، وتغذية الفكر، والانفتاح على قيم المساواة الإنسانية الحقيقية. الجمال الخارجي يزول أو يتبدل، أما جمال العقل والروح والمعرفة فيبقى ويصنع الفارق الحقيقي.

إن تحرير المرأة اليوم لا يكون من خلال “تحقيق النموذج المثالي” الذي تصوغه أدوات السوق والإعلام، بل من خلال مقاومة هذه النماذج الجاهزة، وتأكيد أن قيمة الإنسان ــ رجلًا كان أم امرأة ــ لا تختزل في الطول ولا الشكل ولا الجسد، بل في العقل والفكر والقدرة على المشاركة في صناعة حياة أكثر إنسانية وعدلاً

إن أخطر ما تفعله السوشال ميديا اليوم ليس فقط في تسويق صورة واحدة للمرأة، بل في جعل هذه الصورة معيارًا وحيدًا للقبول والحب والنجاح. وهذا ما يضع النساء في دوامة لا تنتهي من المقارنة والسعي المحموم وراء نموذج مستحيل التحقيق. ولعل التحدي الحقيقي يكمن في إعادة الاعتبار إلى قيمة العقل والمعرفة والوعي، بوصفها الطريق الأضمن لبناء ثقة ذاتية راسخة لا تهزها صور افتراضية ولا معايير استهلاكية عابرة. فالمجتمع لا ينهض بامرأة مقولبة وفق إعلانات السوق، بل بامرأة حرة، واعية، واثقة من ذاتها، تُدرك أن إنسانيتها تتجاوز حدود الجسد إلى آفاق الفكر والروح

رئيسة الجمعية الفلسفية الأردنية




عدد المشاهدات : (4353)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :