رم - الشَّجَاعَةُ وَالرَّحْمَةُ وَالاِتِّصَالُ بِالآخَرِينَ: مَفَاتِيحُ لِحَيَاةٍ مُكْتَمِلَةِ الْمَعْنَى
المقدِّمة:
مُنذُ فَجرِ الإِنسَانِيَّة، لَم يَكنِ الهَدَفُ مِنَ الحَيَاةِ مُجرَّدَ السَّعَادَةِ أَوِ القُوَّة، بَل أَنْ نَحيَا حَيَاةً ذَاتَ مَعْنًى، حَتَّى فِي أَقسى الظُّرُوف.
قَد نَجِدُهُ فِي العَمَل، أَوْ فِي قَضِيَّةٍ نُؤْمِنُ بِهَا، أَوْ فِي رِعَايَةِ مَن نُحِب.
هَذَا المَعْنَى يَتَجَلَّى حِينَ نُوَاجِهُ الأَلَمَ بِشَجَاعَة، وَنَمْنَحُ الرَّحْمَةَ لِمَنْ حَوْلَنَا، وَنَتَّصِلُ بِالآخَرِينَ بِعَلَاقَةٍ صَادِقَةٍ تُخْرِجُنَا مِنْ عُزلَتِنَا.
فِي هَذَا المَقَال، نَسْتَعْرِضُ كَيْفَ تُشَكِّلُ ثَلاثُ قِيَمٍ أَسَاسِيَّةٍ — الشَّجَاعَة، الرَّحْمَة، وَالانْتِمَاء — مَفَاتِيحَ لِحَيَاةٍ أَكْثَرَ امْتِلَاءً وَعُمْقًا.
أوَّلًا: الشَّجاعَةُ كَمَدخَلٍ لِقُبولِ الذَّاتِ وَالتَّغييرِ
عِندَ سَماعِنا مُصطَلَحَ "الشَّجاعَةِ" تَتَداعى لِلخاطِرِ صُوَرٌ لِعَنترَةَ بنِ شَدَّادٍ حامِلًا سَيفَهُ، شاقًّا طَريقَهُ بَينَ أَمواجِ الفُرسانِ المُعتَدينَ، وَصُوَرًا لِغَيرِهِ مِنَ النُّجومِ الَّتي رَصَّعَت سَماءَ التَّاريخِ العَرَبِيِّ القَديمِ وَالحَديثِ، فَما زالَ رَحِمُ العُروبَةِ يَلِدُ الأَبطالَ.
لَكِن دَعنَا هُنا أَن نَتَرَيَّثَ وَلا نَخلِطَ بَينَ مَفهومَيِ الشَّجاعَةِ وَالبُطولَةِ.
عِندَما تُواجِهُ الخَوفَ الَّذي تُثيرُهُ الأَحداثُ اليَوميَّةُ، عِندَما تُواجِهُ الخَيبَةَ وَلا تَستَسلِمُ لَها، عِندَما تَرُدُّ عَنكَ رِياحَ التَّحدِّي وَلا تَنثَني أَمامَها، عِندَما تَعتَرِفُ بِالضَّعفِ وَتَمُدُّ يَدَيكَ فِي الظَّلامِ باحِثًا عَن كَتِفٍ تَستَنِدُ عَلَيهِ لِيَهبَكَ بَعضَ القُوَّةِ لِتُحاوِلَ مِن جَديدٍ، تِلكَ هِيَ الشَّجاعَةُ.
الشَّجاعَةُ لا تَمنَحُنا فَقَطِ القُوَّةَ لِعُبورِ الأَزَماتِ، بَل تَمنَحُنا شَيئًا أَعمَقَ: الشُّعورَ بِالتَّحرُّرِ الدَّاخِلِيِّ.
حينَ نُواجِهُ مَخاوِفَنا بَدلًا مِنَ الفِرارِ مِنها، نُصبِحُ أَكثَرَ قُربًا مِن ذَواتِنا الحَقيقِيَّةِ.
وَبِهَذاَ الِاتِّساقِ الدَّاخِلِيِّ، تَنمو شَخصِيَّاتُنا، وَنَصيرُ أَكثَرَ قُدرَةً عَلى اتِّخاذِ قَراراتٍ نابِعَةٍ مِن قَناعاتِنا لا مِن ضُغوطِ الخارِجِ.
فَالشَّجاعَةُ تَفتَحُ أَمامَنا دُرُوبَ التَّغييرِ، وَتَجعَلُنا أَكثَرَ تَصالُحًا مَع أَنفُسِنا وَأَكثَرَ اِنفِتاحًا عَلى اِحتِمالاتِ الحَياةِ.
الشَّجاعَةُ، وَإِن بَدَت شُعورًا داخِلِيًّا مَحضًا، إِلَّا أَنَّ أَثَرَها يَمتَدُّ إِلى ما حَوْلَنا كَما تَمتَدُّ دَوائِرُ الماءِ حينَ نُلقِي حَجَرًا صَغيرًا فِي بُحَيرَةٍ ساكِنَةٍ. يَكفِي أَن يَجرُؤَ أَحَدُهُم عَلى الِاعتِرافِ بِأَلَمِهِ أَوِ اتِّخاذِ مَوقِفٍ صادِقٍ، حَتَّى تَنتَشِرَ مُوجاتُ التَّأثيرِ فِي مُحيطِهِ، وَتُلهِمَ الآخَرينَ لِيَكونوا أَصدَقَ، أَلطَفَ، وَأَكثَرَ جُرأَةً فِي مُواجَهَةِ ذَواتِهِم.
لِلوَهلَةِ الأُولى، تُشعِرُكَ الصَّدمَةُ بِالأَلَمِ وَالخَيبَةِ، لَكِنَّها الحَياةُ يا صَديقي؛ تارَةً ما تَهبُ نَسَماتٍ صَيفِيَّةً رَقيقَةً، وَتارَةً ما تَحمِلُ مَعَها سُحُبًا ماطِرَةً تَخضَرُّ لَها الدُّنيا.
فَلا تَبتَئِسْ إِن فاجَأَتكَ رِياحٌ جافَّةٌ تَحمِلُ ذَرّاتِ غُبارٍ عُدوانِيَّةٍ، فَإِنَّ الأَحوالَ دَوّارَةٌ لا يَدومُ مِنها وَجهٌ دونَ غَيرِهِ.
تَحلَّ بِالشَّجاعَةِ وَابدَأِ المُناوَرَةَ مِن جَديدٍ، وَتَعلَّمْ مِن تَجارِبِكَ لِتَصِلَ إِلى أَهدافِكَ.
أَظهَرَت دِراسَةٌ أُجرِيَت فِي جامِعَةِ كاليفورنيا أَنَّ الأَفرادَ الَّذِينَ يُعَبِّرونَ عَن مَشاعِرِهِم السَّلبِيَّةِ — كَالقَلَقِ وَالخَوفِ — خِلالَ الأَوقاتِ الصَّعبَةِ، يُطَوِّرونَ مَهاراتِ تَواصُلٍ أَفضَلَ وَيَبنونَ عَلاقاتٍ أَكثَرَ عُمقًا مَعَ الآخَرينَ. وَجَدَتِ الدِّراسَةُ أَن مَن يُشارِكونَ تَجارِبَهُمُ المُؤلِمَةَ مَعَ الأَصدِقاءِ أَوِ العائِلَةِ كانُوا أَكثَرَ قُدرَةً عَلى التَّعامُلِ مَعَ الضُّغوطِ النَّفسيَّةِ وَأَقَلَّ عُرضَةً لِلاكتِئابِ لاحِقًا، مُقارَنَةً بِمَن حاوَلوا إِنكارَ مَشاعِرِهِم أَو إِظهارَ القُوَّةِ الزّائِفَةِ. يَتَماشَى هَذا مَعَ ما طَرَحَتهُ بِرينيه براون فِي كِتابِها "هِباتُ النَّقصِ" (The Gifts of Imperfection)، حَيثُ تُؤَكِّدُ أَنَّ قَبولَ الضَّعفِ وَالِاعتِرافَ بِالمَشاعِرِ هُوَ مِفتاحٌ لِبِناءِ عَلاقاتٍ صِحِّيَةٍ وَحَياةٍ أَكثَرَ تَوازُنًا.
وَمِثلَ ذَلِكَ نَجِدُ فِي سيرَةِ غَسّان كَنفانِي، الأَديبِ الفِلسطِينِيِّ الَّذِي لَم يَتَنَكَّر لِضَعفِهِ الإِنسَانِيِّ وَلا لِإِنهَاكِ المَنفى الطَّوِيلِ، بَل حَمَلَ قَضِيَّتَهُ كَمَن يَحمِلُ جُرحَهُ بِشَجاعَةٍ وَوَعيٍ. اِعتَرَفَ بِآلامِهِ وَبِمَرارَةِ الخَسارَةِ، وَلَم تَمنَعهُ هَشاشَتُهُ العَميقَةُ مِن مُواصَلَةِ الكِتابَةِ وَالنِّضالِ حَتَّى آخِرِ لَحظَةٍ مِن حَياتِهِ، مِمَّا أَكسَبَ كَلِماتِهِ صِدقًا وَقُوَّةً داخِلِيَّةً أَلْهَمَت أَجيالًا مِن بَعدِهِ.
رُبَّما تَنتَظِرُ عَلاوَةً تَأَخَّرَت، أَو تَطمَحُ بِلِقاءِ أَحَدِهِم شَغَلَتهُ الظُّروفُ عَنكَ، وَرُبَّما تَأَخَّرتَ عَن مَوعِدِ اِجتِماعِ أَولياءِ الأُمورِ فِي مَدرَسَةِ طِفلِكَ... أَحداثٌ يَوميَّةٌ عَديدَةٌ تُشعِرُنا بِالخَيبَةِ.
وَلَولا شَجاعَتُنا الدّاخِلِيَّةُ وَابتِسامُنا أَمامَ الهَزيمَةِ، لَكُنّا سَقَطنا مِرارًا، فَإِنَّنا لَم نُخلَق مِن حَديدٍ، بَل مِن لَحمٍ وَدَمٍ وَإِرادَةٍ.
فَالشَّجاعَةُ لَيسَت أَشِعَّةً خارِقَةً تَنبَعِثُ مِن عَينَي سوبَرمَان، بَل شُعلَةٌ خَفِيَّةٌ نُشعِلُ بِها طَريقَنا فِي عَتمَةِ الذَّاتِ، وَنُنيرُ بِها دُرُوبَ مَن حَوْلَنا.
ثانيًا: الرَّحمةُ كجِسرٍ للسَّلامِ الدَّاخليِّ والعَلاقاتِ الصِّحيَّةِ
الرَّحمةُ هي فِعلٌ شُجاعٌ ولَطيفٌ في آنٍ مَعًا، يَقومُ على التَّوجُّهِ نَحوَ الألمِ — سواءٌ كانَ أَلَمَنا أو أَلَمَ الآخَرينَ — بانفِتاحٍ، بَدَلًا منَ الهُروبِ مِنهُ أو إنكارِهِ. إنَّها تَعني أن نُواجِهَ المُعاناةَ بوعيٍ، وأن نَرُدَّ عليها بلُطفٍ وحَنانٍ، لا بإنكارٍ أو تَبَلُّدٍ. وعِندما نَتلقَّى الرَّحمةَ من أَحدِهِم، فإنَّنا لا نَتلقَّاها من شَخصٍ يَقِفُ بَعيدًا في مَنطِقةٍ آمِنةٍ يُلقي علينا كَلِماتِ الرِّثاءِ أو اللَّومِ، بل مِمَّن يُخوضُ معنا الوَحلَ، يُمسِكُ بأيْدينا، ويَشعُرُ بما نَشعُرُ بهِ من عَناءٍ. الرَّحمةُ الحقيقيَّةُ لا تَستَعلي، ولا تَتهرَّبُ، بل تَتَساوى في مُستوى الألمِ، وتَخافُ علينا أَكثَرَ مِمَّا تَخافُ منَ العَدوى.
يَزدَحِمُ المُعجَمُ العربيُّ بِمُصطلَحاتٍ مِثلَ: الشَّفَقَةِ، والتَّعاطُفِ، والرَّحمةِ. والفُروقُ بَينَها تَكمُنُ في الفِعلِ وطَريقةِ التَّلقِّي.
فأَنتَ تَتَعاطَفُ مع أَحدِهِم حِين تَشعُرُ بِمَشاعِرِهِ وتَفهَمُ أَلمَهُ، وقَد تَشفِقُ عليهِ إن رَأيتَ فيهِ ضَعفًا يَدعُو إلى الحَنوِّ والرِّثاءِ. أَمَّا الرَّحمةُ، فهي أَعمَقُ من ذلكَ كُلِّهِ؛ أَن تَشعُرَ بالألَمِ وتَحتَرِمَ مَن يَتَأَلَّمُ، أَن تَراهُ واقِفًا رغمَ مُعاناتِهِ، فَتَقتَرِبَ مِنهُ بِمَحبَّةٍ ورِفقٍ، دونَ أن تَراهُ أَدنَى مِنكَ، ودونَ أن يُحرِّكَكَ الخَوفُ بَل يُحرِّكَكَ الإخلاصُ للإنسانيَّةِ الَّتي تَجمعُكما.
الرَّحمةُ أَيضًا لا تَعني غِيابَ الحُدودِ أو التَّراخي في المَواقِفِ المُؤذِيَةِ. فمُمارَسَتُها تَتَطلَّبُ شَجاعةً أَكبَرَ من مُجرَّدِ الشَّفَقَةِ أو التَّبريرِ، إذ إنَّ وَضعَ الحُدودِ ومُساءَلَةَ الآخَرينَ يَتَطلَّبُ جُهدًا ووعيًا يَفوقانِ سُهولةَ اللَّومِ والتَّعييرِ. الرَّحمةُ الحقيقيَّةُ تَقِفُ إلى جانِبِ الإنسانِ، دونَ أن تُبَرِّرَ الخَطَأَ أو تُهمِلَ العَدلَ، بل تُوازِنُ بَينَ الحَنانِ والمَسؤوليَّةِ.
وقد بَيَّنَت أَبحاثُ عِلمِ النَّفسِ أَنَّ الرَّحمةَ، خُصوصًا تِجاهَ الذَّاتِ، تُخفِّفُ من مَشاعِرِ الخَجَلِ وتُقَلِّلُ من الضَّغطِ الدَّاخليِّ، كما تُساهِمُ في تَعزيزِ الشُّعورِ بالإيجابيَّةِ والسَّلامِ النَّفسيِّ، وتَمنَحُ الإنسانَ قُدرَةً على التَّواصُلِ دونَ خَوفٍ منَ الانتقاصِ من قِيمَتِهِ أو وَصمِهِ عندَ الخَطَأِ.
