رم - بقلم الدكتور --فواز أبوتايه
لم يعد الحديث عن غزة اليوم مقتصرا على كونها ساحة مواجهة عسكرية مع الاحتلال بل تحولت إلى نموذج سياسي يثير أسئلة جوهرية حول شكل الحكم ومستقبل القضية الفلسطينية ومن بين هذه الأسئلة المقارنة مع تجربة طالبان في أفغانستان حيث يلوح في الأفق تشابه ما وإن كان في سياق مختلف تماما مع إرتباط ذلك بواقع سياسي أشد تعقيدا فرضته خطة ترامب التي سعت إلى إعادة هندسة المشهد الفلسطيني والعربي .
تشابهات البنية الحركية والشرعية لكتلا الحركتين – طالبان في كابول وحماس في غزة – صعدتا من رحم الصراع المسلح والمقاومة وإستمدتا شرعيتهما من مواجهة خصم خارجي طالبان ضد الإحتلال الأمريكي وحماس ضد الاحتلال الإسرائيلي وفي الحالتين جاءت السلطة عبر السلاح لا عبر توافق سياسي داخلي مما جعل القوة هي الضمانة الأساسية للبقاء والإستمرارية وأضيف كذلك بأن الحركتين تعيش التجربتان في بيئة محاصرة ومعزولة وتعامَلان من قبل الغرب بإعتبارهما "أنظمة متمردة" على الشرعية الدولية لكن هذه العزلة بدل أن تضعفهما عززت لديهما خطاب "الصمود" و"الممانعة" كعامل شرعية أمام شعوبهما والعالم .
الفوارق العميقة ورغم التشابه الظاهري إلا أن الفوارق كبيرة فأفغانستان بلد ذو سيادة وجغرافيا واسعة وموارد طبيعية ما منح طالبان مساحة مناورة دولية عبر بوابات الصين وروسيا وإيران وحتى الولايات المتحدة أما غزة فهي شريط ساحلي صغير محاصر من البر والبحر والجو ومجتمعها أكثر حضرية وأقل قابلية لإحتواء عزلة طويلة كالتي عاشتها أفغانستان كما أن طالبان ورثت دولة وإن كانت ضعيفة بينما غزة لم تنجح بعد في التحول إلى كيان سياسي معترف به وبقيت تدير شؤونها عبر إدارة شبه حكومية مرتبطة بشرعية السلاح أكثر من شرعية المؤسسات التي تمثل شرعية سلطته خارج التاريخ والجغرافيا.
سيناريوهات غزة وخطة ترامب ( صفقة القرن بحلتها الجديدة )لم تكن مجرد تصور لتسوية نهائية بل مشروع لإعادة صياغة الصراع بما يخدم الاحتلال وبالنسبة لغزة حملت الخطة ثلاثة سيناريوهات خطيرة أوجزها بمايلي :----
-تكريس الإنقسام الفلسطيني بحيث تبقى غزة كيانا منفصلا عن الضفة تدار بحكم حماس في مقابل سلطة ضعيفة في رام الله ما يعني إضعاف المشروع الوطني برمته .
التعامل مع غزة ككيان مستقل من خلال الإعتراف غير المباشر بها كـإمارة محاصرة أشبه بتجربة طالبان بحيث يُترك لها البقاء مقابل عزلها سياسيًا واقتصاديا عن دول الجوار والمنطقة.
--إدماج غزة في مشاريع إقليمية عبر بوابة مصر من خلال ربطها بمشاريع اقتصادية وتنموية تمولها دول خليجية في مسعى لفصل غزة تدريجيا عن مشروع الدولة الفلسطينية .
لكن لهذه السيناريوهات آثر على الأردن فالأردن يقع في قلب معادلة حساسة بالنسبة لغزة تكريس الإنقسام الفلسطيني أو إنشاء كيانات معزولة يزيد من الضغوط الأمنية والسياسية على المملكة ويطرح تحديات على دورها التاريخي كراعي للقضية الفلسطينية وحامي للهوية الوطنية والوصاية على المقدسات كما أن أي محاولة لإدماج غزة اقتصاديا أو سياسيا خارج الإطار الوطني قد يدفع الأردن إلى مواجهة مباشرة مع تداعيات إنسانية وأمنية بدءا من اللأجئين وصولا إلى الضغوط الإقليمية والدولية لتعديل مواقفه تجاه القضية الفلسطينية ومشروعها الوطني.
التحديات أمام إستنساخ نموذج طالبان في غزة لإعتماده نموذج حكم مغلق على غرار طالبان ستصطدم بجملة تحديات داخليا مجتمع غزة المثقل بالحصار والفقر والبطالة لن يحتمل إدارة عقائدية صارمة تزيد من عزلة الناس ومعاناتهم أما إقليميا غزة محاطة بكيان محتل وحدود مصر والأردن ما يجعل أي إنغلاق سياسي تهديدا مباشرا للأمن القومي لدول الجوار دوليا بينما فتح لطالبان باب إعتراف غير مباشر فإن حماس في غزة تواجه عزلة تكاد تكون مطلقة ما يجعل نموذج "الإمارة الإسلامية" محفوفا بالمخاطر وهنا أصل الى الخيار الفلسطيني الخاص فالتحدي الحقيقي أمام غزة ليس في محاكاة طالبان ولا في الإنزلاق إلى سيناريوهات خطة ترامب التي تريد تفكيك وحدة القضية بل في إنتاج نموذج فلسطيني أصيل يجمع بين شرعية المقاومة وشرعية المؤسسات نموذج يحافظ على الهوية الإسلامية والوطنية لكنه ينفتح على الداخل والخارج ويقدم مشروع حكم يخدم الناس لا يعزلهم ويحمي العلاقات الحيوية مع الأردن والدول العربية.
ختاما لتنتقل من المقاومة إلى بناء الدولة أصبحت الحاجة إلى برنامج سياسي وقائد جامع إن مقارنة غزة بطالبان تكشف أن الإعتماد على المقاومة وحدها كشرعية للحكم لا يكفي لصناعة مستقبل سياسي مستقر وإذا أرادت غزة أن تخرج من دائرة الحصار والعزلة فعليها أن تبحث عن صيغة فلسطينية جامعة لا أن تختزل في صورة "طالبان البحر المتوسط" إن حماس تحديدا مطالبة اليوم ببلورة برنامج سياسي واضح يتجاوز حدود المقاومة المسلحة وحدها ليؤسس لحكم رشيد قادر على الجمع بين شرعية البندقية وشرعية السياسة كما أن المرحلة المقبلة تحتاج إلى قائد جامع يلتف حوله الفلسطينيون بمختلف تياراتهم ليكون رمزا للوحدة الوطنية وركيزة لصناعة مستقبل يليق بتضحيات الشعب ويوازن بين مصالح غزة والأردن والحفاظ على الثوابت الوطنية قوة الأردن هي الرافعة الحقيقة للقضية الفلسطينية التي آن لشعبها أن ينال دولته على أرضه .