رم - مهدي مبارك عبدالله
في تصريح نادر حول العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة خرج الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما ليقول للعالم بانه " لا يوجد مبرر عسكري لمواصلة هدم ما هو أنقاض بالفعل " وأنه " لا يمكن لأطفال غزة أن يموتوا جوعًا " وطالب بضرورة إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل وهذه التصريحات جاءت ضمن فعالية عامة جرت في العاصمة الايرلندية دبلن وأثارت تساؤلات عديدة عن سبب هذا الصوت الان وعن مغزى صحوة الضمير المتأخرة من قبل رئيسٍ أمضى ثمانية أعوام في البيت الأبيض شهدت خلالها فلسطين بأكملها ويلات متزايدة من القصف والدمار والحصار وتوسع الاستيطان دون أن يُقدم فيها إلا خطابات ناعمة ومواقف متأرجحة ومؤجلة
السؤال الاولي في هذا الشأن ما الذي يدفع رئيسًا سابقًا للولايات المتحدة الأمريكية إلى أن يتحدث أخيرًا عن أطفال يموتون جوعًا تحت الركام في غزة المدمرة ؟ وكيف نفسر هذا النبض المتأخر في ضمير باراك أوباما الذي أطلق وعودًا كبيرة في بداية حكمه وانتهى عهده بمزيد من الدماء والحصار والتواطؤ مع الاحتلال وهل هي صحوة أخلاقية فعلاً أم مجرد محاولة لمحو البقع السوداء من صفحات ماضٍيه السياسي المثقل بالتناقضات والنفاق واللامبالاة ؟ حيث بدا اوباما كمن ينطق بحقائق مؤلمة عن الواقع لكنها فقدت قيمتها الزمنية واصبحت صدى باهت لنداء ضمير جاء بعد فوات الأوان وخراب المكان
منذ انتخابه في عام 2008 كرّس أوباما نفسه في أعين كثيرين بصورة الزعيم الأخلاقي الآتي من خلفية مختلفة والحامل لآمال الشعوب المهمشة والذي يمتلك رصيدًا من النزاهة الحقوقية والفكرية كرجل قانون وأستاذ دستوري لكن هذه الصورة سرعان ما تآكلت عندما واجه اختبارات حقيقية تتعلق بالقضايا العادلة في العالم وعلى رأسها القضية الفلسطينية حيث كشفت سنوات حكمه عن انفصال صارخ بين الشعارات والممارسة وبين الصورة النبيلة والكواليس السياسية المظلمة ولم يقدم للفلسطينيين إلا الوعود البراقة المؤجلة والتصريحات الإنشائية المؤثرة بينما كانت آلة الحرب الإسرائيلية تحصد الأرواح وتحول غزة إلى سجن معزول تحت الحصار والتجويع والدمار
في يونيو 2009 وقف أوباما في جامعة القاهرة مخاطبًا العالم الإسلامي بخطابٍ قيل حينها إنه " تاريخي " تحدث فيه عن بداية جديدة بين المسلمين والولايات المتحدة واعترف بحق الفلسطينيين في العيش بسلام وكرامة وانتقد الاستيطان الإسرائيلي علنًا وكثيرون حينها صدقوا أن ثمة تحولاً سيأتي وأن رجل القانون الدستوري الذي يعرف معاني العدالة وحقوق الإنسان لن يكون نسخة مكررة من أسلافه لكن ما أعقب ذلك الخطاب لم يكن سوى استمرار نمط السياسات الأميركية المنحازة لإسرائيل حيث لم يستخدم أوباما الفيتو الأميركي أبدًا لصالح الفلسطينيين بل استخدمه أكثر من مرة لحماية إسرائيل من القرارات الدولية التي تُدين جرائمها
هنالك حقيقة يجب فهمها حول خيانة أوباما المبكرة لغزة وفلسطين والتي لم تكن مجرد لحظة عابرة أو قرارًا اضطراريًا بل نهجا ومسارًا واضحًا منذ البداية عندما واجه أول اختبار سياسي تجاه الاستيطان الإسرائيلي وتراجع أمام الضغط الصهيوني وعندما صوتت الأمم المتحدة في عام 2012 على منح فلسطين صفة دولة مراقب حيث قادت إدارته حملة شرسة لإفشال القرار وهددت بقطع الدعم عن الدول التي ستؤيده
ايضا عندما حاول الرئيس الفلسطيني محمود عباس تحريك ملف العدالة الدولية تجاه اسرائيل وقفت إدارة أوباما ضده بكل الوسائل وأبقت مسار التفاوض العبثي مفتوحًا دون جدوى بينما كانت إسرائيل تبني المستوطنات وتسرق الأرض وتصعد سياسة القتل والتنكيل اليومي في الضفة الغربية والقدس المحتلة وهذا التواطؤ المبكر لم يكن نتيجة جهل بمجريات الاحداث بل نتاج قرار سياسي اختار الانحياز الكامل لمعادلة القوة وليس للعدالة ومغازلة اللوبي الصهيوني لا احترام القانون الدولي
رغم أن علاقة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بالرئيس اوباما ظاهريا اتسمت بالتوتر الشخصي إلا أن ذلك لم يُترجم إلى مواقف سياسية جريئة للجم جنونه وظل الدعم الأميركي لإسرائيل على حاله بل وتعمق حيث تم توقيع أكبر صفقة مساعدات عسكرية في تاريخ البلدين بقيمة 38 مليار دولار وهو ما لم تحظَ به أي دولة أخرى في العالم
إذا كانت تصريحات اوباما الأخيرة عن غزة أشارت إلى وجود كارثة إنسانية يجب وقفها فإن صمته حين كانت المجازر الشاملة ترتكب في عهده كان أبلغ وأكثر دلالة على جوهر موقفه الحقيقي من العدوان الاسرائيلي على غزة خلال عامي 2012 و2014 اللتان كانتا محك حقيقي لقياس مدى صدقية تلك الوعود في كلا العدوانين حيث ارتكبت إسرائيل مجازر موثقة بحق المدنيين العزل أطفال ونساء وابادت أحياء كاملة من الجو والبر والبحر ومع ذلك لم تتخذ إدارة أوباما أي خطوة فعلية لإيقاف الحرب أو محاسبة مرتكبيها بل استمرت في تسليح إسرائيل بأحدث الأسلحة وتوفير الحماية لها في مجلس الأمن الدولي من خلال الفيتو بشكل متكرر لمنع ادانتها كما ساهمت عمليًا في استمرار الاحتلال والحصار ومنعت أي مساءلة دولية عما يجري من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وقتها في غزة
في الباطن أوباما لم يكن أقل التباس عندما تعلق الأمر بالسلطة الفلسطينية وقياداتها رغم وعوده المتكررة بدعم حل الدولتين لم يُقدم أي غطاء سياسي حقيقي لرئيس السلطة محمود عباس الذي وجد نفسه في موقع المُحاصَر من كل اتجاه مقابل حكومة إسرائيلية متطرفة ترفض المفاوضات وتوسع الاستيطان وتفرض واقعًا عنصريًا على الأرض
السياسات الأميركية في عهد أوباما حافظت على نفس منطق الازدواجية المعتمد منذ عقود فبينما كانت ترفع شعارات حقوق الإنسان والحرية والعدالة في المحافل الدولية كانت واشنطن تغض الطرف عن آلاف الانتهاكات اليومية التي يتعرض لها الفلسطينيون من القتل الميداني إلى الاعتقال الإداري إلى الحصار الخانق على قطاع غزة الذي تحول إلى سجن كبير مكتظ بالمعاناة والموت البطيء وعوضًا عن العمل الجاد لرفع هذا الحصار أو حتى الاعتراف بكارثيته كانت الولايات المتحدة تشترط بضمان أمن إسرائيل مقابل أي تحرك إنساني وتربط أي انفراجة بموافقة تل أبيب مما جعل القضية الفلسطينية رهينة كاملة للميزان الإسرائيلي وللابتزاز السياسي الأميركي
مرة اخرى حديث أوباما عن ضرورة عدم تجويع أطفال غزة وقيام دولة فلسطينية يبدو الآن ككلمات عاطفية من سياسي متقاعد يملك رفاهية الكلام بعد أن فقد أدوات الفعل والتأثير لكنه لا يعفيه من المسؤولية التاريخية عما لم يفعله حين كان يستطيع لو أراد خصوصا وان أوباما لم يكن ضحية ضعف بل كان شريكًا في صناعة التوازن الزائف والمشهد العبثي الذي يجعل من المحتل والمحتل به طرفين متساويين ويحمل الضحية مسؤولية موتها
لقد مثّل عهد أوباما بالنسبة للفلسطينيين خيبة أمل كبرى لأنه أتى محمّلًا بالآمال لكنه انتهى جزءًا من آلة الانحياز الأميركي المنظّمة للهيمنة الإسرائيلية ولم يختلف عن غيره سوى في الأسلوب الخطابي الرشيق الذي غطّى على واقع سياسي شديد القسوة مما يؤكد ان صحوة دبلن لم تكن إلا مرآة عاكسة لضمير نام طويلا وجاء اليوم متأخر ليعتذر من نفسه أكثر مما يعتذر للضحايا وما أسهل النقد والجراءة بعد التقاعد وما أصعب الإنصاف حين يكون القرار بيدك والحق أمامك والجريمة مستمرة وما قاله عن ضرورة وقف الحرب وقيام دولة فلسطينية لا يختلف كثيرًا عما صرح به قبل 15 عام ولا عن خطاباته المتكررة التي اطلقتها الإدارات الأميركية عند كل جولة عنف في غزة وفلسطين لكن ربما الفارق الوحيد هنا أن هذا الصوت أتى بعد خروجه من الحكم واصبح بلا سلطة ولا تأثير وكأنه يريد غسل يديه من مرحلةٍ ساهم فيها هو نفسه بتعميق مأساة الشعب الفلسطيني وتحطيم امنياته
تذكرون أن أوباما رفض نهج "حماس الخبيث" كما أسماه لكنه لم يتحدث في دبلن عن نهج الاحتلال والقتل الممنهج والهدم والتجوع والابادة الجماعية المستمرة منذ أكثر من سبعة عقود كما انه لم يُسمّ الاحتلال باسمه ولم يُطالب بمحاسبة مجرمي الحرب بل استمر في استعراض أسلوب التوازن الزائف الذي يساوي بين الضحية والجلاد
في ذات الوقت يستمر نزيف الدم في غزة والضفة ومخيمات اللجوء والفلسطينيون لا يحتاجون اليوم إلى ( كلمات عزاء ) بل إلى نهاية حقيقية لهذا الاحتلال الاستعماري المدعوم أميركيًا بوجوه ناعمة تصنع التوازن وهمًا بل هم احوج إلى عدالة تخرج من اطار البيانات إلى ميدان الفعل الفعلي بقرارات تفرض لا تُناشد وإلى ضغوط دولية تردع ولا تُهادن وفي هذا كله لا زال أوباما لاعب في المسرحية الخطأ على خشبة مزيفة مكتوبة بماء الدبلوماسية المعلنة ونار النفاق السياسي المخفي
المفارقة الواضحة للجميع أن أوباما الذي يدعي اليوم أنه " كان ينتقد إسرائيل بشدة " ويصف ممارساتها باللاإنسانية هو نفسه الذي منحها طوال حكمه الغطاء الأخلاقي والسياسي لتستمر في مشروعها الاستيطاني والعنصري كما تواطأ مع نظام الأبارتهايد الإسرائيلي ليس بصمته فقط بل بنفاقه المنهجي الذي جعل من حقوق الفلسطينيين مجرد بند ضعيف في خطابات العلاقات العامة وليس في جداول السياسات الفعلية ومن الجدير بالذكر ان أوباما لم يسعَ بتاتا الى انصاف الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الذي اُغتيل وسط صمت دولي مريب ولم تمارَس الإدارة الأميركية أي أي ضغط أميركي لكشف الجناة حتى ولو من باب الرمزية الأخلاقية وظلت رمزيته الوطنية عرضة للتشويه والتجاهل من ذات القوى التي ساهمت في عزل القضية ولم تدعم القيادة الفلسطينية في مطالبها بالاستقلال والسيادة بل تركتها معزولة في مواجهة مجتمع دولي مشلول واحتلال مدجج بالدعم الأميركي اللا محدود
الآن وبعد فوات الاوان يستفيق ضمير اوباما في دبلن أو على هامش جمعية الأمم المتحدة وهذه الصحو لا تسهم في تغيير الواقع قيد انملة خصوصا وان تصريحاته الأخيرة ليست سوى تأريخ استعراضي متأخر لمجزرة مستمرة لا تعيد الشهيد ولا تحضر الفقيد ولا ترفع الحصار ولا توقف الابادة الجماعية او شلال الدم بل تأتي في توقيت آمن سياسيا ولا يكلفه شيئً سوى بضع تصفيقات من جمهور يبحث عن جمل عاطفية وسط مشهد ملوث بالقهر والاستقواء والظلم
حتى في آوخر أيام اوباما في الرئاسة امتنعت إدارته عن التصويت على قرار مجلس الأمن رقم 2334 الذي يُدين الاستيطان ولم يكن هذا الامتناع سوى استثناء يتيم لا يغيّر شيئًا من التوجه العام للمواقف الأميركية المتواطئة والتي تشكل العمود الفقري للحماية الدولية لإسرائيل وأن بقاء الخلافات الشكلية لم يسفر عن أي تغيير في الدعم غير المشروط لإسرائيل وحتى حينما ألقى نتنياهو عام 2015 خطابًا في الكونغرس دون إذن من البيت الأبيض والذي جرى تنسيقه مع المعارضة الجمهورية لم يكن الرد عليه سوى بتجميد مؤقت في البروتوكول السياسي بينما استمرت الطائرات الأميركية تهبط في مطارات الاحتلال محملة بأحدث أدوات القتل والتدمير
ختامًا : يجب الا نخدع بتصريحات أوباما الأخيرة التي لا تبرئه من مسؤوليته السياسية والأخلاقية تجاه ما جرى في غزة وكل فلسطين خلال ولايته وما يجري بعدها فالسياسة ليست فقط ما يقال في الخطب والبيانات بل ما ينفذ على الأرض وأوباما وعد ببداية جديدة لكنه أعاد إنتاج السياسات القديمة نفسها بفارقٍ وحيد هو استخدام اللغة الناعمة والدبلوماسية المزيفة في وقت لا زال فيه الفلسطينيون يُدفنون تحت الركام احياء ويموتون عطش وجوع وهم في محنتهم التي تجاوزت العامين لا يحتاجون كلمات مواساة متأخرة وتمثيل مكشوف بدون مواقف حقيقية
غزة الجريحة وشعبها المقاوم يطالبون العالم أجمع بوقف الابادة والعدوان والاعتراف بحقهم الكامل في( الحياة والحرية والعدالة والسيادة ) حتى مع ادراكهم الكامل بان نفاق أوباما هذا ليس إلا امتداد طبيعي مشين لمنظومة القيادات الأميركية المأزومة أخلاقيًا وسياسيا وهي تدير العالم بعين واحدة وانحياز فج وغطرسة ممجوجة حيث تمنح الاحتلال حصانة كاملة باسم الديمقراطية وتتعامل مع المجازر اليومية البشعة تحت عنوان " حق الدفاع عن النفس" ايها العرب لقد خذل أوباما غزة و فلسطين مبكرًا وها هو يصحو متأخرًا على وجع صنعه بيديه لكنها صحوة بلا اثر ولا تصنع فرقًا ولا تمحو الخيانة فلا تصدفوه لأنه منافق وكاذب
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]