الحياصات تَكتبُ : «وَصْفي التَّلُّ ودَوْرُهُ في تَرْسيخِ الهُوِيَّةِ الوَطَنِيَّةِ الأُرْدُنِّيَّةِ»


رم - بقلم : الدكتورة ميس حياصات

تحلّ غداً ذكرى استشهاد وصفي التل؛ الرجل الذي صار اسمه صفحةً خالدةً في تاريخ الوطن، وصوتاً لا يزال يتردّد في الوعي الأردني كلما تجدد الحديث عن قيم الدولة ورجالاتها. فاستعادة ذكرى وصفي ليست مجرد وقوفٍ أمام حدثٍ رحل، بل عودة إلى مشروع وطني كامل كان عنوانه الأول ترسيخ الهوية الوطنية الأردنية في زمن التحوّلات والتحديات. وقد آمن وصفي بأن الهوية ليست شعاراً يُرفع، بل منظومة قيم تتجسد في العمل والممارسة، وفي انسجام الإرادة الشعبية مع رؤية الدولة، وفي قدرة الأردنيين على أن يشكّلوا مسارهم الخاص بعيداً عن الضغوطات والاصطفافات.

لقد وضع وصفي التل تصوراً واضحاً لطبيعة الهوية الوطنية الأردنية؛ رؤيةً تستند إلى قوة المجتمع، وصلابة الروابط بين القيادة والشعب، والدور المركزي للمؤسسة العسكرية باعتبارها الركيزة التي تُبنى عليها الدولة. فكان يؤمن أن الهوية لا تُصنع بالتنظير، بل عبر الارتباط اليومي بين المواطن ووطنه، من خلال انضباط العمل، وإخلاص الخدمة، واحترام المؤسسات. وقد انعكس هذا الفكر في كل مرحلة من مسيرته؛ إذ تعامل مع المنصب العام بوصفه تكليفاً أخلاقياً وسياسياً، لا مساحة فيه لمصالح شخصية أو حسابات ضيقة. وبهذا رسّخ فكرة أن الدولة الأردنية تنمو حين يتقدم أصحاب المبادئ، وحين تكون الكفاءة والولاء للوطن معياراً لا يتغير.

كما شكّل وصفي التل نموذجاً للقيادة التي تحوّل الهوية الوطنية إلى ممارسة راسخة في وجدان الناس؛ فقد وقف دائماً إلى جانب المواطن البسيط، مؤمناً بأن قوة الدولة تبدأ من قدرتها على احتضان مواطنيها ومنحهم ما يستحقون من الثقة والاحترام، وكان يرى أن الأردن—رغم محدودية موارده—قادر على أن ينهض بجهد أبنائه وإرادتهم، وأن الاعتماد على الذات هو جوهر الهوية الوطنية التي تتأسس على الصبر والكدّ والتصميم. ولأن فكره كان نابعاً من واقع المجتمع الأردني وطموحه، فقد ظل صوته قريباً من الناس، وظل حضوره يتجدد كلما احتاج الأردنيون إلى صورة صادقة لمعنى القائد الذي يعيش من أجل وطنه.

وفي ذكرى استشهاده، يتجلى دور وصفي التل في ترسيخ الهوية الوطنية الأردنية بوصفه أحد أبرز من صاغوا العلاقة بين الدولة ومواطنيها على أسس من النزاهة والعدل والالتزام. فقراءته العميقة لطبيعة الأردن جعلته يدرك أن المحافظة على الهوية الوطنية ليست مسؤولية سياسية فحسب، بل مسؤولية اجتماعية وأخلاقية يتشارك فيها الجميع. وهذا ما جعل إرثه يستمر حتى اليوم، لا لكونه رجلَ سياسة فقط، بل لأنه كان مفكراً وطنياً أدرك مبكراً أن الهوية الأردنية ستظل قوية ما دامت قائمة على القيم التي آمن بها: الانتماء الحقيقي، والوعي الوطني، والعمل الذي يسبق القول.

ولذلك، فإن استحضار وصفي التل في هذه الذكرى التي تلامس مشاعر الأردنيين كل عام ليس مجرد تكريم لشهيدٍ رحل، بل هو تمسّك بجذور الهوية الوطنية الأردنية التي ساهم في ترسيخها. فهو لا يزال يمثل مرجعاً أخلاقياً وفكرياً للدولة، وصوتاً حاضراً في كل لحظة يشعر فيها الأردنيون بالحاجة إلى التمسك بالقيم التي تحفظ قوة وطنهم وتماسكه. وبذلك يبقى وصفي التل—رغم غيابه—جزءاً من الحكاية الوطنية التي لا تُروى إلا مقرونة بالتضحية، وبالإيمان العميق بأن الأردن يستحق رجالاً يصنعون هويته كما صنعها هو بالعمل، وبالصدق، وبالشهادة.

ويبقى وصفي التل حاضراً في ذاكرة الوطن لا بوصفه حدثاً تاريخياً فحسب، بل باعتباره معنى متجدداً للثبات والصدق والالتزام، وما يزال إرثه يضيء طريق الأردنيين، مُذكّرًا بأن الهوية الوطنية تُصان بالفعل قبل القول، وبالقدرة على حماية ما هو ثابت في زمن المتغيرات. وفي كل عام تحل فيه ذكراه يستعيد الأردنيون صورة القائد الذي عاش للأردن، وحلم بالأردن، ورحل وفي قلبه يقين بأن هذا الوطن قادر على أن ينهض بإرادة أبنائه. ولهذا فإن الحديث عن وصفي ليس عودة إلى الماضي، بل إصرار على أن يبقى المستقبل محمولاً على ذات القيم التي آمن بها… قيم العمل، والكرامة، والولاء الصادق لوطن لا يشبه إلا نفسه.



عدد المشاهدات : (4021)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :