المنخفض المفقود


رم - عاطف أبو حجر

في الماضي، كان الشتاء يمتد بهدوء، كأنه يرسم لوحات من المطر والريح والثلوج على جبال الأردن. كنا نصحو على صوت المطر، ونشمّ رائحة الأرض بعد أول قطرة ماء، ونتذكر دفء الصوبة في البيت، وكأن كل قطرة تحكي قصة. أمّا اليوم، فالسماء صامتة، والأرض تنتظر نبضة المطر كما ينتظر العاشق رسالة من حبيب غائب، والرياح لا تهدر، والصوبات تبقى بلا شعلة. الشتاء الذي عرفناه أصبح ذكرى بين الماضي والحاضر، والمنخفض المفقود سؤالًا يتردد في كل بيت، وكل شارع، وكل قلب يحنّ إلى دفء الشتاء الحقيقي.

كان الزمن يمضي بهدوء، وكأنه يخشى أن يوقظ بساطته، وكانت الحكايات تُنسج من تفاصيل صغيرة لا يلتفت إليها أحد اليوم. أتذكر رحلاتي مع خالي إلى الكازية على ظهر الحمار، محاطًا بحركانات تتمايل مع خطواته الواثقة، فكنت أشعر وكأنني أركب سيارة فاخرة. أما البريزة التي كان والدي يمنحني إياها من باقي ثمن الكاز، فكانت بالنسبة لي كنزًا صغيرًا يكفي لفتح أبواب الدنيا. كان كل شيء رخيصًا يومها… من المحروقات إلى الأحلام. واليوم تغيّر الزمان، وارتفعت الأسعار، ولم يبقَ لنا سوى دفء تلك الذكريات نعود إليه حين يضيق الحاضر.

ها نحن نقترب من نهاية العام، والسماء تتعامل معنا وكأننا في عزّ آب اللّهاب. شتوة يتيمة ظهرت على استحياء، مكثت يومًا واحدًا ورحلت بلا وداع، كمتابعة صامتة في مجموعة واتساب لا تشارك إلا بـ “تمام شكراً”. النهار دافئ، الناس يتجوّلون بقمصان نصف كم، وأصحاب محال بيع الصوبات ينظرون إلى بضاعتهم كما لو كانت آثارًا رومانية، بينما أسطوانات الغاز مخزّنة بلا جدوى، تنتظر “إشارة البدء” من الغيوم.

المفارقة الكبرى أن التكنولوجيا، رغم تقدمها الهائل، لم تستطع استدعاء المطر. الأقمار الصناعية والرادارات وتطبيقات التنبيه لم تمنع السماء من أن تبقى صامتة. كان زمان، حين كان أحمد عبندة، مدير الأرصاد الجوية الأشهر، يكفي صوته لتحضير الأردنيين للمنخفضات قبل أيام، وكانت نشراته حدثًا وطنيًا. الأجهزة كانت بسيطة، وخرائط الطقس تُرسم يدويًا، ومع ذلك المطر كان يحضر، والثلج يصل، والرياح تزأر كالأسود.

أتذكر أصوات المطر والبرد في أغاني سميرة توفيق، ورائحة الأرض في البيت مع تصاعد بخار الصوبة. أما اليوم، فالأجواء بلا منخفضات، بلا ثلوج، بلا نسيم الشتاء المهيب. الأرض عطشى، والمزارع يحدّق في حقله كما ينظر الطالب إلى ورقة امتحان فارغة، وأصحاب الصوبات والبواري يلمّعون معداتهم كل صباح على أمل أن تتذكرهم السماء. نعيش شتاءً بلا شتاء، ونترقب غيمة تمر فوق البلاد كما يترقب الأردني رسالة دعم رصيد: نادرة، مفاجئة، وغالبًا بلا أثر.

فيا أيها المطر، إن كنت عالقًا في طابور حدودي، أو تنتظر موافقة دخول، أو تبحث عن موقف فارغ فوق سماء عمّان… تعال. وأرسل لنا ولو بزخة واحدة تعيد ترتيب الفصول، وتثبت أن الشتاء لم يتحوّل إلى أسطورة شعبية من أيام أحمد عبندة وما قبلها. فقد اشتقنا لصوت الريح، وقرقعة المزاريب، ورائحة الأرض حين تتنفس أخيرًا بعد طول صمت.

أيها الراصدون… هل شاهد أحدكم المنخفض المفقود؟



عدد المشاهدات : (4102)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :