رم - مقالات
احمد حسن الزعبي
قبل ربع قرن كان التلفزيون السوري يبث قبل الغروب برامج تقوية للصف الرابع الابتدائي ، ولأن مناهجنا موحّدة..كنت اجلس قبالة التلفاز أفرد كتبي ودفاتري وحواسي ،وأتابع كيف يقرأ أبناء الشام درسي الذي أخذته اليوم في مدرسة محي الدين بن عربي..المعلّمة أنيقة ،وجهها جميل ، وصوتها آسر، كما أن الطلاب مؤدبون وأنيقون إلى درجة كانت تثير شطارتهم ووسامتهم فيّ الغيرة والحسد..نعم الغيرة والحسد!! فالوضع عندي مختلف تماما ،غرفتنا الصفية عبارة عن مخزن في»التسوية»، واللمبة الوحيدة «ملذوعة» ، ومعلّمي عصبي و نكد لأن «زوجته زعلانة طوال الفصل الأول في بيت أهلها»..أما طلاب صفي فمعظمهم مصابون بــ»أبي دغيم» و بالتالي يقضون حصصهم في الدكانة المجاورة يبتاعون»حلاوة الكريزة» .
أكثر ما كان يعجبني بتلك المعلمة أنها لم تكن تمل أو تفتر طوال الساعة وهي تشرح للأولاد درس اللغة العربية: « ماذا قال مازن لميسون؟؟.قال مازن لميسون: المدرسة حلوة!!.ماذا قال مازن لميسون يا كريم...فيردد كريم» قال مازن لميسون: المدرسة حلوة»..أحسنت ،ثم تعيد ماذا قال «مازن لميسون يا الهام؟؟..فتقول الهام بصوت طفولي عذب: قال مازن لميسون..المدرسة حلوة»..أحسنتِ..ماذا قال مازن لميسون يا نزار؟..فيرد نزار باختصار «المدرسة حلوة»!! لا، يجب ان تقول: «قال مازن لميسون المدرسة..حلوة»!!..فيعيد الأخير جوابه كاملاً ليحظى بكلمة أحسنت..ثم تعود وتنتقل الى جملة أخرى وبنفس الهمة والتكرار..
كلما استهلت فضائية عربية موجز أنبائها بأصوات البكاء والنواح فوق رؤوس الجثث تذكّرت معلمتي التلفزيونية تلك، وتذكّرت اللهجة الشامية التي تقطر طمأنينة آنذاك..ترى ماذا حلّ بتلك السيدة المخلصة لدرسها ومهنتها ووطنها؟ هل ما تزال على قيد الحياة..ماذا حل بأبناء صفي..كريم والهام ونزار، هل ما زالوا يرددون الجواب كاملاً كلما سئلوا عن وطنهم؟؟..
كلما طاف المشيعون في ساحات المدن الثائرة بجثة شهيد، ولفوا بها بين الجموع الواقفة، تذكرت أصواتهم التي كانت تلتصق بدفاتري وذاكرتي...
وكلما تذكّرت ان أكثر من الف مدرسة في سوريا أحرقت او دمّرت أو تحوّلت الى معتقل ، وأكثر من مليون طالب يقبعون تحت اغطيتهم في البرد بعيداً عن مدارسهم خوفاً من حزّ الرقاب و جلسات التعذيب ، تذكرت دروس التقوية تلك..وكلما تذكرت ان أصابع الطبشور استحالت اصابع رصاص ،والصفوف ثكنات، والمقاعد وقود تدفئة..والألواح حمالات موتى...نزفت دمعاً حاراً وموجعاً كجرح الشام!!
***
ياه..ما أصعب الموت عندما يزحف برائحته على عطر الذاكرة.