الرَّحمةُ هي فِعلٌ شُجاعٌ ولَطيفٌ في آنٍ مَعًا، يَقومُ على التَّوجُّهِ نَحوَ الألمِ — سواءٌ كانَ أَلَمَنا أو أَلَمَ الآخَرينَ — بانفِتاحٍ، بَدَلًا منَ الهُروبِ مِنهُ أو إنكارِهِ. إنَّها تَعني أن نُواجِهَ المُعاناةَ بوعيٍ، وأن نَرُدَّ عليها بلُطفٍ وحَنانٍ، لا بإنكارٍ أو تَبَلُّدٍ. وعِندما نَتلقَّى الرَّحمةَ من أَحدِهِم، فإنَّنا لا نَتلقَّاها من شَخصٍ يَقِفُ بَعيدًا في مَنطِقةٍ آمِنةٍ يُلقي علينا كَلِماتِ الرِّثاءِ أو اللَّومِ، بل مِمَّن يُخوضُ معنا الوَحلَ، يُمسِكُ بأيْدينا، ويَشعُرُ بما نَشعُرُ بهِ من عَناءٍ. الرَّحمةُ الحقيقيَّةُ لا تَستَعلي، ولا تَتهرَّبُ، بل تَتَساوى في مُستوى الألمِ، وتَخافُ علينا أَكثَرَ مِمَّا تَخافُ منَ العَدوى.
تُعرِّفُ بريني براون التواصلَ بأنَّهُ: تلكَ الطاقةُ الخفيَّةُ التي تنشأُ حينَ يشعرُ البشرُ أنَّهُم مرئيُّون، مسموعون، ومقدَّرون؛ حين يستطيعونَ أنْ يُعطُوا ويتلقَّوا دونَ خوفٍ أو حكمٍ. لكنَّهُ أكثرُ من ذلكَ: إنَّهُ تعبيرٌ عن حاجتِنا الفطريَّةِ للانتماءِ، لشعورٍ بأنَّ وجودَنا ليسَ عبثًا. فالإنسانُ، رغمَ صلابتهِ الظاهرةِ، هشٌّ في جوهرِه؛ يُنهكُهُ التجاهلُ، ويتركُهُ النبذُ معلَّقًا في فضاءٍ باردٍ، متعطِّشًا إلى دفءٍ لا يأتي. وبعضُ العلاقاتِ، حينَ تخلُو منَ الحبِّ، تكونُ أقسى منَ الغيابِ. ففي الحبِّ، أحيانًا، يكونُ الكتمانُ أرحمَ منَ الجهرِ، لأنَّ بعضَ القلوبِ لا تعرفُ كيفَ تعترفُ بالهزيمةِ، ولا كيفَ تتذكَّرُ الحبَّ إلَّا بعدَ أنْ تفقدَهُ.
نحنُ بحاجةٍ للتواصلِ في الأحوالِ العاديَّةِ والشَّدائدِ... والحروبِ.
في روايةِ العندليبِ لكريستين هانا، تنشأُ علاقةٌ متناقضةٌ بينَ فيان، المرأةِ الفرنسيَّةِ، وضابطٍ ألمانيٍّ يُقيمُ قسرًا في منزلِها. وبرغمِ رمزيَّةِ العدوِّ، يمدُّ لها يدَ العونِ: يُحضِرُ الدواءَ لابنتِها، ويُساعدُها في تبنِّي طفلٍ يهوديٍّ. لا تُحبُّهُ، لكنَّها ترى فيهِ إنسانًا يتسلَّلُ من خلفِ الزيِّ العسكريِّ. ذلكَ الخيطُ الدقيقُ منَ التواصلِ، القائمِ على لحظاتٍ منَ الرحمةِ، لا يُلغي فظاعةَ الحربِ، لكنَّهُ يُذكِّرُ بقدرةِ البشرِ على أنْ يظلُّوا بشرًا وسطَ العتمةِ. وفي النِّهايةِ، تُضطرُّ فيان لقتلِه لحمايةِ أختِها، فتغدو العلاقةُ شاهدًا على صراعِ القيمِ: بينَ الواجبِ والخوفِ، وبينَ الشفقةِ والبقاءِ. إنَّهُ مثالٌ نادرٌ على أنَّ الاتصالَ لا يعني التَّبريرَ، بل الاعترافَ بأنَّ المعنَى يُولدُ أحيانًا في المسافةِ المتوترةِ بينَ العدوِّ والإنسانِ.
ولأنَّ التواصلَ لا يُبنى في الرُّشدِ فقط، بل يُغرسُ منذُ الطُّفولةِ، تناولَ علمُ النفسِ التَّطوُّريُّ هذهِ الحاجةَ العميقةَ من خلالِ نظريَّةِ التعلُّقِ، التي طوَّرَها جون بولبي بعدَ دراستِه للأطفالِ المفصولينَ عنْ ذويهم. بيَّنَ بولبي أنَّ نوعيَّةَ العلاقةِ في السنتينِ الأُوليينِ تُشكِّلُ نمطَ التعلُّقِ الذي يحملُهُ الإنسانُ لاحقًا: آمنًا أو غيرَ آمنٍ (قَلِقٍ، انعزاليٍّ، أو مشوَّشٍ). ويؤثِّرُ هذا النَّمطُ في قدرتِه على بناءِ علاقاتٍ صحيَّةٍ، إذْ يرتبطُ التعلُّقُ الآمنُ بالثقةِ والانفتاحِ، بينما ترتبطُ الأنماطُ الأُخرى بالخوفِ منَ الهجرِ أو الانعزالِ أو صعوبةِ التَّعبيرِ عنِ المشاعرِ.
يُخطئُ البعضُ حينَ يظنُّ أنَّ نجاحَهُ يُغنيهِ عنِ الآخرينَ، فينزوي متصوِّرًا أنَّهُ يملكُ اكتفاءً ذاتيًّا، بينما هو في الحقيقةِ يُكرِّسُ نمطَ التعلُّقِ الانعزاليِّ الذي يَحميهِ منَ الألمِ لكنَّهُ يَحرِمُهُ المعنَى. وهي مفارقةُ عصرِنا: نعيشُ في فضاءٍ رقميٍّ مزدحمٍ، نتصوَّرُ أنَّنا على اتصالٍ دائمٍ، لكنَّنا في الواقعِ نؤدِّي أدوارًا افتراضيَّةً، نبحثُ في العُمقِ عن نظرةٍ، عن لمسةٍ، عن حضورٍ حقيقيٍّ. هذا الوهمُ النَّاعمُ بالقربِ يُقصينا عنْ ذواتِنا وعن بعضِنا، حتى نَهوي ـ دونَ وعيٍ ـ في عزلةٍ تُغلِّفُها الشاشاتُ، وننسى أنَّ القلبَ لا يتغذَّى إلَّا من تماسٍّ بشريٍّ يُذكِّرُنا أنَّنا أكثرُ من مجردِ صورٍ.
الخاتمة ليستِ الشجاعةُ والرحمةُ والاتصالُ مجردَ فضائلَ نتمناها، بل هي حاجاتٌ نفسيةٌ وروحيةٌ تمكِّنُ الإنسانَ من العيشِ بامتلاءٍ ومعنى. فحين نتحلّى بالشجاعةِ لنكشفَ ضعفَنا، وبالرحمةِ لنتجاوزَ أحكامَنا، وبالرغبةِ الحقيقيةِ في الاتصالِ بالآخرِ، نعيدُ لأنفسِنا إنسانيّتَها وكرامتَها.
ابدأْ اليومَ، بخطوةٍ صغيرةٍ: لحظةِ صِدقٍ، تصرُّفٍ رحيمٍ، أو حوارٍ حقيقيٍّ. فهذهِ البداياتُ التراكميةُ هي ما يصنعُ الفارقَ.
وكما قال نيتشه: 'مَن يملكُ سببًا يعيشُ لأجلِه، يمكنُه تحمُّلُ أيِّ كيفٍ.' — فلنجعلْ هذهِ القِيَمَ سببًا نستحقُّ أن نعيشَ لأجلِه. سعيد ذياب سليم
الرَّحمةُ هي فِعلٌ شُجاعٌ ولَطيفٌ في آنٍ مَعًا، يَقومُ على التَّوجُّهِ نَحوَ الألمِ — سواءٌ كانَ أَلَمَنا أو أَلَمَ الآخَرينَ — بانفِتاحٍ، بَدَلًا منَ الهُروبِ مِنهُ أو إنكارِهِ. إنَّها تَعني أن نُواجِهَ المُعاناةَ بوعيٍ، وأن نَرُدَّ عليها بلُطفٍ وحَنانٍ، لا بإنكارٍ أو تَبَلُّدٍ. وعِندما نَتلقَّى الرَّحمةَ من أَحدِهِم، فإنَّنا لا نَتلقَّاها من شَخصٍ يَقِفُ بَعيدًا في مَنطِقةٍ آمِنةٍ يُلقي علينا كَلِماتِ الرِّثاءِ أو اللَّومِ، بل مِمَّن يُخوضُ معنا الوَحلَ، يُمسِكُ بأيْدينا، ويَشعُرُ بما نَشعُرُ بهِ من عَناءٍ. الرَّحمةُ الحقيقيَّةُ لا تَستَعلي، ولا تَتهرَّبُ، بل تَتَساوى في مُستوى الألمِ، وتَخافُ علينا أَكثَرَ مِمَّا تَخافُ منَ العَدوى.
تُعرِّفُ بريني براون التواصلَ بأنَّهُ: تلكَ الطاقةُ الخفيَّةُ التي تنشأُ حينَ يشعرُ البشرُ أنَّهُم مرئيُّون، مسموعون، ومقدَّرون؛ حين يستطيعونَ أنْ يُعطُوا ويتلقَّوا دونَ خوفٍ أو حكمٍ. لكنَّهُ أكثرُ من ذلكَ: إنَّهُ تعبيرٌ عن حاجتِنا الفطريَّةِ للانتماءِ، لشعورٍ بأنَّ وجودَنا ليسَ عبثًا. فالإنسانُ، رغمَ صلابتهِ الظاهرةِ، هشٌّ في جوهرِه؛ يُنهكُهُ التجاهلُ، ويتركُهُ النبذُ معلَّقًا في فضاءٍ باردٍ، متعطِّشًا إلى دفءٍ لا يأتي. وبعضُ العلاقاتِ، حينَ تخلُو منَ الحبِّ، تكونُ أقسى منَ الغيابِ. ففي الحبِّ، أحيانًا، يكونُ الكتمانُ أرحمَ منَ الجهرِ، لأنَّ بعضَ القلوبِ لا تعرفُ كيفَ تعترفُ بالهزيمةِ، ولا كيفَ تتذكَّرُ الحبَّ إلَّا بعدَ أنْ تفقدَهُ.
نحنُ بحاجةٍ للتواصلِ في الأحوالِ العاديَّةِ والشَّدائدِ... والحروبِ.
في روايةِ العندليبِ لكريستين هانا، تنشأُ علاقةٌ متناقضةٌ بينَ فيان، المرأةِ الفرنسيَّةِ، وضابطٍ ألمانيٍّ يُقيمُ قسرًا في منزلِها. وبرغمِ رمزيَّةِ العدوِّ، يمدُّ لها يدَ العونِ: يُحضِرُ الدواءَ لابنتِها، ويُساعدُها في تبنِّي طفلٍ يهوديٍّ. لا تُحبُّهُ، لكنَّها ترى فيهِ إنسانًا يتسلَّلُ من خلفِ الزيِّ العسكريِّ. ذلكَ الخيطُ الدقيقُ منَ التواصلِ، القائمِ على لحظاتٍ منَ الرحمةِ، لا يُلغي فظاعةَ الحربِ، لكنَّهُ يُذكِّرُ بقدرةِ البشرِ على أنْ يظلُّوا بشرًا وسطَ العتمةِ. وفي النِّهايةِ، تُضطرُّ فيان لقتلِه لحمايةِ أختِها، فتغدو العلاقةُ شاهدًا على صراعِ القيمِ: بينَ الواجبِ والخوفِ، وبينَ الشفقةِ والبقاءِ. إنَّهُ مثالٌ نادرٌ على أنَّ الاتصالَ لا يعني التَّبريرَ، بل الاعترافَ بأنَّ المعنَى يُولدُ أحيانًا في المسافةِ المتوترةِ بينَ العدوِّ والإنسانِ.
ولأنَّ التواصلَ لا يُبنى في الرُّشدِ فقط، بل يُغرسُ منذُ الطُّفولةِ، تناولَ علمُ النفسِ التَّطوُّريُّ هذهِ الحاجةَ العميقةَ من خلالِ نظريَّةِ التعلُّقِ، التي طوَّرَها جون بولبي بعدَ دراستِه للأطفالِ المفصولينَ عنْ ذويهم. بيَّنَ بولبي أنَّ نوعيَّةَ العلاقةِ في السنتينِ الأُوليينِ تُشكِّلُ نمطَ التعلُّقِ الذي يحملُهُ الإنسانُ لاحقًا: آمنًا أو غيرَ آمنٍ (قَلِقٍ، انعزاليٍّ، أو مشوَّشٍ). ويؤثِّرُ هذا النَّمطُ في قدرتِه على بناءِ علاقاتٍ صحيَّةٍ، إذْ يرتبطُ التعلُّقُ الآمنُ بالثقةِ والانفتاحِ، بينما ترتبطُ الأنماطُ الأُخرى بالخوفِ منَ الهجرِ أو الانعزالِ أو صعوبةِ التَّعبيرِ عنِ المشاعرِ.
يُخطئُ البعضُ حينَ يظنُّ أنَّ نجاحَهُ يُغنيهِ عنِ الآخرينَ، فينزوي متصوِّرًا أنَّهُ يملكُ اكتفاءً ذاتيًّا، بينما هو في الحقيقةِ يُكرِّسُ نمطَ التعلُّقِ الانعزاليِّ الذي يَحميهِ منَ الألمِ لكنَّهُ يَحرِمُهُ المعنَى. وهي مفارقةُ عصرِنا: نعيشُ في فضاءٍ رقميٍّ مزدحمٍ، نتصوَّرُ أنَّنا على اتصالٍ دائمٍ، لكنَّنا في الواقعِ نؤدِّي أدوارًا افتراضيَّةً، نبحثُ في العُمقِ عن نظرةٍ، عن لمسةٍ، عن حضورٍ حقيقيٍّ. هذا الوهمُ النَّاعمُ بالقربِ يُقصينا عنْ ذواتِنا وعن بعضِنا، حتى نَهوي ـ دونَ وعيٍ ـ في عزلةٍ تُغلِّفُها الشاشاتُ، وننسى أنَّ القلبَ لا يتغذَّى إلَّا من تماسٍّ بشريٍّ يُذكِّرُنا أنَّنا أكثرُ من مجردِ صورٍ.
الخاتمة ليستِ الشجاعةُ والرحمةُ والاتصالُ مجردَ فضائلَ نتمناها، بل هي حاجاتٌ نفسيةٌ وروحيةٌ تمكِّنُ الإنسانَ من العيشِ بامتلاءٍ ومعنى. فحين نتحلّى بالشجاعةِ لنكشفَ ضعفَنا، وبالرحمةِ لنتجاوزَ أحكامَنا، وبالرغبةِ الحقيقيةِ في الاتصالِ بالآخرِ، نعيدُ لأنفسِنا إنسانيّتَها وكرامتَها.
ابدأْ اليومَ، بخطوةٍ صغيرةٍ: لحظةِ صِدقٍ، تصرُّفٍ رحيمٍ، أو حوارٍ حقيقيٍّ. فهذهِ البداياتُ التراكميةُ هي ما يصنعُ الفارقَ.
وكما قال نيتشه: 'مَن يملكُ سببًا يعيشُ لأجلِه، يمكنُه تحمُّلُ أيِّ كيفٍ.' — فلنجعلْ هذهِ القِيَمَ سببًا نستحقُّ أن نعيشَ لأجلِه. سعيد ذياب سليم
الرَّحمةُ هي فِعلٌ شُجاعٌ ولَطيفٌ في آنٍ مَعًا، يَقومُ على التَّوجُّهِ نَحوَ الألمِ — سواءٌ كانَ أَلَمَنا أو أَلَمَ الآخَرينَ — بانفِتاحٍ، بَدَلًا منَ الهُروبِ مِنهُ أو إنكارِهِ. إنَّها تَعني أن نُواجِهَ المُعاناةَ بوعيٍ، وأن نَرُدَّ عليها بلُطفٍ وحَنانٍ، لا بإنكارٍ أو تَبَلُّدٍ. وعِندما نَتلقَّى الرَّحمةَ من أَحدِهِم، فإنَّنا لا نَتلقَّاها من شَخصٍ يَقِفُ بَعيدًا في مَنطِقةٍ آمِنةٍ يُلقي علينا كَلِماتِ الرِّثاءِ أو اللَّومِ، بل مِمَّن يُخوضُ معنا الوَحلَ، يُمسِكُ بأيْدينا، ويَشعُرُ بما نَشعُرُ بهِ من عَناءٍ. الرَّحمةُ الحقيقيَّةُ لا تَستَعلي، ولا تَتهرَّبُ، بل تَتَساوى في مُستوى الألمِ، وتَخافُ علينا أَكثَرَ مِمَّا تَخافُ منَ العَدوى.
تُعرِّفُ بريني براون التواصلَ بأنَّهُ: تلكَ الطاقةُ الخفيَّةُ التي تنشأُ حينَ يشعرُ البشرُ أنَّهُم مرئيُّون، مسموعون، ومقدَّرون؛ حين يستطيعونَ أنْ يُعطُوا ويتلقَّوا دونَ خوفٍ أو حكمٍ. لكنَّهُ أكثرُ من ذلكَ: إنَّهُ تعبيرٌ عن حاجتِنا الفطريَّةِ للانتماءِ، لشعورٍ بأنَّ وجودَنا ليسَ عبثًا. فالإنسانُ، رغمَ صلابتهِ الظاهرةِ، هشٌّ في جوهرِه؛ يُنهكُهُ التجاهلُ، ويتركُهُ النبذُ معلَّقًا في فضاءٍ باردٍ، متعطِّشًا إلى دفءٍ لا يأتي. وبعضُ العلاقاتِ، حينَ تخلُو منَ الحبِّ، تكونُ أقسى منَ الغيابِ. ففي الحبِّ، أحيانًا، يكونُ الكتمانُ أرحمَ منَ الجهرِ، لأنَّ بعضَ القلوبِ لا تعرفُ كيفَ تعترفُ بالهزيمةِ، ولا كيفَ تتذكَّرُ الحبَّ إلَّا بعدَ أنْ تفقدَهُ.
نحنُ بحاجةٍ للتواصلِ في الأحوالِ العاديَّةِ والشَّدائدِ... والحروبِ.
في روايةِ العندليبِ لكريستين هانا، تنشأُ علاقةٌ متناقضةٌ بينَ فيان، المرأةِ الفرنسيَّةِ، وضابطٍ ألمانيٍّ يُقيمُ قسرًا في منزلِها. وبرغمِ رمزيَّةِ العدوِّ، يمدُّ لها يدَ العونِ: يُحضِرُ الدواءَ لابنتِها، ويُساعدُها في تبنِّي طفلٍ يهوديٍّ. لا تُحبُّهُ، لكنَّها ترى فيهِ إنسانًا يتسلَّلُ من خلفِ الزيِّ العسكريِّ. ذلكَ الخيطُ الدقيقُ منَ التواصلِ، القائمِ على لحظاتٍ منَ الرحمةِ، لا يُلغي فظاعةَ الحربِ، لكنَّهُ يُذكِّرُ بقدرةِ البشرِ على أنْ يظلُّوا بشرًا وسطَ العتمةِ. وفي النِّهايةِ، تُضطرُّ فيان لقتلِه لحمايةِ أختِها، فتغدو العلاقةُ شاهدًا على صراعِ القيمِ: بينَ الواجبِ والخوفِ، وبينَ الشفقةِ والبقاءِ. إنَّهُ مثالٌ نادرٌ على أنَّ الاتصالَ لا يعني التَّبريرَ، بل الاعترافَ بأنَّ المعنَى يُولدُ أحيانًا في المسافةِ المتوترةِ بينَ العدوِّ والإنسانِ.
