د . مهدي مبارك عبد الله
فوز مفاجئٌ وغير متوقّع حتى بالنسبة لها هكذا استقبلت المعارِضة الفنزويلية ماريا كورينا ماتشادو خبر فوزها بجائزة نوبل للسلام لعام 2025 قائلة في أول تعليق لها إنني تحت وقع الصدمة ما هذا لا أستطيع أن أصدق غير وأن خلف هذه المفاجأة تبرز قصة سياسية معقّدة لامرأةٍ تربطها علاقاتٌ وثيقة بواشنطن وتل أبيب وتتبنّى مواقف يمينية مؤيدة للاحتلال الإسرائيلي مما يجعل فوزها مهانة مثيراً للجدل وتكريمٌ يلطّخ تاريخ الجائزة أكثر من كونه تكريماً إنسانيا بحتا .
العالم المنافق كعادته يكافئ مؤيدي القتلة والمجرمين وصناع الإبادة الجماعية باسم السلام وفي مشهد مخزي يجسد سقوط المعايير الأخلاقية في السياسة الدولية منحت لجنة نوبل للسلام جائزة عام 2025 للسياسية الفنزويلية ماتشادو وهي المعروفة بمواقفها المتناقضة مع قيم العدالة والانسانية والسلام والمدافعة علنا عن الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه في غزة لتتحول الجائزة التي يفترض أن تكون تكريما لصناع الأمل إلى وسام يمنح لمن يبرر القتل ويمجد العدوان ويطعن في إنسانية الضحايا وتشير تقارير أوروبية إلى أن فوزها جاء بعد حملة ضغط قادتها مؤسسة إنسبيرا أميركا المقربة من الجمهوريين لترويج ترشيحها تحت شعار المرأة التي تواجه الدكتاتورية كناشطة ديمقراطية ومدافعة عن الحرية في صورة مُجمّلة تخفي انحيازاً أيديولوجياً .
ماتشادو سياسية فنزويلية تنتمي إلى اليمين الليبرالي المتشدد وتعد من أبرز وجوه المعارضة لحكومة بلادها شاركت في تأسيس منظمة سياسية تسمى سوموس فينيزويلا ودخلت المعترك السياسي منذ مطلع الألفية الجديدة وعرفت بمواقفها المتحالفة مع الولايات المتحدة وسياساتها في أمريكا اللاتينية كما كانت دائما تتبنى خطابا معاديا لحكومات اليسار في القارة وتتهمها بالديكتاتورية في الوقت الذي تصمت فيه عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي بل وتبررها تحت ذريعة الدفاع عن النفس وقد خاضت ماريا الانتخابات الرئاسية في فنزويلا عام 2024 بدعم وتواطئ غربي واسع لكنها فشلت في الوصول إلى الحكم بسبب انقسام المعارضة ورفض الشعب الفنزويلي للمشاريع التي تحاول ربط البلاد بعجلة النفوذ الأمريكي والإسرائيلي .
لم تخفِ ماتشادو تأييدها لتل أبيب حيث وصفتها بأنها شريك استراتيجي لفنزويلا في مواجهة الإرهاب واعتبرت إعادة العلاقات معها خطوة ضرورية لإعادة فنزويلا إلى المعسكر الحرّ بعد أن قطعها الرئيس الراحل هوغو تشافيز عام 2009 احتجاجاً على جرائم الاحتلال في غزة وان مسيرة تعاونها الطويلة مع إسرائيل لم نتوقف عند حدود التصريحات المؤيدة لعدوانها على غزة بل سبقت عملية طوفان الأقصى بسنوات من التنسيق السياسي مع حزب الليكود الإسرائيلي حيث وقعت في عام 2020 اتفاقا لتوطيد العلاقات بين حزبها وحزب نتنياهو في خطوة صادمة للرأي العام الفنزويلي الذي كان تاريخيا نصيرا لفلسطين ومناهضا للصهيونية كما أعلنت عام 2021 أنها في حال توليها الرئاسة ستعيد العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل وتنقل السفارة إلى القدس المحتلة وهو الموقف الذي وصفه محللون ومراقبون بأنه خضوع تام لإملاءات واشنطن وتل أبيب وتخل عن الإرث القومي والسيادي لفنزويلا وهي تمثل صوت واشنطن وتل أبيب في كراكاس .
اللافت ان فوزها بنوبل يدخل ضمن سلسلة تسييس الجائزة إذ جرى تكريم شخصيات مرتبطة مباشرة بالمصالح الأميركية في أكثر من محطة تاريخية وأن لجنة نوبل لم تراعي كل هذه الحقائق بل منحتها الجائزة بحجة تقدير نضالها من أجل الديمقراطية المزعومة في فنزويلا متجاهلة أن الديمقراطية لا تبنى على التحريض ولا على الاصطفاف مع الاحتلال ولا على تبرير القتل الجماعي للفلسطينيين حيث قدمت ماريا طوال مسيرتها صورة نموذجية للسياسية التي تبيع المواقف تحت شعارات براقة وتستجدي الدعم الغربي باسم الحرية فيما تمارس خطاب الكراهية ضد الشعوب الحرة التي تقاوم الاستعمار والهيمنة ..
المثير للسخرية أن جائزة نوبل للسلام التي كان من المفترض أن تكرم من يرسخ قيم الإنسانية والعدالة تمنح اليوم لمن يقف إلى جانب الجلاد ضد الضحية في وقت كان فيه عشرات الباحثين والمناضلين الحقيقيين حول العالم يقدمون إسهامات علمية وفكرية وإنسانية عميقة في مجالات بناء السلام وحقوق الإنسان والعدالة الانتقالية لكنهم تجاهلوا لأنهم لا يخدمون أجندة القوى الكبرى فبينما تهمش أصوات العلماء والناشطين الذين يعملون في الميدان لخدمة الفقراء والمظلومين ترفع إلى القمة شخصيات مثل ماريا كورينا التي لم تقدم للسلام سوى التبريرات السياسية للعدوان والقتل .
المتتبع لتصريحات ماريا يجد انها كانت دوما تحابي الغرب وتهاجم خصومه وتكرر الخطاب الأمريكي بكل تفاصيله وتحدث عن مساوئ الحرية وحقوق الإنسان في بلادها بينما تتغاضى عن كل المخالفات و الجرائم التي يرتكبها حلفاؤها فهي لم تجرؤ يوما على إدانة المجازر في فلسطين او غزة ولم تذكر معاناة الأطفال الفلسطينيين ولا حصار القطاع بل كانت تصف ما يحدث هناك بأنه نتيجة لما تسميه الإرهاب الفلسطيني في ترديد سمج وفج للسردية الصهيونية التي تحاول قلب الحقائق وتجميل القبح والجرائم .
الجائزة حين تمنح أعلى وسام للسلام لامرأة تؤمن بالحروب وتنادي بالكراهية وتبنّى مواقف يمينية متشددة ومعادية للمهاجرين والفقراء وتبرر العدوان وتدعو إلى خصخصة واسعة وتقليص دور الدولة إلى الحد الأدنى وتخدم أجندات الهيمنة تثبت إن نوبل اليوم لم تعد رمزا للنزاهة والإنصاف بل أداة سياسية تمنح حسب الولاءات والانتماءات لتعيد إنتاج الخطاب الغربي المتحيز وتشرعن الازدواجية في القيم والمعايير فضلا عن ارتباطها بعلاقات متينة مع أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا التي بعضها معروف بخطابه المعادي للإسلام والأجانب .
لقد آن الأوان لإعادة النظر في معايير منح جوائز السلام وألا تبقى حكرا على من يروق للغرب خطابه فكم من عالم منصف ومناضل حقيقي يستحق أن يكرم بدلا من أولئك الذين يزينون القتل بكلمات الحرية ويدعون الدفاع عن الديمقراطية وهم يقفون في صف القتلة والمستعمرين وإن جائزة نوبل في عامها هذا لم تمنح لرمز للسلام بل لمؤيدة للإبادة لتسقط مرة أخرى في امتحان الأخلاق وتكشف أن العالم الذي يدعي الإنسانية لا يزال يعيش في وهم التفوق الأخلاقي بينما حقيقة يغرق في مستنقع الرياء السياسي الاسن .
منذ تأسيس جائزة نوبل للسلام عام 1901 وهي تمثل رمزا للضمير الإنساني العالمي لكن مع مرور العقود بدأت السياسة تتسلل إلى أروقة لجنة الاختيار فتمنح الجوائز أحيانا لمن يخدم أجندات الدول الكبرى لا لمن يناضل فعلا من أجل السلم العالمي وقد شاهدنا ذلك في حالات عدة حين كرمت شخصيات مثيرة للجدل تورطت في الحروب أو سكتت عن المظالم في أماكن أخرى وهو ما يجعل منح الجائزة اليوم لماريا كورينا حلقة جديدة في سلسلة تآكل المصداقية الأخلاقية لهذه المؤسسة العريقة .
بينما يغيب اسم مناضلين حقيقيين مثل ناشطي السلام في جنوب أفريقيا أو العاملين في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين أو العلماء الذين كرسوا حياتهم لمكافحة الفقر والمجاعة تكرم لجنة نوبل شخصية لم تقدم أي إسهام حقيقي سوى الاصطفاف السياسي مع الغرب ضد قضايا الشعوب المقهورة إن تجاهل هذه النماذج الأصيلة لصالح شخصيات نفعية يعمق الإحساس بأن العدالة لم تعد معيارا في عالم الجوائز بل الولاء .
إن منح الجائزة لماريا كورينا لا ينفصل عن محاولة الغرب إعادة هندسة المشهد السياسي في أمريكا اللاتينية عبر دعم رموز اليمين الموالية له في مواجهة الموجة اليسارية المتصاعدة التي استعادت حضورها في البرازيل وتشيلي والمكسيك وبوليفيا فتكريم شخصية مثل ماتشادو لا يعني فقط مكافأة معارضة داخلية بل رسالة سياسية لتطويق صعود التيارات المناهضة لواشنطن ومحاصرة الخطاب الداعم لفلسطين الذي يشكل جزءا أصيلا من هوية أمريكا اللاتينية الثورية .
يبقى فوزها محاولة جديدة مكشوفة لتأجيج الصراع الفنزويلي الداخلي أكثر من كونه حدثٍ رمزي فهو يعكس استمرار الازدواجية الغربية في تعريف السلام والحرية حين تحتفى بمن يدعم الاحتلال وتقصى من يقاومه وتُكافأ من تتماهى مع أجندة واشنطن بينما تُشيطن الأصوات المستقلة بينما يصفها الإعلام الغربي بالمناضلة من أجل الديمقراطية يراها خصومها مجرد وجهٍ آخر لمشروعٍ سياسي يهدف إلى إسقاط الأنظمة المعادية للولايات المتحدة تحت شعارات إنسانية وهكذا، تحوّلت جائزة نوبل إلى رسالة سياسية أكثر منها إنجازاً أخلاقياً عنوانها من يدعم الاحتلال يمكنه أن يتوج بنوبل للسلام .
ختاما : السلام لا يصنعه من يبرر القنابل والقتل والتدمير بل من يوقفها ولا يقاس بمعايير الغرب المزدوجة بل بميزان العدالة الإنساني العام الذي لا يعرف لون الدم ولا هوية الضحية ولا دينه وحين تتحول جائزة نوبل إلى شهادة حسن سلوك للظالمين فإنها لا تكرمهم بل تدين نفسها أمام التاريخ والعالم .
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]
لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
|
|
الاسم : | |
البريد الالكتروني : | |
التعليق : | |