خيارات صعبة: كلفة الناقل الوطني وعبء الفاقد المائي على مستقبل الأردن


رم -


أحمد عبدالباسط الرجوب

خبير استراتيجيات المياه

أود القول ابتداءً إن الصراحة في إبداء الرأي بما فيه وجه المصلحة العامة مطلوبة، حتى لا تضيع تلك المصلحة في تلافيف المصانعة والرياء وتتلاشى بعوامل الجبن والاستحياء. ولا يضير أي مواطن - كحالتي عملت في إدارة واستراتيجيات المياه وفي رأس هرم المسؤولية سابقاً - أن تكون له وجهة نظر معينة في مسألة يدافع عنها ويجتهد في إقناع الآخرين للأخذ بها، ما دمنا نفعل ذلك بحسن نية في سبيل المصلحة العامة.

أزمة وجودية في بلاد اليابسة
لم يعد شح المياه في الأردن ترفاً فكرياً يُناقش في المؤتمرات، بل تحوّل إلى أزمة وجودية تهدد الأمن المائي والغذائي والاستقرار الاجتماعي. فحصة الفرد من المياه العذبة تنحدر باطراد نحو 60 متراً مكعباً سنوياًمن المياه السائلة (الزرقاء ) بحلول 2040، وهي أرقام تنذر بكارثة في ظل النمو السكاني المضطرد والضغوط المناخية. في هذا المشهد القاسي، تبرز مشاريع استثمارية كبرى مثل مشاريع الاداء الافضل "The Best Performance Water Projects" كمنقذ محتمل عبر استثماراتها في مشروع الناقل الوطني من البحر الأحمر، ولكن هل يكفي المشروع وحده لإنقاذ الموقف؟ أم أن الخلل أعمق، وهو خلل في بنية الحوكمة والإستراتيجية ذاتها؟

تشخيص الواقع: جذور الأزمة في عين العاصفة
يواجه الأردن عجزاً مائياً بنيويّاً يتفاقم سنوياً، لا بسبب ندرة الموارد الطبيعية فحسب، بل بسبب إدارة هذه الموارد. يمكن تلخيص جذور الأزمة في عدة مفاصل مؤلمة:

الاستنزاف والفاقد المهدر: تشير التقديرات إلى فقدان 50% من المياه المضخوخة في شبكات مياه الشرب، أي حوالي 250 مليون متر مكعب سنوياً، بسبب اهتراء البنية التحتية والفاقد الإداري. هذا الفاقد ليس رقماً مجرداً، بل هو مصدر مائي ضخم بين أيدينا. إذا ما تحقق تقليل فاقد المياه، وبحساب بسيط نستطيع ضخ (25% زيادة إلى الشبكات) من المياه كانت تذهب هدراً، حيث يعادل تخفيض ما نسبته 1% من الفاقد المائي ما معدله 1-2 مليون متر مكعب من المياه. هذه كميات مضافة للشبكات تساعد في التخفيف من العجز المائي بشكل فوري وفعّال التكلفة.
الزراعة.. المستهلك الأكبر: تستهلك الزراعة الحصة الأكبر من المياه، بينما تُهدر تقنيات الري بالغمر التقليدية ما يقرب من نصف هذه الكميات، خاصة في الأغوار. هذا يستدعي إعادة نظر جذرية في الترابط بين المياه والغذاء والطاقة.
إشكالية الحوكمة والقيادة: يعاني الهيكل التنظيمي لقطاع المياه من "عطب" واضح، مع أداء متواضع لشركات المياه، واختيارات قيادية لا تخضع دائماً للمنافسة والشفافة، مما ينعكس سلباً على أداء المشاريع الاستثمارية. وهذا يشمل أيضاً غياب أدوات الحوكمة الحديثة في إدارة المشاريع الكبرى، وكما اسلفنا حول اعتماد منهجيات "" نظام إدارة مشاريع قائم على السحابة (Cloud-Based Construction Management Platform) التي تضمن الشفافية والكفاءة في عمليات الشراء والتنفيذ، بعيداً عن البيروقراطية المعيقة. هل آن الأوان لفصل شركات التوزيع عن نقل المياه لتحقيق سيطرة أفضل على الفاقد؟
إستراتيجيات الرفّ: نتساءل بصدق: أين تذهب الإستراتيجيات الوطنية للمياه؟ يبدو أن الكثير منها يكتب بلغة إنشائية، بعيداً عن المشاركة الحقيقية لبيوت الخبرة والجامعات والمراكز البحثية، مما يحوّلها إلى وثائق "مسلوقة" تزين الرفوف بدلاً من أن تكون خارطة طريق عملية.
الناقل الوطني: الحل الاستراتيجي وأسئلة التكلفة والحوكمة
في هذا السياق، يأتي مشروع الناقل الوطني (العقبة – عمان) كأضخم مشروع في تاريخ الأردن، بهدف تحلية 350 مليون متر مكعب سنوياً. وهو مشروع حيوي وضروري لتعويض العجز المتنامي. ولكن نجاحه مرهون بتجاوز عدد من التحديات الجوهرية:

التكلفة والعائد الاجتماعي: يجب أن تكون كلفة المياه عند العداد متناسبة مع دخل المواطن. إذا تجاوزت 3% من دخل المواطن من الناتج القومي السنوية، يصبح بحاجة إلى دعم، وإذا تحملت الخزينة هذا الدعم، فإننا نعتمد حلاً غير مستدام. الشفافية في الكلفة الحقيقية للمتر المكعب وتمويل المشروع هي الأساس.
نموذج التملك والإدارة: لماذا لا نؤسس "شركة المياه الوطنية الأردنية" كشركة قابضة على غرار شركة الكهرباء الوطنية أو مصفاة البترول، تُطرح للاكتتاب للمستثمرين الأردنيين والأجانب؟ هذا النموذج يضمن الشفافية، ويجذب رأس المال، ويُبعد المشروع عن التقلبات السياسية والمحسوبيات.
التنفيذ والكفاءة: لا زلت عند رأيي حول تقسيم المشروع إلى حزم (1. حزمة محطة التحلية بالتناضح العكسي، 2. حزمة الخط الناقل مع أنظمة السكادا) يضمن المنافسة والحصول على أفضل الأسعار العالمية، وضرورة إدارة هذه الحزم عبر أنظمة متطورة مثل " نظام إدارة مشاريع القائم على السحابة (Cloud-Based Construction Management Platform) " لمراقبة الأداء والإنفاق بدقة.... موضوع مقالي ما كتبته في هذه الصحيفة الغراء بتاريخ 19/9/2022 (هل ينذر 2023 بالعطش والجفاف وهل من حلول استراتيجية للخروج من «عنق الزجاجة)..
خارطة الطريق المقترحة: نحو سياسة مائية شاملة
مشروع الناقل ضرورة، لكنه ليس بديلاً عن إصلاح جذري للمنظومة بأكملها. نحتاج إلى:

سياسة مائية جديدة: سياسة تقوم على منهجية التكامل بين الماء والغذاء والطاقة، وتُعد بمشاركة واسعة من كل الخبراء والجهات المعنية، بعيداً عن الاحتكار الفردي للرأي أو القرار.
ثورة في إدارة الطلب: خطة طوارئ وطنية لمكافحة وادارة الفاقد المائي (الفني والإداري) باستخدام العدادات الذكية والتقنيات الحديثة، وإصلاح أنظمة الري في القطاع الزراعي.
تطوير واستثمار المياه الجوفية العميقة لأغراض الشرب : المياه الجوفية العميقة غير المتجددة وهي تحت البادية الشرقية (شرق السكة) هائلة لسماكتها ولنفاذيتها! وايضا يوجد في الأردن ثروة وطنية من المياه الجوفية، في طبقة من الصخر الرملي العميقة، والواسعة الإنتشار وكما اسلفنا فإن طبقة الصخر الرملي العميقة تحتوي على مخزون مائي استراتيجي كبير، يكفي لسد احتياجات الأردن من المياه لعدة عقود قادمة، إذا ما أحسنا تصميمه وتطويره بأفضل الأساليب العلمية والتقنية..
وفي هذا الإطار، يجب أن تمثّل " مشاريع الأداء الأفضل " (The Best Performance Projects) ، سواء كانت شركة أو فريقاً أو مبادرة، النموذج الأمثل للتطبيق. فلا يجب أن يقتصر دورها على بناء البنية التحتية فحسب، بل يتمثل في تقديم أصول تعمل بأعلى معايير الكفاءة والموثوقية والاستدامة طوال دورة حياتها الكاملة. باختصار، مشاريع الاداء الافضل Best Performance تقدم بنية تحتية أذكى وأكثر متانة واستدامة، وهي بالضبط ما نحتاجه لمعالجة الفاقد المائي وإدارة مشروع الناقل الوطني بكفاءة.
ندوة وطنية شاملة: وهنا ننادي بالصوت العالي، ندوة يحضرها كل من له صلة بالمياه (وزراء سابقون وحاليون، خبراء، جامعات، هيئات مانحة) لوضع كل الإستراتيجيات السابقة على "طاولة التشريح" والخروج بخلاصات تنفيذية.
تم تحديد ستة أبعاد رئيسية للتميز في اعمال سلطة المياه وشركاتها والتي يجب التركيز عليها لبناء قدرتها الداخلية بما في ذلك التميز في الأصول ، والتميز التشغيلي ، وتميز الأفراد ، والتميز المجتمعي والاجتماعي ، وتميز العملاء ، والتميز التجاري. في كل من هذه الأبعاد ، تم تفصيل طموحاتها على المدى الطويل حتى عام 2030 وكذلك بالاضافة الى الاهداف المشتركة قصيرة المدى.
خاتمة: الماء حق.. والإدارة أمانة
لا جناح في الاختلاف في الرأي، فالحقيقة وليدة اختلاف الرأي. الماء ملكية جماعية، الناقل الوطني شريان حياة، لكنه يحتاج إلى جسد سليم (المنظومة الإدارية) لاستقباله. الحقبة القادمة تتطلب جرأة في التفكير وشجاعة في النقد وإرادة في التغيير. السؤال الملح: ما هي خطتنا للفترة ما بين اليوم ووصول أول قطرة محلاة؟ فالوقت ليس في صالحنا.

و أخيراً.. ننحي احتراماً للزملاء القائمين على إدارة قطاع المياه كل في موقعه ، معتمدين على جهودهم الخيرة لتحقيق رؤية سيد البلاد في التقدم والازدهار.




عدد المشاهدات : (4645)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :