رم - مهدي مبارك عبد الله
في الخامس عشر من سبتمبر / ايلول كل عام يحل اليوم العالمي للديمقراطية الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2007 ليكون فرصة مواتية لتسليط الضوء على مبادئ الديمقراطية وضرورة تعزيزها عالميًا والتأكيد على احترام الحقوق والحريات والمشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية لكن ما يبدو ان مناسبة الاحتفاء بالحرية تحولت إلى مفارقة مؤلمة حيث تتعالى فيها الشعارات بينما تُسحق الحقوق في معظم دول العالم في مفارقة كبرى تفضح التناقض الصارخ بين ما يُرفع في المحافل الدولية من مبادئ وبين ما يُمارس على الأرض من قمع وتسلط وديكتاتورية ممنهجة
يأتي هذا اليوم في ظل تراجع حاد وخطير لمؤشرات الديمقراطية والحرية في مختلف أنحاء العالم حيث تحولت صناديق الاقتراع إلى واجهة شكلية تستخدم لتجميل أنظمة لا علاقة لها بالحكم التعددي ولا تداول السلطة بينما يطارد المعارضون ويعتقل النشطاء وينفى المفكرون وتكمم الأفواه ويهندس الرأي العام من قبل أجهزة إعلام خاضعة أو مخترقة وكل ذلك تحت غطاء قانوني يتم تفصيله بحسب مقاس الحاكم ومزاج الأجهزة الأمنية
في الولايات المتحدة الأمريكية التي تقدم نفسها للعالم بانها منارة الديمقراطية الحديثة لا تزال مفاهيم التمييز العنصري متجذرة في البنية الاجتماعية والسياسية ولا تزال الطبقات المهمشة تعاني من الفقر والاقصاء في ظل سيطرة رأس المال على القرار السياسي وتغول اللوبيات المالية والعسكرية والصهيونية على الكونغرس والإعلام ومراكز التأثير لتتحول الديمقراطية هناك إلى عرض مسرحي كبير تنتهي فيه الإرادة الشعبية داخل صناديق مغلقة لا تمس جوهر السياسات التي تدار لصالح الأقلية الثرية والنخبة الحاكمة ثم تصدر تلك السياسات إلى الخارج عبر التدخلات والوصاية والدعم اللامحدود للأنظمة الديكتاتورية التي تحافظ على مصالح واشنطن ولو على حساب كرامة وحياة الشعوب
أما إسرائيل التي تتغنى بديمقراطيتها الفريدة في محيط عربي يغرق في الاستبداد فهي تمارس احتلالًا ممنهجًا يقوم على التمييز والفصل العنصري والإبادة السياسية والقومية تجاه الشعب الفلسطيني حيث لا يمكن الحديث مطلقا عن ديمقراطية في كيان بني على النفي والإقصاء والقتل والتهجير والمجازر والاعتقالات الجماعية والاستيطان ومصادرة الأراضي وتجريف القرى وفرض القوانين العنصرية التي تكرس التفوق العرقي اليهودي وتحرم الفلسطينيين من حق المواطنة والعدالة بل وتحول حياتهم اليومية إلى جحيم دائم تحت الحصار والقتل والحرمان والعالم المدعي للديمقراطية يقف عاجز أو متواطئ أو ممول لهذا الاحتلال البغيض
بينما في العالم العربي الصورة مختلفة كليا فالديمقراطية كذبة كبرى لا يكاد يصدقها حتى من يرددها فجل الأنظمة العربية يحكمها ملوك ورؤساء وأمراء وعسكر لا يقيمون وزنًا لإرادة الشعوب التي خرجت في أكثر من مناسبة تطالب بالحرية والعدالة والكرامة ليتم قمعها بالحديد والنار وتعود الأوضاع أكثر سوءًا مما كانت عليه من قبل حيث تحولت بعض الدول إلى ساحات للفوضى المدمرة بفعل الثورات المضادة وأخرى استقرت فيها أنظمة قمعية أكثر شراسة أعادت مؤسسات القمع والاستبداد إلى الواجهة بقوة مدعومة بتقنيات المراقبة والتجسس الحديثة والمواطنين لا يعرفون الديمقراطية سوى في نشرات الأخبار الرسمية
حتى في الدول التي تجرى فيها انتخابات صورية تكون نتائجها محسومة سلفًا لصالح الحاكم أو من يختاره لتزيين المشهد السياسي أما المعارضة فإما في تقبع السجون أو تطارد في المنافي أو تعيش تحت المراقبة والتهديد ناهيك عن الإعلام الموجه والمحاكم المسيّسة والقوانين المصممة على مقاس السلطان بحيث يتم استغلال الديمقراطية كقناع لشرعنة الاستبداد وتجميل الديكتاتورية أمام الرأي العام الدولي
المفارقة الأكثر مأساوية حين يتم رفع لافتات الديمقراطية في الإعلام الرسمي المسير بينما الواقع السياسي تحكمه انظمة استبدادية لا تقيم وزن لإرادة الشعوب ولا لحقوق الأفراد حيث يتم استخدام الانتخابات كديكور والبرلمانات كغرف تصفيق والتعديلات الدستورية كأدوات لتكريس الحكم في يد القلة والنخب الحاكمة فيما تملأ المعتقلات والسجون بالمعارضين والمعتقلين السياسيين ويلاحق المدونون والصحفيون والنشطاء ويحرض على اسكات كل رأي مستقل كما يصادر حق الناس الدستوري والقانوني في التنظيم أو التظاهر أو حتى التعبير عن الرأي عبر مواقع التواصل الاجتماعي
بعض الدول التي شهدت تحركات شعبية من أجل الديمقراطية والعدالة والكرامة قس الوطن العربي عادت فيها الأنظمة الطاغية الى إنتاج القمع بأشكال جديدة أكثر وحشية وقهر وعنف مما كانت عليه مع زيادة دعمها بالأموال الأجنبية والتكنولوجيا الحديثة والتبريرات الإعلامية والدينية والمساعدة تفكيك المجتمعات المدنية وتجفيف منابع الحرية وإضعاف النقابات وتدجين الأحزاب المعارضة بل وتوظيفها أحيانًا كشهود زور داخل مشهد ديمقراطي تمثيلي زائف ومضحك
المراقب السياسي لمسار للأحداث يرى التناقض الكبير في الموقف السياسي العالمي حيث تدين الدول الكبرى قمع الحريات في بعض الدول بينما تصمت تمامًا عنه في دول أخرى لأسباب تتعلق بالمصالح الاقتصادية أو الجيوسياسية أو الأمن المشترك مما يجعل الديمقراطية أداة انتقائية غير محايدة تستخدم متى شاء الغرب وتسحب متى شاء دون أي التزام حقيقي بمبادئ ثابتة أو قيم كونية موحدة
المهم عند الحديث عن الديمقراطية أن نستحضر أصولها الفكرية والتاريخية فهي ليست مجرد صندوق اقتراع بل ( فلسفة حكم ) قائمة على احترام كرامة الإنسان وضمان حقوقه السياسية والاجتماعية والاقتصادية وقد نشأت الديمقراطية كمفهوم سياسي في مدن اليونان القديمة وتطورت في أوروبا بعد قرون من القمع والإقطاع والملكية المطلقة إلى نماذج متعددة تعكس تطور الفكر البشري لكنها عندما وصلت إلى العالم العربي أو دول الجنوب العالمي غالبًا ما تم استيرادها كنموذج هش أو مبتور أو تم تفريغها من مضمونها وتحويلها إلى غطاء للأنظمة العسكرية أو الحزبية أو العائلية
يلاحظ جليا في التطبيق أن الديمقراطيات الغربية الكبرى تتعامل مع الديمقراطية كأداة سياسية يمكن التلاعب بها حسب مصالحها فحين تنتخب الشعوب قوى لا ترضى عنها هذه القوى الدولية يتم الطعن في نتائج الانتخابات أو دعم انقلاب عليها كما حصل في الجزائر عام 1992 أو فلسطين عام 2006 بينما تُقبل نتائج الانتخابات المزيفة في دول أخرى لأنها تنتج أنظمة حليفة أو تابعة وهذه الازدواجية تفضح النفاق السياسي الذي يجعل من الديمقراطية مجرد غطاء لتحقيق الهيمنة لا مبدأً أخلاقيًا يلتزم به الجميع
بالمطلق لا يمكن فصل الاحتلال عن الاستبداد فكلاهما وجهان لعملة واحدة فالاحتلال يمنع نشوء حياة ديمقراطية حقيقية ويغلق المجال العام ويفرض منظومة قمع على السكان لصالح سيطرة الأقلية المستعمرة بينما يحتمي المستبدون بالاحتلال أو يستغلون وجوده لتبرير استمرارهم في الحكم باسم محاربة العدو الخارجي وغالبًا ما تتقاطع مصالح الاحتلال مع النخب القمعية المحلية لتُشكّل تحالفًا طويل الأمد يسحق أي صوت شعبي حر
المغالطات الكبرى تتجسد بوضوح في محاولة تسويق الديمقراطية بمعزل عن العدالة الاجتماعية أو المساواة الاقتصادية أو السيادة الوطنية انه لا معنى لديمقراطية يعيش فيها الإنسان تحت خط الفقر أو لا يملك قدرة الوصول إلى التعليم المجاني بكل مراحلة أو لا يستطيع التعبير عن رأيه خوفًا من البطالة أو العقوبة أو التشهير وإن الديمقراطية لا تكتمل ايضا إلا حين تتحقق كمنظومة متكاملة تضمن توزيع الثروة بعدالة وتكافؤ الفرص بمساواة واحترام التنوع وتعزيز المشاركة الشعبية الفعلية
يبدو في الزمن الرقمي المعاصر انه لم تعد الأنظمة الدكتاتورية بحاجة إلى وسائل القمع البدائية السجون والشرطة بعدما طوّرت أدواتها عبر التكنولوجيا الحديثة حيث باتت تراقب المواطنين عبر تطبيقات ذكية وكاميرات منتشرة تحلل بياناتهم وسلوكهم الإلكتروني والمراقبة مستمرة والبيانات التي تستعمل أداة لترهيب الخصوم السياسيين والسيطرة على المجتمع من خلال الذكاء الاصطناعي وكاميرات التعرف على الوجوه والأصوات وتتبع الحركة الإلكترونية وهو ما يجعل القمع أكثر هدوءًا لكنه أشد فتكًا حيث يُسحق الإنسان في صمت وهو يحاصر في كل زاوية دون أن يشعر به أحد
امام كل هذا وفي ظل هذا الواقع المؤلم يصبح السؤال الكبير الذي يطرحه الأحرار في كل مكان أي ديمقراطية يحتفي بها العالم والحرية تُقمع والكرامة تُداس والدكتاتورية تُموّل والشعوب تُخذل ألا تستحق الديمقراطية أن تتحول من احتفال رمزي إلى فعل حقيقي يحرر الإنسان بدل أن يُخدّره بشعارات لا تسمن ولا تغني من جوع
اذا ما الجدوى من الاحتفال بيوم عالمي للديمقراطية في عالم لا يتوقف عن انتهاك الحريات ومطاردة الأحرار وتكميم الأفواه وهل يكفي أن نرفع الشعارات ونتبادل الخطب الرنانة بينما لا يسمح لمواطن في كثير من دول العالم بالتعبير عن رأيه أو اختيار من يمثله أو حتى الاعتراض على ظلم تعرض له دون أن يدفع الثمن من حريته أو حياته لقد تحولت الديمقراطية إلى سلعة يتم تصديرها حسب الهوى السياسي وتُفرض على شعوب بعينها بالقوة العسكرية بينما تُمنع عن أخرى لأن خياراتها لا تتماشى مع مصالح قوى الهيمنة الدولية
البشرية التي تعاني اليوم من أنظمة قمعية شرسة لا تحتاج إلى يوم رمزي تتغنى فيه الأمم المتحدة بالحكم الرشيد بقدر ما تحتاج إلى إرادة حقيقية لفك أسر الشعوب وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين ووقف الحروب الظالمة والدعم الأعمى للأنظمة القمعية وإعادة الاعتبار للحق في الاختيار الحر والمشاركة السياسية النزيهة ووضع حد لازدواجية المعايير في التعامل مع الديمقراطية التي لا تكون ديمقراطية إذا لم تكن شاملة وغير انتقائية
في النهاية ستبقى الديمقراطية حلم الشعوب النبيل والوسيلة الحضارية للخروج من نفق القمع الطويل لكنها حين تتحول إلى سلعة أو شعار سنوي وموسمي أو أداة سياسية تسقط كل معانيها وتصبح مجرد ورقة توت تغطي عورات الأنظمة والهيئات الدولية ويتحول الحديث عنها إلى مهزلة وسخرية لا يقبلها عاقل ورغم كل هذا تبقى الشعوب وحدها عبر نضالاتها المستمرة وتضحياتها المتواصلة وهي تملك القدرة على صناعة ديمقراطية حقيقية تنبع من وجدانها وتخدم مصالحها وتضمن كرامتها من أجل التحرر وبناء أنظمة تمثلها وتعبر عنها وتخدم مصالحها لا مصالح الطغاة أو القوى الخارجية وليس ديمقراطية مستوردة أو مزيفة تشرعن حكم الطغاة وتخدع الناس بالاحتفالات الفارغة في ظل القمع الناعم وسحق الحريات وامتهان الكرامات وضياع الحقوق
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]