فَلنأخُذ مِثالًا بَسيطًا: ابنٌ لا يُرَتِّبُ غُرفتَهُ، يُلقي مَلابِسَهُ كَيفَما اتَّفَقَ، ويَغضَبُ إذا ذُكِرَ ذلكَ أَمامَ العائِلةِ. قَد يَكونُ رَدُّ الفِعلِ التَّلقائيُّ هوَ الصُّراخَ أو التَّوبيخَ العَلَنيَّ، لكِنَّ الرَّحمةَ تَدعونا لأَن نَضعَ لهُ حُدودًا واضِحةً، دونَ إذلالٍ أو فَضحٍ، وأَن نُفهِمَهُ المَسؤوليَّةَ بأسلوبٍ يُراعي نُمُوَّهُ النَّفسيَّ، ويَمنَحُهُ الفُرصَةَ للتَّدرُّبِ على احتِرامِ المَساحَةِ المُشتَرَكَةِ. الرَّحمةُ هُنا لا تَعني التَّغاضي، بل التَّعليمَ بلُطفٍ، والمُساءَلَةَ دونَ قَسوةٍ.
ثالثًا: الاتصالُ بالآخرينَ كشرطٍ لتحقيقِ الانتماءِ والمعنَى
تُعرِّفُ بريني براون التواصلَ بأنَّهُ: تلكَ الطاقةُ الخفيَّةُ التي تنشأُ حينَ يشعرُ البشرُ أنَّهُم مرئيُّون، مسموعون، ومقدَّرون؛ حين يستطيعونَ أنْ يُعطُوا ويتلقَّوا دونَ خوفٍ أو حكمٍ. لكنَّهُ أكثرُ من ذلكَ: إنَّهُ تعبيرٌ عن حاجتِنا الفطريَّةِ للانتماءِ، لشعورٍ بأنَّ وجودَنا ليسَ عبثًا. فالإنسانُ، رغمَ صلابتهِ الظاهرةِ، هشٌّ في جوهرِه؛ يُنهكُهُ التجاهلُ، ويتركُهُ النبذُ معلَّقًا في فضاءٍ باردٍ، متعطِّشًا إلى دفءٍ لا يأتي. وبعضُ العلاقاتِ، حينَ تخلُو منَ الحبِّ، تكونُ أقسى منَ الغيابِ. ففي الحبِّ، أحيانًا، يكونُ الكتمانُ أرحمَ منَ الجهرِ، لأنَّ بعضَ القلوبِ لا تعرفُ كيفَ تعترفُ بالهزيمةِ، ولا كيفَ تتذكَّرُ الحبَّ إلَّا بعدَ أنْ تفقدَهُ.
نحنُ بحاجةٍ للتواصلِ في الأحوالِ العاديَّةِ والشَّدائدِ... والحروبِ.
في روايةِ العندليبِ لكريستين هانا، تنشأُ علاقةٌ متناقضةٌ بينَ فيان، المرأةِ الفرنسيَّةِ، وضابطٍ ألمانيٍّ يُقيمُ قسرًا في منزلِها.
وبرغمِ رمزيَّةِ العدوِّ، يمدُّ لها يدَ العونِ: يُحضِرُ الدواءَ لابنتِها، ويُساعدُها في تبنِّي طفلٍ يهوديٍّ. لا تُحبُّهُ، لكنَّها ترى فيهِ إنسانًا يتسلَّلُ من خلفِ الزيِّ العسكريِّ. ذلكَ الخيطُ الدقيقُ منَ التواصلِ، القائمِ على لحظاتٍ منَ الرحمةِ، لا يُلغي فظاعةَ الحربِ، لكنَّهُ يُذكِّرُ بقدرةِ البشرِ على أنْ يظلُّوا بشرًا وسطَ العتمةِ.
وفي النِّهايةِ، تُضطرُّ فيان لقتلِه لحمايةِ أختِها، فتغدو العلاقةُ شاهدًا على صراعِ القيمِ: بينَ الواجبِ والخوفِ، وبينَ الشفقةِ والبقاءِ. إنَّهُ مثالٌ نادرٌ على أنَّ الاتصالَ لا يعني التَّبريرَ، بل الاعترافَ بأنَّ المعنَى يُولدُ أحيانًا في المسافةِ المتوترةِ بينَ العدوِّ والإنسانِ.
ولأنَّ التواصلَ لا يُبنى في الرُّشدِ فقط، بل يُغرسُ منذُ الطُّفولةِ، تناولَ علمُ النفسِ التَّطوُّريُّ هذهِ الحاجةَ العميقةَ من خلالِ نظريَّةِ التعلُّقِ، التي طوَّرَها جون بولبي بعدَ دراستِه للأطفالِ المفصولينَ عنْ ذويهم. بيَّنَ بولبي أنَّ نوعيَّةَ العلاقةِ في السنتينِ الأُوليينِ تُشكِّلُ نمطَ التعلُّقِ الذي يحملُهُ الإنسانُ لاحقًا: آمنًا أو غيرَ آمنٍ (قَلِقٍ، انعزاليٍّ، أو مشوَّشٍ). ويؤثِّرُ هذا النَّمطُ في قدرتِه على بناءِ علاقاتٍ صحيَّةٍ، إذْ يرتبطُ التعلُّقُ الآمنُ بالثقةِ والانفتاحِ، بينما ترتبطُ الأنماطُ الأُخرى بالخوفِ منَ الهجرِ أو الانعزالِ أو صعوبةِ التَّعبيرِ عنِ المشاعرِ.
يُخطئُ البعضُ حينَ يظنُّ أنَّ نجاحَهُ يُغنيهِ عنِ الآخرينَ، فينزوي متصوِّرًا أنَّهُ يملكُ اكتفاءً ذاتيًّا، بينما هو في الحقيقةِ يُكرِّسُ نمطَ التعلُّقِ الانعزاليِّ الذي يَحميهِ منَ الألمِ لكنَّهُ يَحرِمُهُ المعنَى. وهي مفارقةُ عصرِنا: نعيشُ في فضاءٍ رقميٍّ مزدحمٍ، نتصوَّرُ أنَّنا على اتصالٍ دائمٍ، لكنَّنا في الواقعِ نؤدِّي أدوارًا افتراضيَّةً،
نبحثُ في العُمقِ عن نظرةٍ، عن لمسةٍ، عن حضورٍ حقيقيٍّ. هذا الوهمُ النَّاعمُ بالقربِ يُقصينا عنْ ذواتِنا وعن بعضِنا، حتى نَهوي ـ دونَ وعيٍ ـ في عزلةٍ تُغلِّفُها الشاشاتُ، وننسى أنَّ القلبَ لا يتغذَّى إلَّا من تماسٍّ بشريٍّ يُذكِّرُنا أنَّنا أكثرُ من مجردِ صورٍ.
الخاتمة
ليستِ الشجاعةُ والرحمةُ والاتصالُ مجردَ فضائلَ نتمناها، بل هي حاجاتٌ نفسيةٌ وروحيةٌ تمكِّنُ الإنسانَ من العيشِ بامتلاءٍ ومعنى. فحين نتحلّى بالشجاعةِ لنكشفَ ضعفَنا، وبالرحمةِ لنتجاوزَ أحكامَنا، وبالرغبةِ الحقيقيةِ في الاتصالِ بالآخرِ، نعيدُ لأنفسِنا إنسانيّتَها وكرامتَها.
ابدأْ اليومَ، بخطوةٍ صغيرةٍ: لحظةِ صِدقٍ، تصرُّفٍ رحيمٍ، أو حوارٍ حقيقيٍّ. فهذهِ البداياتُ التراكميةُ هي ما يصنعُ الفارقَ.
وكما قال نيتشه: "مَن يملكُ سببًا يعيشُ لأجلِه، يمكنُه تحمُّلُ أيِّ كيفٍ." — فلنجعلْ هذهِ القِيَمَ سببًا نستحقُّ أن نعيشَ لأجلِه.
سعيد ذياب سليم