هل كانت عملية 7 أكتوبر خطأ استراتيجياً أم زلزالاً أعاد رسم المنطقة؟


رم -
احمد عبدالباسط الرجوب

طوفان الأقصى: بين مغامرة الاقتحام ومحسوبية الرد.. هل انتهى زمن التفرد الإسرائيلي الاستراتيجي؟

هل عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023 مقاومة شجاعة أم مغامرة خطيرة أدخلت الجميع بهذا النفق؟

وهل هي عملية نوعية غير مسبوقة ولكن غير محسوبة؟.. بينما الرد الإسرائيلي كان نوعياً غير مسبوق محسوب؟

تظل هذه التساؤلات هي القلب النابض لأعظم زلزال استراتيجي هز كيان المشروع الصهيوني في نصف قرن. إن الإجابة عنها لا تكمن في اختيار أحادي، بل في تفكيك معادلة معقدة أعادت رسم حدود القوة والإرادة في المنطقة.

(1)

المقاومة الشجاعة والمغامرة المحسوبة: قراءة في معادلة طوفان الأقصى

لقد كانت "طوفان الأقصى" بكل المقاييس مقاومة شجاعة غير مسبوقة. لقد حطمت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، واقتحمت أعتى سجن في التاريخ (غزة) لتحرير أسرى، وردت الاعتبار لخيار المقاومة المسلحة بعد عقود من مسار التسوية العقيم. هي عملية قلبت الطاولة على كل الحسابات الإسرائيلية والأمريكية، وفرضت أجندة جديدة على العالم.

لكنها من جهة أخرى، وبحكم عدم التكافؤ الهائل في موازين القوى، كانت مغامرة محسوبة المخاطر من قبل قيادة المقاومة. لقد أدركت القيادة أن حالة الجمود والانحصار كانت تقتل القضية ببطء، فاختارت صدمة المواجهة المباشرة لإحداث زلزال إقليمي ودولي يفتح أبواباً جديدة كان من المستحيل فتحها بالوسائل التقليدية. النفق المظلم الذي دخلته غزة كان متوقعاً، لكن القيادة راهنت على أن الضوء في نهايته سيكون مختلفاً.

(2)

المفارقة الاستراتيجية: غير المسبوقة مقابل المحسوب

طوفان الأقصى: نوعي غير مسبوق ولكن...

كانت العملية غير مسبوقة في جرأتها وتوقيتها وتنفيذها التكتيكي الذي أبهر الخبراء العسكريين حول العالم. لكن يبدو أنها، على المستوى الاستراتيجي الأوسع، لم تكن محسوبة بالكامل لضخامة وحشية الرد الإسرائيلي المتوقع. ربما توقعت المقاومة رداً قوياً، لكنها لم تتوقع آلة إبادة بهذا الحجم الذي يتحدى كل الأعراف والقوانين الدولية. كانت خطة المقاومة تعتمد على "صدمة" التفوق الإسرائيلي و"كسر هيبته"، بينما كانت خطة الاحتلال تعتمد على "سحق" أي أمل بالمقاومة بشكل يضمن "إعادة الردع".

(3)

الرد الإسرائيلي: نوعي غير مسبوق ومحسوب.

كان الرد "نوعياً" في استخدامه لأحدث الأسلحة والتقنيات وأساليب الحرب الشاملة، و"غير مسبوق" في كثافته ووحشيته وصراحته في تبني خطاب التجويع والإبادة الجماعية. وكان "محسوباً" لأنه ينفذ وفقاً لعقيدة "البنى التحتية العميقة" التي تتبناها إسرائيل، والتي تهدف إلى تدمير أي مقومات للحياة في غزة لتحقيق أمنها، بغض النظر عن الثمن الإنساني أو السياسي. الحساب الإسرائيلي كان خاطئاً أخلاقياً وإنسانياً، ولكنه كان موجوداً ضمن إستراتيجية واضحة لديها.

(4)

امتدادات العاصفة: محور المقاومة يوسع جبهات النزال

لم تعد المعركة محصورة في غزة، بل امتدت لتكشف عن قوة محور المقاومة وتكامله:

جبهة لبنان: استشهاد القادة ووعود الانتصار

قدم حزب الله تضحيات جسيمة باستشهاد عدد من أبرز قادته الميدانيين، في إطار معركة "نصرة الغزة". لكن الاستشهاد الأبرز كان تلميذًا لاستشهاد القائد الكبير الشهيد السيد حسن نصر الله (في إشارة إلى خطابه التاريخي)، مما زاد من تصميم المقاومة على مواصلة الضغط على الحدود الشمالية لإسرائيل، وشتت قوات العدو وأربك حساباته.

جبهة البحر الأحمر: حرب البوارج وإعادة رسم الملاحة الدولية

دخلت "أنصار الله" (الحوثيون) في اليمن الخط الأمامي للمواجهة بشجاعة نادرة. عبر عملياتهم المستمرة باستهداف السفن المرتبطة بإسرائيل، نجحوا في تعطيل الملاحة الدولية في البحر الأحمر، وفرضوا تكاليف اقتصادية باهظة على العدو وحلفائه. هذه العمليات لم تكن "مناوشات" بل تحولت إلى حرب حقيقية ضد البوارج الأمريكية، كشفت عن قدرات نوعية غير متوقعة وغيرت معادلات القوى في أحد أهم الممرات المائية في العالم.

الجبهة السورية: بين فرار بشار وانهيار السيادة

على الجبهة السورية، كشفت الأزمة عن عمق المأزق. بينما أشيع عن فرار بشار الأسد من ساحة المواجهة الحقيقية، واصلت إسرائيل تدميرها المنظم للبنية التحتية السورية وتصفية قادة إيرانيين وسوريين على أراضيها، بل ووصل الأمر إلى احتلال مناطق شاسعة من الأراضي السورية بشكل علني. هذا المشهد يؤكد تراجع دور النظام السوري الرسمي في معادلة المقاومة، مقابل صعود دور الفاعلين غير الدوليين.

(5)

الغلو الإسرائيلي: الآلة التي تدمّر نفسها بنفسها

هنا تكمن المفارقة الكبرى. فبينما كان الهدف الإسرائيلي من الرد الوحشي هو "إعادة الردع"، فإن المبالغة في هذا القمع (الغلو) وتحويله إلى إبادة جماعية وتجويع ممنهج، قلب الطاولة على إسرائيل. المشاهد المروعة للأطفال الضحايا، والمجاعات، وتدمير المستشفيات، لم تترك للعالم متسعاً للحياد الأخلاقي.

تحول الرأي العام العالمي: شهدنا تحولاً تاريخياً في الرأي العام، حتى في عقر دار اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة وأوروبا. المظاهرات الطلابية في أعرق الجامعات، واستقالات كبار المسؤولين احتجاجاً، وتصويت عدد من الدول ضد إسرائيل في الأمم المتحدة، كلها مؤشرات على انهيار "ترخيص" إسرائيل الاجتماعي العالمي لممارسة القمع.

تراجع نفوذ اللوبي: أصبح اللوبي الإسرائيلي، خاصة "ايباك"، في أضعف حالاته. فشل في كبح جماح النقد المتصاعد داخل الحزب الديمقراطي، وفشل في منع تدفق المساعدات الإنسانية، وفشل في تحسين الصورة الكارثية لإسرائيل. العالم لم يعد يصدق الرواية الإسرائيلية كما في السابق.

(6)

المشهد الجيوسياسي: تفكك النظام القديم وبروز نظام جديد

تفاعلت الأزمة مع تحركات دولية كشفت عن تحولات عميقة:

مؤتمر نيويورك ومبادرة ترامب: يمثلان محاولة من القوى التقليدية (الولايات المتحدة) لإعادة فرض هيمنتها على صياغة الحل، ولكن بمنطق قديم لم يعد يتناسب مع الوقائع الجديدة.

قضية جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية: لحظة تاريخية. لم تعد إسرائيل دولة "فوق القانون"، بل أصبحت مُلاحقة قضائياً بتهمة الإبادة الجماعية. هذا انتصار دبلوماسي وسياسي وقانوني للقضية الفلسطينية.

التحرك العربي "الخجول": يعكس حالة الانقسام والضعف الاستراتيجي الذي تعيشه النظم العربية الرسمية، بينما تغلي الشارع.

معركة الـ 12 يوم مع إيران: كانت رسالة واضحة من محور المقاومة بأنه لن يترك ساحة غزة وحيدة، مؤكدة على مفهوم "الأمن المتكامل" للمحور.

(7)

خاتمة: ما بعد النفق.. ولادة نظام إقليمي جديد

اليوم، وبعد مرور أكثر من 730 يوما على "طوفان الأقصى"، يمكن الجزم بأن تلك المقاومة الشجاعة وتلك المغامرة المحسوبة قد حققت ما فشلت فيه كل الدبلوماسية العربية لعقود. لقد كسرت حاجز الخوف، وكشفت زيف "الديمقراطية" الإسرائيلية، وأطلقت عاصفة إقليمية شاملة أعادت رسم خريطة القوى.

إسرائيل التي راهنت على "الرد المحسوب" لتأبيد هيمنتها، وجدت نفسها في موقف دفاعي على جبهات متعددة: عسكرياً في غزة ولبنان، واقتصادياً في البحر الأحمر، وقانونياً في محكمة العدل، وأخلاقياً في الرأي العام العالمي.

"طوفان الأقصى" لم يكن مجرد عملية عسكرية، بل كان بداية النهاية لنظام الهيمنة الإقليمي القديم. الشهداء الذين هم "في عليين" كانوا وقود هذه الولادة الجديدة، ودماؤهم الزكية هي التي سقت شجرة الحرية التي ستثمر، بعون الله، مستقبلاً يختلف عن كل ما سبق.. مستقبل تُحترم فيه إرادة الشعوب، وتُرد فيه الحقوق إلى أصحابها.

باحث ومخطط استراتيجي



عدد المشاهدات : (4191)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :