رم - أ.د. علي النحلة حياصات
في الثقافة الشعبية العربية، كثيرًا ما يُقال إن "الهوشة" تحسم أحيانًا من الكفّ الأول، ليس لأنه الأعنف، بل لأنه يضرب في عمق التوازن النفسي للخصم. بهذا المعنى الرمزي، جاءت الضربة الإسرائيلية ليلة الجمعة الماضية على إيران، والتي استهدفت مواقع حساسة وقيادات من الصف الأول في الحرس الثوري وفيلق القدس، كـ"كف استراتيجي" هزّ هيبة النظام الإيراني، وأربك مراكز صنع القرار في طهران، بل وخلخل معادلة الردع التي حكمت علاقة الطرفين لعقود.
ورغم أن الضربة كانت متوقعة من حيث طبيعتها، فإن مباغتتها الزمنية، ودقتها الاستخباراتية، جعلت منها حدثًا غير مسبوق في سياق المواجهة المفتوحة بين الطرفين. لقد ضربت إسرائيل قلب المشروع الإيراني، في لحظة يعاني فيها من أزمات اقتصادية متفاقمة، وغليان شعبي داخلي، وتراجع واضح في النفوذ الإقليمي بعد سلسلة من الانتكاسات في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
ما يُقلق طهران أكثر من حجم الخسارة العسكرية، هو الصدى السياسي والنفسي للضربة، وغياب ردّ فعلي يوازي حجم الاستهداف. لقد بدأت تتآكل أمام أعين الجميع صورة "اليد العليا" التي طالما حاول النظام الإيراني ترسيخها في أذهان مؤيديه وخصومه على حد سواء. في المقابل، تعززت صورة إسرائيل كقوة قادرة على الفعل المباشر في عمق أراضي الخصم، دون أن تواجه بردّ رادع، ما يطرح تساؤلات جوهرية حول مدى تماسك المؤسسة الأمنية والعسكرية الإيرانية، وحدود قدرتها على الرد الحقيقي وليس الرمزي.
وفي قلب هذا التصعيد المباشر، تقف الدول العربية على حافة مفترق معقّد. فمن جهة، تمثّل إسرائيل خطرًا تاريخيًا واضحًا في وعي الشارع العربي، لما تحمله من مشروع احتلالي واستيطاني في فلسطين، وطموح دائم في بسط النفوذ الأمني والعسكري على محيطها الجغرافي، وفق تصوراتها الخاصة لأمنها القومي. لكن من جهة أخرى، فإن المشروع الإيراني التوسعي لا يقل خطورة، وربما يفوق في بعض أبعاده التهديد الإسرائيلي، لا سيما أنه يملك أدوات تأثير ثقافي ومذهبي واختراقات داخلية في عدد من الدول العربية.
بينما تفتقر إسرائيل لأدوات النفوذ الشعبي داخل المجتمعات العربية، نجد أن إيران تمارس شكلًا من أشكال السيطرة "الناعمة الصلبة"، من خلال الحركات الموالية لها، والولاءات العابرة للدول، والتغلغل في البُنى الاجتماعية والسياسية المحلية. إنها ليست مجرد دولة تسعى للتوسع العسكري، بل مشروع يتسلل إلى نسيج المنطقة الداخلي ويعيد تشكيل موازين القوة من الداخل، وهو ما يشكّل التهديد الأكبر للدول العربية التي تواجه هشاشة مجتمعية وسياسية أصلاً.
وفي ظل هذا التداخل المركّب، يبدو أن المنطقة تتجه نحو صراع لم يعد يُقاس فقط بموازين النفوذ التقليدية، بل بمسألة البقاء والشرعية والاستقرار. فالنظام الإيراني الذي تلقّى "الضربة الأولى" دون ردّ حاسم، بات مكشوفًا في عمقه، وإن لم ينجح في إعادة ترميم صورته وهيبته، فقد يدخل في مسار تفكك بطيء، يتغذّى على الانكشاف الأمني، والانقسامات الداخلية، والضغوط الإقليمية والدولية المتزايدة.
أما بالنسبة للعرب، فالتحدي اليوم لا يكمن في الانحياز لهذا الطرف أو ذاك، بل في إدراك أن كلاً من المشروعين ,الإيراني والإسرائيلي , يحمل تهديدات حقيقية للسيادة والهوية والاستقرار. المطلوب ليس الاكتفاء بالمراقبة أو الاستثمار المؤقت في توازن القوى، بل بناء مشروع عربي مستقل، قادر على تحصين الداخل، وصدّ الاختراقات، ومواجهة الصراعات لا كأدوات فيها، بل كفاعلين مستقلين يمتلكون رؤيتهم وأدواتهم.
قد لا تكون هذه الضربة بداية النهاية لإيران، لكنها بالتأكيد نهاية مرحلة من الجمود، وبداية مرحلة جديدة لا تشبه ما قبلها، لا في طبيعة الصراع، ولا في موازين القوى، ولا في خيارات المنطقة التي أصبحت أكثر هشاشة وأقل تساهلًا مع الوهم.