الإسلام السياسي تحت النار الأمريكية من رعاية الجهاد إلى التصنيف الإرهابي هل تغيّرت قواعد اللعبة ؟


رم -
مهدي مبارك عبد الله

لم يكن الموقف الأمريكي الأخير تجاه الإسلام السياسي وليد اللحظة بل هو خلاصة عقود من التوظيف والاستثمار والاختراق والاستخدام السياسي المرحلي حيث لم تكن الولايات المتحدة في أي وقت قوة محايدة تنظر إلى الحركات الإسلامية بوصفها ظاهرة خارجية بل كانت طرفًا مباشرًا في رعايتها وتشكيلها وإعادة إنتاجها وتضخيمها والموقف الأمريكي الترامبي الجديد من الإسلام السياسي يعكس تحولاً نوعياً واستراتيجياً بعد عقود من الدعم غير المباشر والمتباين للجماعات الإسلامية في مختلف مناطق العالم حيث كان هذا الدعم جزءاً رئيسيا من السياسات الأمريكية التي رأت في الإسلاميين أدوات استراتيجية فاعلة لمواجهة النفوذ السوفيتي والتوسع الإيراني في المنطقة

المسرح الأفغاني كان نقطة التحوّل الأولى التي تداخلت فيها مصالح الولايات المتحدة مع القوى الإسلاموية ففي تلك المرحلة لم تكن واشنطن تسعى الى بناء منظومة مبادئ أو تشكيل قوى سياسية صديقة بل كانت تبحث عن بندقية قوية قادرة على مقاومة الجيش الأحمر حيث لعبت وكالة الاستخبارات الأمريكية دورًا محوريًا في صناعة الإسلاميين واستخدامهم كأدوات استراتيجية برعاية وتجنيد وتدريب المقاتلين العرب في معسكرات بيشاور حيث قدمت واشنطن الأسلحة والمساعدات المالية والعسكرية للمتطوعين العرب والأجانب كما استضافت الجامعات الأمريكية عدة محاضرين اسلاميين مثل عبد الله عزام للترويج لفكرة الجهاد وجمع الدعم الفكري والسياسي للمقاتلين

كما فتحت الابواب على مصارعها أمام الحركات الإسلامية في العالم العربي لإرسال الشباب تحت شعار الجهاد المقدس ضد الغزو الشيوعي السوفياتي ولم يكن الدعم مجرد سلاح أو تدريب بل كان يتضمن تمويلاً واسعًا وتسهيلات لوجستية وتنسيقًا مفتوحًا مع السعودية ودول خليجية أخرى تولت كلفة التجنيد وقدمت الرواتب وتذاكر السفر وغيرها للمتطوعين وفي تلك المعسكرات وُلدت النواة الصلبة للحركات الجهادية العابرة للحدود وخرجت من بيشاور عشرات القيادات التي توزعت لاحقًا في كل ساحات الصراع الاقليمية والدولية وهو ما جعل الإسلام السياسي أداة أمريكية ضمن تحالفات مرحلية كما استُخدمت هذه الشبكات في العديد من النزاعات الإقليمية قبل أن تتحول بعض هذه الجماعات لاحقاً إلى خصوم استراتيجيين لأمريكا بعد أن تعمقت جذورها في العالم الإسلامي وأصبحت قادرة على التأثير السياسي والاجتماعي بشكل مباشر ( لعبة أمريكا انقلبت عليها )

الولايات المتحدة الامريكية كانت تعرف تمامًا من تُدرّب وتُسلّح وكانت تعلم مسبقا أن تلك التنظيمات تحمل أيديولوجيات راديكالية صلبة لا يمكن احتواؤها لكنها أرادت استخدامها فقط لمواجهة السوفييت وبعد انتهاء الحرب تركتهم في العراء وساهمت في نمو الخلافات والفوضى بينهم وغضت الطرف عن شبكات التمويل والتعليم والفتاوى التي انتشرت بلا حدود وبعد سنوات قليلة وجدت نفسها في مواجهة مباشرة مع تلك القوى التي رعتها و درّبتها كما اصبحت بعض الدول العربية نفسها تعاني من ارتدادات أكبر عملية هندسة اجتماعية ودينية حدثت في القرن العشرين

رغم كل ذلك تركت واشنطن الإسلام السياسي ينمو ويتضخم لعقود لأن هذه التيارات كانت بشكل مباشر او غير مباشر تخدم أدوارًا متعددة حيث كانت بديل محتمل لإسقاط أنظمة لا تتوافق مع المصالح الأمريكية وهي ايضا ورقة ضغط تستخدم عند الحاجة وقوة منظمة تتغلغل في المجتمعات العربية بسهولة أكبر من القوى المدنية وهي حركات عابرة للحدود يمكن توجيهها في لحظات معينة لإرباك خصوم واشنطن أو ترتيب ساحات صراع جديدة ولذلك لم تكن الولايات المتحدة ترى مشكلة في وجود هذه التنظيمات بل كانت تعتبرها حاجة استراتيجية مؤقتة قابلة للاستخدام الاستخباراتي المنظم

ما تغيّر اليوم هو أن الولايات المتحدة فقدت السيطرة على علاقاتها التقليدية مع الشرق الأوسط وضعفت قدرتها على احتواء بعض الأحداث الإقليمية كما وجدت أن الإسلام السياسي لم يعد مجرد كتلة طيعة يمكن توجيهها بل أصبح لاعبًا متمردًا يتجاوز قواعد اللعبة حيث لم يعد الإخوان المسلمين وغيرهم مجرد حركات معارضة منظمة داخل بعض الدول بل أصبحوا قوة جماهيرية ومالية وتنظيمية مؤثرة تعبر الحدود وتتحرك سياسيًا في أوروبا وأمريكا نفسها وتبني لوبيات وتفتح مراكز وتوجه الرأي العام وتتفاعل مع أزمات المنطقة بطرق لا تتوافق مع المصالح الأمريكية ومرة أخرى أصبحت واشنطن أمام ظاهرة خلقتها هي بنفسها لكنها فشلت في ضبطها والسيطرة عليها

الإدارة الأمريكية الحالية بقيادة دونالد ترامب اتخذت موقفاً أكثر صرامة تجاه الإسلام السياسي وتحديداً جماعة الإخوان المسلمين حيث بدأت وزارتي الخارجية والخزانة بإجراءات لإغلاق المراكز الإسلامية المرتبطة بها وتصنيفها ضمن قوائم الإرهاب كما أعدت قوائم بأسماء نحو 400 شخص مرتبطين بهذه الجماعة من رجال أعمال وأساتذة جامعيين وقيادات مجتمعية في عدد من الدول بما في ذلك تركيا ودول الخليج والمغرب إضافة إلى وضع نصوص فدرالية تتعلق بكيفية التعامل مع الأموال والحوالات المالية لهذه الشبكات حيث تهدف هذه الإجراءات إلى تضييق مجال نفوذ الإخوان والسيطرة على تحركاتهم المالية والسياسية داخلياً وخارجياً وان قرار ترامب يعكس أسباباً خفية تتعلق بالمخاوف الأمريكية من قدرة الإسلام السياسي على التأثير على استقرار مصر والأردن ولبنان اضافة الى حالة القلق الأمريكي العميق تجاه تصاعد نفوذ الإسلام السياسي وما بات يُنظر إليه كتهديد محتمل للأمن القومي الأمريكي وهو ما لم يثبت مصداقيته بعد

الموقف الأمريكي تجاه الإسلام السياسي لم يقتصر على الإخوان فقط بل يشمل تقييم شامل للتيارات الإسلامية السياسية في العالم العربي والإسلامي وهو ما يفسر أن القرار لم يقتصر على حظر جماعة واحدة بل جاء ضمن رؤية أوسع تهدف إلى التحكم في هذا النمط من الحركات قبل أن يتحول إلى قوة سياسية مستقلة أو تهديد أمني كما يرتبط هذا أيضًا بفهم الولايات المتحدة أن الإبقاء على الإسلاميين كأدوات خلال عقود مضت أدى إلى إنتاج خصوم جديدين وأن إدارة ترامب تسعى لتصحيح أخطاء الماضي عبر هذه الخطوة غير المسبوقة في التاريخ الأمريكي بعد عقود من الرعاية الانتقائية وأن هذا التصنيف يهدف إلى قطع السبل أمام توسع الإسلاميين وإجبار الدول الحليفة لأمريكا على إعادة النظر في تراخيصهم ودعمهم

هذا التحول الجذري هو الذي يفسر لماذا جاءت الصحوة الأمريكية متأخرة ولماذا لم يفكر رؤساء سابقون في اتخاذ مثل هذا القرار والجواب البسيط لأن تلك الجماعات كانت تقوم بالوظيفة المطلوبة حينها وكانت جزءًا من خرائط النفوذ الأمريكي وهذا ليس اتهام بقدر ما هو تحليل للواقع فمثلا في إدارة الرئيس الامريكي الاسبق أوباما استخدم الإسلام السياسي في احداث الربيع العربي كأداة لتشكيل الشرق الأوسط الجديد وفي إدارة بوش الابن وظفت الحركات السنية المتشددة كسد منيع في وجه التمدد الإيراني بعد 2003 أما اليوم فكل شيء تغير بعدما فقدت واشنطن الثقة في قدرة هذه الحركات على خلق الاستقرار المطلوب أو خدمة المصالح الأمريكية المتنوعة حيث أصبحت ترى فيها تهديدًا متفاقم للأنظمة الحليفة وللتوازنات الاجتماعية وحتى للنفوذ الأمريكي نفسه

في السياق الإقليمي لعبت كل من تركيا وقطر دورًا بارزًا في احتضان قيادات جماعة الإخوان المسلمين وهو ما دفع إدارة ترامب للتأكيد على أن قراره سيتجاوز حدود الولايات المتحدة وسيشمل الساحات الصديقة وهو ما يضع ضغوطًا على الدول التي تدعم الإسلام السياسي ضمن تحالفاتها الإقليمية ويشير إلى محاولة أمريكية لإعادة ضبط النفوذ داخل المنطقة وتنظيم الحدود بين الحلفاء والأدوات الاستراتيجية التي باتت تهديدًا قائما وإن حظر الأردن لجماعة الإخوان وما جرى في مصر وسوريا وتونس والسودان واليمن شكّل بيئة مثالية لواشنطن كي تتحرك فالولايات المتحدة لا تتخذ قرارات كبرى إلا عندما تتهيأ الظروف الإقليمية ومع سقوط الإسلام السياسي في معظم الدول العربية أصبح من السهل على واشنطن إعلان المواجهة دون خسارة أي من أوراقها الاستراتيجية

السؤال الجوهري هنا هل فعلا يشكل الإسلام السياسي خطرًا حقيقيًا على الولايات المتحدة كما يزعمون الحقيقة أن واشنطن ليست متخوفة من الإسلام السياسي بوصفه ظاهرة دينية فالدين لا يخيفها بل ما يقلقها اليوم هو زيادة نفوذ وقوة التنظيم السياسي الاسلامي العابر للحدود والمسارات والتي يمكن أن تنتج كتل انتخابية مسيطرة داخل أمريكا نفسها وان تبني شبكات تمويل يمكن أن تتحول إلى أدوات تأثير خارج السيطرة وان تقيم قواعد اجتماعية قد تستخدم في صراعات دولية بطرق لا يمكن التنبؤ بها وأمريكا دائما تحذر من ما لا يمكنها ضبطه وليس من ما يناقض قيمها ولو كانت تخاف من التطرف الديني فعلا لكانت حاربته في الثمانينيات بدل أن تحتضنه وتضخ فيه المال والسلاح والتدريب

الخطر الحقيقي بالنسبة لواشنطن هو أن الشرق الأوسط اليوم يقف على حافة تحولات جذرية يتصاعد فيها النفوذ الإيراني بالتوازي مع عودة روسيا بقوة وصعود الصين كمستثمر سياسي واقتصادي فضلا عن انهيار مبدأ الدولة الوطنية في أكثر من بلد وظهور حركات سياسية جديدة خارج الإطار التقليدي الذي اعتادت أمريكا التعامل معه وفي هذا المناخ غير الصحي ترى الولايات المتحدة أن الإسلام السياسي بات لاعبًا مزعجًا ولا يمكن الاعتماد عليه ولا إزالته بسهولة ولذلك جاء القرار الأمريكي الأخير كتمهيد لمرحلة طويلة من عملية منظمة لتفكيك شبكات النفوذ الإسلاموي أينما وجدت سواء داخل الشرق الأوسط أو خارجه

سيناريوهات المستقبل تفتح الخيارات على عدة احتمالات منها امكانية تصاعد المواجهة الأمريكية مع الإسلام السياسي في الداخل والخارج أو إعادة صياغة التحالفات الإقليمية لتطويع هذه الحركات من جديد بما يخدم مصالح واشنطن أو أن تتحول هذه الجماعات إلى قوى مستقلة أكثر تعقيدًا وتهديدًا الأمر الذي يجعل المرحلة المقبلة حاسمة في تحديد مصير الإسلام السياسي ودور أمريكا في المنطقة ومن المحتمل ايضا أن يستمر الإسلام السياسي في التوسع عبر أدوات جديدة أو تحالفات إقليمية أو أن يؤدي التضييق الأمريكي إلى تراجع نفوذه سياسيًا وماديًا ما يؤدي الى ظهور حركات سرية أكثر تطرفًا وغير منضبطة نتيجة الفراغ الذي قد يخلقه الحظر

بعض المراقبين والمحللين وحجوا ان القرار ربما يشكل نقطة توازن جديدة بين أمريكا وإيران وتركيا والدول الخليجية حيث تُستخدم الجماعات الاسلامية من جديد كورقة ضغط أو بوابة تفاوضية في الصراعات القادمة وهو ما يؤكد أن المستقبل يعتمد على قدرة الولايات المتحدة وحلفائها على إدارة الإسلام السياسي كأداة استراتيجية دون السماح له بالتحول إلى تهديد مباشر وفي ذات الوقت أن الولايات المتحدة لن تعمد الى كسر ظهر هذه الجماعات كليا لأنها قد تعود يومًا ما لاستخدام الإسلام السياسي كأداة إذا وجدت أن مصالحها تتطلب ذلك فهذه القوى ليست ثابتة بل تتحرك وفق قواعد السوق السياسي الذي تراقبه واشنطن جيدًا أما أخطر هذه السيناريوهات هو انهيار الإسلام السياسي والذي قد يفتح الباب أمام حركات أكثر راديكالية تغمل تحت الارض وتتحول الى حمل السلاح والقيام بعمليات انتحارية عمياء وهو احتمال لا يبدو بعيدًا في ظل تزايد حالة الانسداد السياسي في المنطقة

الإسلام السياسي كان دائمًا صناعة وأداة أمريكية استُخدمت لأغراض سياسية استراتيجية لكنه اليوم وبحسب زعم غير مؤكد او موثق بات يشكل تهديدًا للأمن القومي الأمريكي ومصالحها الإقليمية وإن قرار ترامب ليس موقفًا أخلاقيًا ولا صحوة ضمير باثر رجعي بل هو اجراء براغماتي بحت جاء بعد أن أدركت واشنطن أن الأدوات التي صنعتها أصبحت غير نافعة وقد تنقلب عليها وتعمل ضدها وأن الفوضى التي ساهمت في خلقها بدأت تخرج من سيطرتها وتدخل بيتها

في النهاية : ما يجب فهمه جيدا بان أمريكا نفسها لم تتغير والذي تغير هو وظيفة الإسلام السياسي في الاستراتيجية الأمريكية وما يجري اليوم هو إعادة هندسة دقيقة للشرق الأوسط، تتخلص فيها واشنطن من الأدوات القديمة كي تبحث عن أدوات جديدة وما بين الأمس واليوم تظل الحقيقة الوحيدة الثابتة أن الولايات المتحدة لا تحارب الأيديولوجيات مهما كانت متطرفة بل تحارب ما يهدد نفوذها وسيطرتها فقط وعندما يتعارض الإسلام السياسي مع هذا الواقع يصبح فجأة عدوا وخطرًا محليا وعالميًا يجب القضاء عليه أما حين يخدم مصالحها فإنه يتحول إلى شريك مرحلي مهم حتى لو كان يحمل خطابا وفكرا يهدد استقرار العالم اجمع

كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]



عدد المشاهدات : (333)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :