رم - أ.د. علي النحلة حياصات
في المجتمعات الحديثة، تُقاس قوة الدولة لا فقط بمؤسساتها الأمنية والاقتصادية، بل بمدى احترامها لكرامة الفرد ووعيه، ومدى قدرتها على تعزيز حس المواطنة الفاعلة. في العالم العربي، لا يزال جدل بناء الدولة الحديثة يصطدم بتحديات عميقة تتجاوز الفقر أو التسلط، لتصل إلى جذور أكثر خفاءً: توجيه الوعي العام.
تاريخيًا، لم تكن الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي تقوم فقط على القمع، بل اعتمدت بشكل كبير على ما يُعرف بـ"إدارة الاعتقاد الجمعي"، أي تشكيل قناعات لدى الناس بأن الطاعة واجبة، والخروج عن السلطة خروج عن المألوف، وربما حتى عن الدين. وهذا يتجلى في استخدام الدين، أو الانتماءات الفرعية، أو حتى الاعتبارات الأمنية، كوسائل لإنتاج طاعة جماعية تسبق أي نقاش ديمقراطي أو عقلاني.
ورغم ما يبدو من فعالية هذا النهج، إلا أن التجربة أثبتت هشاشته. فالولاءات المصطنعة تنهار سريعًا مع تغيّر مراكز القوة. ما حدث في ليبيا (على سبيل المثال لا الحصر) ، حين تحوّل الهتاف للقذافي في عام 2011 إلى هتاف ضده خلال أسابيع في الساحة الخضراء، يعكس أن الشعوب التي تُقاد بجماعية عاطفية قد تغيّر مواقفها سريعًا دون تغيير حقيقي في الوعي.
أما الدولة الحديثة، فهي تقوم على نقيض هذا التصور. المواطن فيها فرد حر، يُحاسب، يشارك، وينتقد. الشرعية فيها تُبنى على القانون والمؤسسات لا على الولاء الشخصي أو الانتماء الضيق. وهنا، تبرز المواطنة بوصفها الطريق الوحيد نحو بناء مجتمع مستقر، فاعل، ومزدهر.
في الأردن، شكّلت منظومة التحديث السياسي خلال السنوات الأخيرة خطوة مهمة على طريق الإصلاح، حيث شملت مراجعة شاملة لقانوني الانتخاب والأحزاب، بدعم مباشر من الإرادة الملكية الساعية إلى ترسيخ حياة سياسية ديمقراطية تقوم على المشاركة والتمثيل الحقيقي.
لكن الواقع يكشف مفارقة لافتة , فرغم الجهد التشريعي والتنظيمي، فإن مخرجات هذه المنظومة ما زالت محكومة ببُنى تقليدية، حيث تشكّلت معظم الأحزاب الجديدة على أسس عشائرية أو مالية، لا على برامج سياسية أو رؤى وطنية جامعة. هذا النمط يعيد إنتاج منطق "الجماعة" ,ككيان منضبط وموجَّه , بدلًا من ترسيخ ثقافة "المواطن كفرد حر مستقل في اختياره وموقفه. "
ما يحدث، عمليًا، هو تحوّل تدريجي في وظيفة الأحزاب: من كونها أدوات للمنافسة السياسية والتعبير عن الرأي الشعبي، إلى كيانات شبه إدارية تُستخدم لتنظيم المشهد أكثر من تطويره. وهو ما يهدد بتحويل التجربة الديمقراطية إلى مجرّد واجهة شكلية لا تحمل مضمونًا حقيقيًا للتعددية.
الخطورة هنا لا تكمن فقط في فشل بعض الأحزاب في استقطاب الناس، بل في أنها، بصيغتها الحالية، تعمّق الفجوة بين الفرد والدولة. إذ يجد المواطن نفسه أمام أحزاب لا تعبّر عن تطلعاته ولا تمنحه المساحة للمشاركة الفاعلة، بل تُدار بطريقة رأسية من الأعلى إلى الأسفل، مما يُضعف فرص تداول السلطة، ويُعزز منطق التبعية على حساب المشاركة الواعية.
ولذلك، فإن أي مشروع حقيقي لبناء دولة حديثة لا يمكن أن يُختزل في إعادة تشكيل الهياكل فقط، بل لا بد أن يقوم على إعادة تعريف العلاقة بين الفرد والنظام السياسي، بحيث يُعاد الاعتبار للمواطن كفاعل أساسي، لا كمجرد تابع ضمن جماعة أكبر.
في المحصلة، لا تُقاس جدوى التحديث السياسي بعدد الأحزاب المُرخّصة، ولا بعدد النصوص القانونية المعدّلة، بل بمدى قدرة الدولة على نقل المجتمع من منطق التبعية إلى منطق المشاركة، ومن الولاء للجماعة إلى الولاء لفكرة المواطنة الجامعة. فدولة تُدار بجماعات منضبطة أسهل في الإدارة، لكنها أعجز عن التقدّم. أما الدولة التي تراهن على الفرد، وعلى حريته في الاختيار، وقدرته على النقد والمساءلة، فهي وحدها التي تملك فرصة حقيقية لصناعة مستقبل ديمقراطي مستقر.
إن بناء دولة حديثة في الأردن لن يتحقق فقط بإصلاح القوانين، بل بتغيير طريقة التفكير السياسي من أساسها: من عقلية إدارة الجماعة إلى ثقافة تمكين الفرد, ولدولة حديثة لا تُبنى بإدارة