رم - مهدي مبارك عبد الله
بإصرار لا يتزعزع وعزيمة لا تلين وثبات على المبدأ والحق ورغم إدراكها لعظمة المخاطر وصعوبة التحديات وصلافة الطغاة المحتلين وحالة عدم اليقين حول مصيرها شاركت الناشطة السويدية في مجال التغير المناخي ( غريتا إيرنمان تونبرج ) 22عام برفقة فريق من المتطوعين الدوليين السلميين من جنسيات متعددة ( فرنسيين وألمان وبرازيليين واتراك وسويديين وإسبان وهولنديين ) يصل عددهم الى 12 ناشطً وصحفي بينهم النائبة الفرنسية من أصل فلسطيني في البرلمان الأوروبي ( ريما حسن ) في رحلة بحرية تحفها اقصى المخاطر على متن سفينة مادلين التابعة لتحالف أسطول الحرية الذي بدأ عمله عام 2010 بعدما ابحرت من ميناء كاتانيا بجزيرة صقلية جنوبي إيطاليا في 1 حزيران الجاري متوجهة عبر المياه الدولية في البحر الأبيض المتوسط الى قطاع غزة
السفينة مادلين حملت في احشاءها بعض من المساعدات الإنسانية ( غذاء ودواء ومياه وحليب اطفال ودقيق وارز وحفاظات ومستلزمات الطبية ومعدات تحلية للمياه وأطراف صناعية للأطفال وغيرها ) مرسلة لأهالي غزة في محاولة جادة لكسر الحصار المفروض عليهم وتوجيه رسالة انسانية برفض سياسة التجويع الممنهج لأكثر من مليوني انسان وادانة الإبادة الجماعية والتضامن مع أهل القطاع المهددين بالموت جوعا ومرضا وقصفا تحت سمع وبصر العالم العنصري الصامت عما يحدث من انتهاكات فظيعة في قطاع غزة والتي أدت إلى مقتل واصابة مئات الآلاف من المواطنين الابرياء جلهم من الاطفال
ادارة تحالف قافلة الحرية وضمن محاولاته المتواصلة لكسر الحصار الاسرائيلي المفروض على غزة خطط لاستخدام سفينة أكبر لكنها قُصفت مرتين بعد نحو شهر من تعرض سفينة الضمير التابعة أيضًا للتحالف لهجوم بطائرة مسيرة قبالة سواحل مالطا ما ألحق بها أضرار جسيمة من قبل القوات الاسرائيلية ما اضطروا لاستخدام سفينة مادلين الاصغر حجم وهي السفينة الـ36 ضمن تحالف أسطول الحرية الذي يهدف إلى كسر الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة منذ عام 2007 وقد سميت السفينة على اسم مادلين كُلاب وهي أول فتاة فلسطينية تعمل في صيد الأسماك في غزة منذ عام 2014 حيث بدأت عملها في سن 15 عام على قارب والدها لإعالة أسرتها وسرعان ما أصبحت معروفة بين الصيادين في القطاع وقد دمرت بحرية الاحتلال قوارب مادلين وزوجها إلى جانب مستودع كانا يستخدمانه لتخزين أدوات الصيد كما فقدت والدها ومصدر رزقها الوحيد بعد استئناف الحرب الإسرائيلية في آذار الماضي 2025
كالعادة والمتوقع قامت القوات البحرية الإسرائيلية صباحا وبواسطة ستة زوارق حربية بمحاصرة واقتحام سفينة مادلين في عرض البحر وداخل المياه الاقليمية الدولية وعلى بعد 100 ميل بحري من غزة وتم اقتيادها إلى ميناء أسدود بعدما القت طائرة مسيرة إسرائيلية سائل أبيض غير معروف فوق السفينة مكنهم من اعتقال طاقمها وجميع ركابها واستجوابهم والتحقيق معهم بتهمة محاولة الدخول بطريقة غير شرعية إلى إسرائيل
العملية الإسرائيلية وصفت بانها قرصنة عصابات رسمية واعتبرت جريمة حرب مكتملة الأركان وانتهاك صارخ لكل القوانين والحقوق الدولية باختطاف الناشطة السويدية غريتا تونبرغ ورفاقها واحتجازهم في احد السجون الاسرائيلية في ظروف فوضوية وغير مستقرة وقد طالب رئيس اللجنة الدولية لكسر الحصار عن غزة المجتمع الدولي وخصوصًا بريطانيا وفرنسا بالتدخل من أجل ضمان سلامة طاقم السفينة والمشاركين فيها حيث تعيد هذه الواقعة إلى الأذهان حادثة هجوم الاحتلال الإسرائيلي على سفينة ما في مرمرة عام 2010 والذي أسفر عن مقتل عشرة نشطاء أتراك وأثار حينها إدانات دولية واسعة اضطرت إسرائيل جينها الى الاعتذار لتركيا ودفع تعويضات مالية لأهالي الضحايا
بعد اجراءات امنية عاجلة تم ترحيل غريتا وثلاثة نشطاء من رفاقها بطائرة الى باريس ثم ستوكهولم بينما لا زال يواجه ثمانية آخرون جلسات محاكمة فيما يبدو أن ترحيل غريتا بالطائرة كان (عقاب إضافي ) وجهته تل أبيب إليها وهي التي تمتنع عن ركوب الطائرات بسبب اعتراضها على الانبعاثات الكربونية الصادرة عنها والتي تلوث المناخ وبسؤالها عما تعتزم فعله بعد ترحيلها قالت لن نتوقف وسنستمر في بذل قصارى جهدنا لأن هذا الوعد الذي قطعناه على انفسنا للفلسطينيين بالاستمرار في المحاولات لوضع حد للجرائم الصهيونية الدولية وانها قررت العودة الى بلادها لأنها لا ترغب البقاء في السجون الإسرائيلية
الرئيس الأمريكي الاهوج دونالد ترامب سبق له ان وصف الناشطة غريتا بأنها شابة غاضبة وقد سخر من غضبها ودعاها إلى الالتحاق بدورة لإدارة الغضب حيث ردت عليه بقولها أعتقد أن العالم يحتاج إلى نساء أكثر غضبًا للمطالبة بالعدالة مع كل ما يجري الآن في العالم بسببكم وهي اليوم تقف مع غزة دون خوف او تردد وقد فازت بشخصية الأصغر سنا عام 2019 في مجلة التايم الامريكية كما رشحت ثلاث مرات لجائزة نوبل بسبب قدرتها على تعبئة الملايين عبر العالم دفاعا عن قضيتها
على مدار سنوات متعددة شنت وسائل الإعلام الإسرائيلية حملات شرسة ضد غريتا تونبرغ والتي وصفتها بالمعادية للسامية ولم ينتهي الموقف الإسرائيلي المناهض لها عند حدود الهجوم الإعلامي عليها فحسب بل امتد إلى وزارة التعليم التي اعلنت إزالة أي ذكر لها من مناهج التعليم العام بسبب موقفها الداعم للفلسطينيين في قطاع غزة ولكي لا تكون مصدر إلهام ونموذج يحتذى به الطلاب الإسرائيليين
مع خروج الأنباء عن تسيير قافلة كسر الحصار انطلقت آلة الدعاية الإسرائيلية بكل ما لديها من عزم وطاقة لتشويش على تحالف أسطول الحرية واصفة سفينة مادلين بأنها ( يخت سيلف ) وهو ما رددته وسائل الإعلام الغربية المساندة للاحتلال كما ادعت وزارة الخارجية الإسرائيلية بلا خجل ان هناك طرق قانونية مفتوحة لإيصال المساعدات إلى قطاع غزة وهي التي تعرقلها بشكل ممنهج وبأساليب مختلفة منها تعمدها عدم فتح المزيد من الطرق البرية وعدم منح الوقت الكافي للعمل وفرض شروط فحص مفرطة ومنع شحنات الغذاء والدواء والمستلزمات الطبية والصحية مع تجاهل وسائل الإعلام الغربية وخداع الجماهير بشأن نوايا إسرائيل وسلوكها الإجرامي
منذ اللحظات الاولى لبدء الحرب على غزة في أكتوبر 2023 ظهرت غريتا المولودة في الثالث من كانون الثاني 2003 في العاصمة السويدية ستوكهولم لأب ممثل وأم مغنية أوبرا في عدة فعاليات ضد استمرار الحرب على غزة حيث بدت في عدة صور وهي تحمل لافتات كبيرة كتب عليها تضامنوا مع غزة وفلسطين حرة واسقطوا الصهيونية وأوقفوا المحرقة وهذه اليهودية تقف ضد شعب فلسطين وأن الشعب الفلسطيني يستحق نفس الحقوق والحرية والكرامة التي تتمتع بها شعوب العالم وأنه بدلا من السعي إلى السلام يجب السعي إلى العدالة وقد دعت مناصريها الى التضامن مع الفلسطينيين بدلا من الإضراب من أجل التحرك لمواجهة تغير المناخ ومعالجة قضايا البيئة وقالت يجب على العالم أن يعلو صوته ويدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة وتحقيق العدالة والحرية للفلسطينيين وكل المدنيين المتضررين
في اجواء تصاعد التحديات البيئية والأزمات السياسية تظهر الناشطة السويدية غريتا ثونبيري كرمز للشجاعة والنضال من أجل المناخ والقضايا الإنسانية خاصة بعدما تحولت من ناشطة بيئية إلى قائدة عالمية ملهمة في النضال من أجل مستقبل أكثر استدامة وعدالة في مجالات البيئة وحقوق الإنسان وقدرتها الفائقة على مواجهتها التحديات والانتقادات وقد اشتهرت بتنظيم الاضرابات وخطاباتها الحماسية الموجهة لقادة العالم حيث القت في العام 2019 كلمة أمام قمة الأمم المتحدة للعمل المناخي في نيويورك وقد فازت بجائزة رايت لايفليهود المعروفة باسم جائزة نوبل البديلة وجائزة سفير الضمير لمنظمة العفو الدولية كما أدرجتها مجلة فوربس ضمن أقوى 100 امرأة في العالم وفي العام 2022 أصدرت تونبرغ كتاب باسم المناخ يضم مقالات لمائة عالم وكاتب وناشط حول كيفية مكافحة أزمة المناخ
لقد لعبت الناشطة غريتا دور بارز في تسليط الضوء على القضايا الإنسانية عامة والقضية الفلسطينية خاصة بعد اتهامها العلني لإسرائيل بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية في غزة ومطالبتها بإنهاء الحرب والعنف ودعمها لحقوق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال ورفضها للتعاون العسكري بين السويد وشركات الأسلحة الإسرائيلية كما تعتبر أن النشاط البيئي والدفاع عن حقوق الإنسان هما جانبان مترابطان في الكفاح من أجل مستقبل أفضل وعالم أكثر عدل مع ضرورة العمل من أجل التغيير الإيجابي لواقع قطاع غزة الذي يعاني وضعا إنسانيا كارثيا منذ اندلاع الحرب حيث تضيق مساحة غزة على الفلسطينيين وسط زيادة التوسع الإسرائيلي
ان الشجاعة العظيمة التي ابدتها غريتا تونبرغ مع رفاقها نشطاء قافلة كسر الحصار لا يمكن مقارنتها بتواطؤ بعض الانظمة والحكومات العربية والغربية بشأن حرب الإبادة المستمرة في قطاع غزة ومحاولتهم الرمزية لكسر الحصار المفروض على المساعدات وزيادة الوعي بأزمة ومعاناة المجوعين التي تجاوزت كل القوانين والمواثيق والأعراف الدولية وبالإضافة الى التحذير المستمر من حصول مجاعة وشيكة والحاجة العاجلة لتوصيل الغذاء وحليب الأطفال والإمدادات الطبية للمحاصرين
كما صرحت غريتا في بيان لها ان خطة واشنطن وتل أبيب من خلال مؤسسة غزة الانسانية لتوزيع المساعدات تسعى الى جعل حياة سكان غزة بائسة دون إثارة أي غضب عالمي من خلال تجويع جماعي وحصد الأرواح بدلا من إنقاذها حيث يعاني نصف سكان غزة المحاصرين من انعدام الأمن الغذائي الحاد وعناصر المؤسسة الامنية وقوات الحيش الاسرائيلي حتى الان تسببوا في مقتل العشرات واصابة المئات منهم
لم تصل مادلين وابطالها إلى شواطئ غزة إلا أنها فضحت الفاحشة والمجزرة التي يشعر المواطنون الغربيون بالقرف منها لترفع معنوياتهم بالغضب والسخط للتحرك الشعبي العارم لإجبار حكوماتهم للتخلي عن تواطؤهم مع المتوحشين الصهاينة وهذا ما سيجعل إسرائيل تخسر جولتها النهاية بلا ادنى شك
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]