ولأنَّ التواصلَ لا يُبنى في الرُّشدِ فقط، بل يُغرسُ منذُ الطُّفولةِ، تناولَ علمُ النفسِ التَّطوُّريُّ هذهِ الحاجةَ العميقةَ من خلالِ نظريَّةِ التعلُّقِ، التي طوَّرَها جون بولبي بعدَ دراستِه للأطفالِ المفصولينَ عنْ ذويهم. بيَّنَ بولبي أنَّ نوعيَّةَ العلاقةِ في السنتينِ الأُوليينِ تُشكِّلُ نمطَ التعلُّقِ الذي يحملُهُ الإنسانُ لاحقًا: آمنًا أو غيرَ آمنٍ (قَلِقٍ، انعزاليٍّ، أو مشوَّشٍ). ويؤثِّرُ هذا النَّمطُ في قدرتِه على بناءِ علاقاتٍ صحيَّةٍ، إذْ يرتبطُ التعلُّقُ الآمنُ بالثقةِ والانفتاحِ، بينما ترتبطُ الأنماطُ الأُخرى بالخوفِ منَ الهجرِ أو الانعزالِ أو صعوبةِ التَّعبيرِ عنِ المشاعرِ.
يُخطئُ البعضُ حينَ يظنُّ أنَّ نجاحَهُ يُغنيهِ عنِ الآخرينَ، فينزوي متصوِّرًا أنَّهُ يملكُ اكتفاءً ذاتيًّا، بينما هو في الحقيقةِ يُكرِّسُ نمطَ التعلُّقِ الانعزاليِّ الذي يَحميهِ منَ الألمِ لكنَّهُ يَحرِمُهُ المعنَى. وهي مفارقةُ عصرِنا: نعيشُ في فضاءٍ رقميٍّ مزدحمٍ، نتصوَّرُ أنَّنا على اتصالٍ دائمٍ، لكنَّنا في الواقعِ نؤدِّي أدوارًا افتراضيَّةً، نبحثُ في العُمقِ عن نظرةٍ، عن لمسةٍ، عن حضورٍ حقيقيٍّ. هذا الوهمُ النَّاعمُ بالقربِ يُقصينا عنْ ذواتِنا وعن بعضِنا، حتى نَهوي ـ دونَ وعيٍ ـ في عزلةٍ تُغلِّفُها الشاشاتُ، وننسى أنَّ القلبَ لا يتغذَّى إلَّا من تماسٍّ بشريٍّ يُذكِّرُنا أنَّنا أكثرُ من مجردِ صورٍ.
الخاتمة ليستِ الشجاعةُ والرحمةُ والاتصالُ مجردَ فضائلَ نتمناها، بل هي حاجاتٌ نفسيةٌ وروحيةٌ تمكِّنُ الإنسانَ من العيشِ بامتلاءٍ ومعنى. فحين نتحلّى بالشجاعةِ لنكشفَ ضعفَنا، وبالرحمةِ لنتجاوزَ أحكامَنا، وبالرغبةِ الحقيقيةِ في الاتصالِ بالآخرِ، نعيدُ لأنفسِنا إنسانيّتَها وكرامتَها.
ابدأْ اليومَ، بخطوةٍ صغيرةٍ: لحظةِ صِدقٍ، تصرُّفٍ رحيمٍ، أو حوارٍ حقيقيٍّ. فهذهِ البداياتُ التراكميةُ هي ما يصنعُ الفارقَ.
وكما قال نيتشه: 'مَن يملكُ سببًا يعيشُ لأجلِه، يمكنُه تحمُّلُ أيِّ كيفٍ.' — فلنجعلْ هذهِ القِيَمَ سببًا نستحقُّ أن نعيشَ لأجلِه. سعيد ذياب سليم
التعليقات