ترشيح حاخام لبرلمان دمشق تحول داخلي أم مغازلة للخارج ؟


رم -
مهدي مبارك عبد الله

مع انطلاق أول انتخابات تشريعية في سوريا بعد التغيير السياسي الذي أطاح بنظام الأسد تتجه الأنظار اليوم إلى حدث غير مألوف يتمثل في ترشيح الحاخام اليهودي السوري هنري إبراهيم حمرة عن العاصمة دمشق في مشهد يعكس تحركًا لافتًا في المشهد السياسي السوري لكنه يطرح في الوقت ذاته تساؤلات عميقة حول مغزى هذه الخطوة ومدى تعبيرها عن تحول داخلي حقيقي في بنية الدولة والمجتمع السوري أم أنها تأتي في إطار رسائل سياسية موجهة للخارج في محاولة لإعادة تقديم سوريا بصورة جديدة منفتحة ومتسامحة خصوصًا أن هذه الانتخابات تجري في ظل غياب ثلاث محافظات رئيسية هي الرقة والحسكة والسويداء لأسباب أمنية مما يضع علامات استفهام على مدى شمولية هذه العملية وقدرتها على تمثيل كامل الجغرافيا والمكونات السورية

الطائفة اليهودية في سوريا ليست طارئة على الجغرافيا ولا على التاريخ فقد عاشت في دمشق وحلب وساهمت في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لعقود قبل أن تضعها التحولات الإقليمية في زاوية الاشتباه والتهميش مع تصاعد الصراع العربي الإسرائيلي وقيام دولة إسرائيل وما تبعه من اتهامات بالتجسس والولاء الخارجي وبالرغم من أن كثيرين من يهود سوريا حافظوا على انتمائهم الوطني إلا أن سياسات الأنظمة المتعاقبة ولا سيما في عهد حافظ الأسد وابنه بشار حوّلت الطائفة إلى ملف أمني مغلق فرضت عليه الرقابة ومنع السفر والتواصل مع الخارج حتى جاءت موجة الهجرة في أوائل التسعينات لتفرغ البلاد من معظم يهودها ولم يبقَ منهم اليوم إلا أفراد قلائل

في هذا السياق يبرز ترشيح هنري حمرة العائد من الولايات المتحدة وسط حملة انتخابية ذات نبرة وطنية واضحة يرفع فيها شعارات تتعلق بالتنمية والعدالة وحماية التراث الثقافي السوري بما في ذلك اليهودي ويحاول من خلالها التأكيد على انتمائه لسوريا كوطن وهوية وليس كملف ديني أو طائفي ولكن رغم صدقية الخطاب الفردي لا يمكن فصل هذا الترشيح عن المشهد السياسي الأوسع خاصة في ظل غياب ثلاث محافظات سورية أساسية عن العملية الانتخابية واستمرار الشكوك حول طبيعة النظام السياسي الذي يتشكل في البلاد ومدى تمثيله الفعلي لكل مكوناتها

الحكومة الانتقالية تسعى من خلال هذا الترشيح لإظهار أن سوريا الجديدة قابلة لاحتضان جميع مكوناتها بما فيها تلك التي طالها الإقصاء أو التجاهل خلال العقود الماضية إلا أن التوقيت الذي يأتي فيه هذا التحرك يطرح علامات استفهام عديدة خصوصًا في ظل استمرار العدوان على غزة واحتدام المشهد الفلسطيني الإسرائيلي حيث تبدو الخطوة وكأنها تحمل بعدًا خارجيًا أكثر منه داخليًا وتسعى إلى تلميع صورة النظام الجديد أمام الغرب وتقديم سوريا كدولة تتجه نحو التعددية والانفتاح بما يعزز فرصها في كسب الدعم الدولي ويعيدها إلى واجهة المشهد الدبلوماسي الإقليمي والدولي

المفارقة أن هذا الترشيح يأتي في لحظة لا تزال فيها الهويات الطائفية والعرقية والدينية في سوريا محاطة بحساسيات عالية ومع ذلك فإن اختيار شخصية يهودية لمنصب نيابي في دمشق يثير جدلًا حول مدى تقبل المجتمع السوري لهذا التغيير وهل هو نابع من قناعة داخلية حقيقية أم مفروض من الأعلى ضمن مسار إعادة هندسة الدولة الجديدة بما يتماشى مع شروط خارجية تتعلق بإعادة الإعمار والانفتاح السياسي والتطبيع الإقليمي

اللافت أن حمرة لا يطالب في برنامجه الانتخابي بامتيازات لطائفته بل يخاطب السوريين كافة من منطلق وطني وهو ما يعكس تحولًا في الخطاب لكنه لا يلغي الحاجة إلى مساءلة هذا التحول في ضوء الواقع السياسي الذي لا يزال هشًا وغير مكتمل فهل يمثل هذا الترشيح بداية فعلية لمرحلة جديدة يتجاوز فيها السوريون إرث الخوف والتوجس تجاه الآخر المختلف دينيًا أم أنه مجرد استعراض سياسي يخدم أهدافًا خارجية أكثر من كونه يعبر عن تغيير داخلي عميق

تاريخيًا كان اليهود في سوريا جزءًا من الحياة العامة يسكنون إلى جانب المسلمين والمسيحيين ويشاركون في الفضاء العام دون أن يشعروا بالغربة لكن تحولات الصراع وواقع الاحتلال الإسرائيلي وانهيار الثقة بين المجتمعات العربية واليهود ألقى بظلال كثيفة على الطائفة في سوريا التي تحولت تدريجيًا إلى طائفة غائبة أو مغيبة واليوم مع عودة أحد أبنائها إلى المشهد السياسي تطرح الأسئلة القديمة نفسها من جديد ولكن بصيغة أكثر تعقيدًا في ظل تطورات سياسية لم تستقر بعد ومشهد إقليمي يتغير بسرعة

إن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه ليس فقط ما إذا كان حمرة سيصل إلى البرلمان بل ما إذا كانت سوريا بالفعل مستعدة لاستيعاب كل مكوناتها على قاعدة المواطنة دون تمييز أو توظيف وهل يمكن الفصل فعليًا في الوعي الجمعي بين اليهودي السوري وبين إسرائيل كدولة تحتل أراضي عربية وتشن حروبًا متكررة على شعوب المنطقة هذه تساؤلات مشروعة يجب أن تطرح بجرأة لأن إعادة تعريف الهوية الوطنية السورية لا يمكن أن تقوم على رمزية فردية أو خطوة استعراضية بل على تحول شامل يعيد بناء الثقة ويضمن المساواة بين جميع السوريين دون تفضيل أو وصم أو انتقاء

وفي ختام هذا المشهد السياسي والاجتماعي المعقد لا يمكن التعاطي مع ترشيح الحاخام اليهودي السوري كحدث معزول عن محيطه الزمني والمكاني فهو يأتي في لحظة تحاول فيها الدولة السورية إعادة رسم صورتها داخليًا وخارجيًا وسط تراكمات الحرب والدمار والانقسام المجتمعي والرهان على التنوع الديني والثقافي باعتباره مدخلًا للتعافي الوطني لا بد أن يكون رهانا صادقا لا مجرد ورقة علاقات عامة تستثمر في الرمزية من دون عمق تطبيقي أو تحول مؤسسي فعلي إن الوصول إلى صيغة مواطنة جامعة في سوريا لا يتطلب فقط السماح ليهودي بالترشح

بل يتطلب إعادة بناء منظومة سياسية وقانونية واجتماعية تؤمن بحق الاختلاف وتحمي التنوع وتُخرج الأقليات من خانة الاستثناء الأمني إلى دائرة الشراكة الكاملة في صياغة مستقبل الوطن على قاعدة تكافؤ الحقوق والواجبات وفي هذا السياق فإن خطوة هنري حمرة قد تكون بداية حوار جديد حول معنى الانتماء ومعايير المواطنة في سوريا ما بعد الحرب لكن نجاح هذا الحوار مرهون بإرادة حقيقية لإعادة تعريف العلاقة بين الدولة ومكوناتها كافة دون تحيّز أو محاباة أو توظيف تكتيكي لأي مكون ديني أو اجتماعي

كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]




عدد المشاهدات : (874)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :