حل الدولتين بين طموحات الماضي وواقعية الحاضر


رم - د.منذر الحوارات

شكّل قرار تقسيم فلسطين عام 1947، وهزيمة الجيوش العربية عام 1948، جرحًا غائرًا في ضمير الشعوب العربية، جرحٌ غذّته أسئلة موجعة: كيف يمكن لكيان لم يتجاوز عدد سكانه مدينةً عربية متوسطة الحجم، ولم يتعدَّ عمره عشرات السنين، أن يهزم فضاءً حضارياً وجغرافياً وسياسياً يمتد آلاف السنين؟اضافة اعلان كانت الإجابة على هذا السؤال أصعب من اللغز نفسه، والمفارقة أنّ «الأعداء» عرفوا الإجابة أسرع من أهل الدار، أما شعوبنا فقد أجمعت، دون نقاش جاد، على أن السبب يكمن في: الخيانة، البُعد عن الدين، غياب الوحدة العربية، أو التآمر الغربي، امتلأت المجلدات بذكر هذه الأسباب، لكنّ أحدا لم يتعمق بجدية في دراسة هذا العدو الذي هزمنا، ليكتشف مواطن قوته وضعفه. صحيح أننا أدركنا أن الغرب يدعمه، لكننا لم نسأل بجدية: لماذا؟ هل لمجرد أنهم يكرهوننا كمسلمين أو كعرب؟ أم لأننا مهد الحضارة ويخشون من نهضتنا؟

وهل يكفي ذلك لتبرير هذا الدعم غير المحدود لإسرائيل؟ لقد اكتفينا بإجابات سريعة لم تثبت صحتها، بدليل أن إسرائيل واصلت هزيمتنا حتى اليوم. لقد هُزمنا في كل مشاريعنا الكبرى: من الدولة الوطنية الحديثة التي سُحقت بهزيمة 1948، إلى المشروع القومي الذي انهار بنكسة 1967، وصولًا إلى المشاريع الإسلامية، بشقيها السني والشيعي، الدولتية وغير الدولتية، التي ما يزال غبارها يملأ السماء، ومع ذلك، ما نزال ندور في دائرة المقولات ذاتها: الخيانة، المؤامرات، الوحدة المفقودة، والعودة إلى الدين.

الحقيقة أنّ إسرائيل هزمتنا عسكرياً وسياسياً، لأنها دولة تفكّر وتُحاسب وتنتخب، ولأنها امتداد ذهني للحضارة الغربية بكل قوتها ورمزيتها، فعندما يخاطب الإسرائيلي الغرب، يفعل ذلك بلسان الذات، بينما نخاطبه نحن بلسان الآخر، رغم أن مصالح الغرب لدينا أعمق وأكبر، إلا أنه يرانا «أصحاب نعم لا نستحقها»، ربما لأننا لم ندخل الحضارة الحديثة من بابها الحقيقي ــ الحداثة ــ بل من بابها المزيف: التحديث، بمظاهره الفارغة، لذا، يرى الغرب في إسرائيل انعكاساً لصورته، ويرانا مجرد ظلّ مشوّه لبريقه.

اضطررنا للانتظار عقوداً حتى نعترف بالحقيقة المرة: ما دامت الحضارة الغربية قوية ستبقى إسرائيل قوية؛ وما دمنا مجرد ظلّ، سنبقى في دائرة الهزيمة، ومن هنا عاد النقاش إلى المربع الأول: إلى عام 1948، بل وإلى حزيران 1967، حين سقطت المشاريع الكبرى وبرز الخيار السلمي السياسي مجددًا ممثلًا في حلّ الدولتين عبر الدبلوماسية. إن تبنّي خيار حل الدولتين اليوم ليس استسلاماً، بل هو خيار واقعي بعد فشل المواجهات العسكرية التي لم تزد إسرائيل إلا قوة، وتدرك تل أبيب أن القوة والسلاح ملعبها، ولهذا تعمل على تعطيل أي مسار سياسي، في المقابل، برز مؤخراً مسار دبلوماسي مختلف عبر تحالف دولي تقوده السعودية وفرنسا بمشاركة الأردن ومصر وعدد من الدول الإسلامية، والعربية والخليجية، وقد أثبت هذا التحالف أنّ للعرب أدوات دبلوماسية فاعلة، وأن بإمكانهم استثمار مصالح الآخرين ومخاوفهم لتحقيق نتائج ملموسة. نجح هذا الجهد العربي الإسلامي في استثمار المخاوف الدولية من انفجار الشرق الأوسط، وأطلق مبادرة واضحة المعالم لحلّ الدولتين. وقد تُوّج هذا المسار بمؤتمر الاعتراف بالدولة الفلسطينية الذي صوّتت فيه 160 دولة، وهو رقم كبير وذو دلالة تاريخية.

يُقلل البعض من أهمية هذه الخطوة بحجة أن «ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة»، وهذا صحيح لو كنا قادرين على توحيد القوى العربية والإسلامية عسكرياً نحو هدف التحرير الكامل، وهناك من يقول إن إسرائيل صنعت واقعاً في الضفة يصعب تجاوزه، وهذا أيضا صحيح، لكنّ التاريخ أثبت أن إسرائيل سبق أن فككت مستوطناتها في غزة عام 2005، وانسحبت من سيناء وطابا بعد قرار التحكيم الدولي. وبما أن خيار الحرب لم يعد واقعياً ــ لأننا هُزمنا فيه، ولأن الانتصار فيه يتطلب إصلاحات سياسية داخل كل دولة عربية ــ فإن المسار الدبلوماسي يبدو اليوم الأكثر منطقية، فالعرب، بخبرتهم السياسية واستقرار أنظمتهم، قادرون على استثمار المخاوف الأوروبية، خاصة تلك المرتبطة بأمن البحر المتوسط وأزمة اللاجئين التي تهدد الهوية الديموغرافية والثقافية لأوروبا، هذه المخاوف قد تتحول إلى أوراق ضغط على إسرائيل والولايات المتحدة بما يحقق مكاسب ملموسة للشعب الفلسطيني. إن حلّ الدولتين لم يعد مجرد شعار، بل أصبح واقعا سياسيا يفرض نفسه بعد عقود من الفشل العسكري والإيديولوجي، صحيح أنه ليس الحل الأمثل في نظر من يتمسك بفلسطين التاريخية، لكنه الحل الممكن في ظل موازين القوى الحالية، والسؤال الأهم: هل نملك الشجاعة للاعتراف بحدود قوتنا، وتوظيف أدواتنا الدبلوماسية بذكاء، بدل الاستمرار في الدوران داخل مربع الخيبة؟



عدد المشاهدات : (3966)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :