.مهدي مبارك عبد الله
في لحظة مفصلية من تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وبينما تشتعل المنطقة بتحولات خطيرة وتحالفات جديدة تعيد رسم خرائط النفوذ والمصالح تقوم إسرائيل بتفعيل أخطر أدواتها الاستراتيجية في تفكيك الضفة الغربية من الداخل عبر مشاريع ظاهرها " الإدارة الذاتية " وباطنها " التصفية السياسية الكاملة " وفي هذا السياق يبرز مشروع " إمارة الخليل " كمبادرة اولية مقترحة من قبل وزير الاقتصاد الاسرائيلي " نير بركات " لاستبدال قادة السلطة الفلسطينية برجال عشائر محليين في اطار محاولة صهيونية منهجية لفصل الجنوب عن قلب الضفة وإنشاء كيان منفصل ومفصول عن السلطة الوطنية يخدم أمن الاحتلال ويقوض أسس الوحدة الوطنية الفلسطينية
مشروع إمارة الخليل بعد نقاشه المستفيض من قبل نتنياهو مع كبار المسؤولين الأمنيين والوزراء كرد على نية عدد من الدول الغربية من بينها فرنسا وبريطانيا وبلجيكيا الاعتراف بدولة فلسطين خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول المقبل لم يعد مجرد مبادرة عابرة أو فكرة هامشية بل اصبح خطوة مدروسة ضمن مشروع استراتيجي أوسع يستهدف إعادة هندسة الجغرافيا والسكان لصالح الاستيطان والضم وإخراج القضية الفلسطينية من إطارها التحرري إلى معادلات محلية ضيقة تدار بالعصبيات والاحتواء الأمني وإن ما يجري في الخليل ليس لعبة محلية بل محاولة لاجتثاث ما تبقى من فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة وتحويل النضال إلى نزاعات داخلية مغلقة تخدم الاحتلال وتبرر بقاءه وتقوض أي فرصة لقيام دولة فلسطينية مستقلة عبر خلق كيانات صغيرة معزولة تعترف بإسرائيل كدولة يهودية وتنخرط في معها تفعيل في اتفاقيات التطبيع التي أبرمتها مع بعض الدول العربية وقد ابدى جهاز الأمن العام ( الشاباك ) معارضته الكاملة للخطوة بحجة أن السلطة الفلسطينية تشكل جهة حيوية في مكافحة الأنشطة التنظيمية المسلحة كما تبرأت عشائر الخليل الفلسطينية في مؤتمر صحفي عام من مقترح إقامة إمارة عشائرية في المحافظة وأكدت التزامها بالثوابت الفلسطينية والالتفاف حول السلطة الشرعية
هذا المشروع الصهيوني لسرقة الأرض وتمزيق الوطن ليس جديد بقدر ما هو حلقة في سلسلة محاولات تفكيك الجغرافيا الفلسطينية وتفتيت الوحدة الوطنية عبر استخدام أدوات ناعمة وأخرى صلبة خصوصا في وقت لم يعد الاحتلال فيه بحاجة إلى الدبابات والمجارف ليقسم الأرض ويزرع الكيانات حيث بات يستخدم مفهوم الأمن المحلي والعشائرية والتفويض الذاتي كأدوات لتشظية الخريطة السياسية الفلسطينية تحت عباءة تحسين الإدارة المحلية أو تحقيق الاستقرار الأمني المحلي وهو ليس فقط محاولة لتقسيم الضفة بل جزء من خطة إقليمية تهدف إلى تغيير قواعد اللعبة السياسية حيث يتم توظيف الانقسامات الداخلية الفلسطينية كأداة لتثبيت الاحتلال وتعميق التفتيت والتجزئة
الملاحظ انه مع تصاعد الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية وفي ظل حالة الضعف والهشاشة الداخلية التي تعيشها السلطة الوطنية تتجه إسرائيل إلى إعادة هندسة بنية السيطرة في الضفة عبر صناعة ( أشباه كيانات ) تقدمها للعالم كبدائل واقعية للمشروع الوطني الفلسطيني ومن أبرز هذه المحاولات ما يعرف اليوم بمشروع إمارة الخليل الذي يستند إلى خلق كيان عشائري منفصل شكليًا عن الاحتلال لكنه واقعًا يتكامل مع رؤيته الأمنية والسياسية ويتموضع داخل خارطة الضم الاستيطاني الكبرى التي تسعى إسرائيل من خلالها إلى فصل جنوب الضفة عن شمالها وقطع الطريق على أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية ذات تواصل جغرافي وسيادي متكامل و مستقل
تاريخيًا كانت الخليل أكثر من مجرد مدينة فهي رمز ثقافي وحضاري ومركز اقتصادي وروحي فلسطيني ورافعة أساسية في المشروع الوطني فضلا عن مركزًها المحوري في النضال والثورة لذلك فإن أي محاولة لتقسيمها أو تفتيتها تحمل تداعيات خطيرة على مستقبل القضية لفلسطينية برمتها ولهذا تحديدًا بداءة تستهدفها المخططات الصهيونية ليس فقط بسبب موقعها بل بسبب تركيبتها العشائرية التي تحاول إسرائيل توظيفها عبر شخصيات محلية لخدمة مشروعها في الإدارة الذاتية التي تبدو ( مدنية الشكل لكنها أمنية الجوهر ) حيث تسعى إسرائيل إلى خلق " حكم ذاتي عشائري" لا يرتبط بالمشروع الوطني بل بالأمن الإسرائيلي وتحويل القضايا الوطنية الكبرى إلى ملفات خدماتية تفاوضية داخلية لا تتعلق بالصراع الدائر منذ اكثر من سبعين عام
الحقيقة ما يجعل هذه الخطة أكثر خطورة هو تزامنها مع حالة إقليمية ملتبسة تشهد تقاربًا بين إسرائيل وعدد من الأنظمة العربية تحت مظلة اتفاقيات التطبيع وهو ما يمنح الاحتلال شعورًا متزايدًا بالشرعية والغطاء السياسي لتحركاته الهادفة إلى تفكيك ما تبقى من وحدة الأرض والشعب فالحديث عن "إمارة الخليل" مجددا لا يمكن فصله عن السياق العام الذي يشهد فيه قطاع غزة عدوانً ممنهجً وإبادة جماعية منظمة تستهدف كسر إرادة المقاومة وفي ذات الحين يتم الضفة الغربية العمل على قضم المناطق جغرافيًا واجتماعيًا عبر سياسات تدرجية تبدأ بتأجيج الانقسام وتنتهي بفرض واقع ميداني لا يمكن التراجع عنه
على المستوى الميداني إن أي مشاريع من هذا النوع لا تنمو بمعزل عن أدوات تنفيذية بدأت بالفعل في الظهور مثل دعم المبادرات المحلية غير المرتبطة بالسلطة الفلسطينية وتقديم الخدمات الإسرائيلية بشكل مباشرة للمواطنين في بعض المناطق والعمل على تحييد قطاعات واسعة من السكان عبر الترهيب تارة والترغيب تارة أخرى مع تصاعد أدوار شخصيات محلية عميلة مثل ( الشيخ وديع الجعبري ابو سند ) تتبنى خطابًا محايدًا أو براغماتيًا ظاهرًا لكنه في جوهره يعكس رغبة الاحتلال في " إنتاج قيادة بديلة " تتعامل مع إسرائيل باعتبارها الطرف الضامن للاستقرار وليس باعتبارها قوة احتلال للالتفاف على الحقوق الوطنية الفلسطينية
المشهد الفلسطيني العام يزداد تعقيد في ظل غياب استراتيجية فلسطينية رسمية موحدة لمواجهة مثل هذه المشاريع فبينما تنشغل السلطة بأزماتها الداخلية ويستمر غياب الانتخابات وتهمش القوى الشبابية والمجتمع المدني ويتمدد الاحتلال في الفراغ السياسي ويعيد تشكيل الخريطة الوطنية عبر" الكانتونات العشائرية " والإدارات المحلية المفصولة عن سياقها الوطني وهو ما يحتم عاجلا استنهاض وطني شامل يعيد صياغة المشروع الفلسطيني على أسس المقاومة والصمود والتماسك الداخلي ومواجهة الاحتلال واعوانه
التجارب والمؤامرات السابقة بعمومها أظهرت أن الشعب الفلسطيني يرفض بإصرار اي محاولات تمزيقه لنسيجه الوطني سواء عبر السلطة أو الاحتلال أو أية مشاريع اخرى وسيطة وقد تجلى ذلك في رفض واسع النطاق داخل عشائر الخليل نفسها لهذا المشروع المشبوه وإعلان البراءة من أي شخص او كيان عشائري مفصول عن الإطار الوطني وهو ما يشير إلى أن الوعي الجمعي ما زال حاضرًا وأن محاولة بيع مشاريع الاحتلال تحت مسميات أهلية لن تمر بسهولة خاصة في ظل تصاعد دور الحركات الشبابية والمبادرات الشعبية التي تنقل الحقيقة للعالم وتدافع عن الرواية الفلسطينية بلغة يفهمها العالم لتكسر الحصار الإعلامي الذي طالما شكل غطاءً للجرائم الصهيونية وكذلك ايضا لتثبيت أقدامها في الأراضي الفلسطينية ومثل هذه الحركات الشعبية تبقى الأمل الاكبر في بناء جبهة وطنية موحدة ترفض كل أشكال التفرقة أو التبعية لان أي تأجيل أو ضعف في هذه المرحلة يعني تعميق سيطرة الاحتلال وزيادة معاناة الفلسطينيين
بالموقف الدولي بهذا الخصوص ما زال دون المستوى المطلوب فالأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية وإن أصدرت مرات عديدة بيانات شجب واستنكار متكررة إلا أن هذه الإدانات لم تتحول إلى إجراءات سياسية أو قانونية رادعة وما زال الاحتلال يستفيد من ازدواجية المعايير الغربية ويمنح الحصانة الكاملة في محافل المحاسبة الدولية وما يفاقم الأمر هو زيادة الانقسام الدولي في مواقف بعض الدول الغربية تجاه الاحتلال الصهيوني حيث يتم في بعض الأحيان دعم مبادرات متوازية تحت ذريعة " السلام والأمن " دون أن تراعي الحق الفلسطيني المشروع وهو ما يفرض ضرورة تعزيز العلاقات الفلسطينية مع القوى الشعبية العالمية وليس فقط مع الأنظمة الرسمية لان التحولات الكبرى تبدأ من الشارع لا من القاعات
في السياق ذاته جاءت هذه المبادرة الإسرائيلية بينما ترتكب إسرائيل وبدعم أمريكي كامل إبادة جماعية بقطاع غزة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 خلفت 62 ألفا و966 شهيدا و159 ألفا و266 جريحا من الفلسطينيين معظمهم أطفال ونساء وأكثر من 9 آلاف مفقود ومئات آلاف النازحين ومجاعة قتلت 317 فلسطينيين بينهم 121 طفل وبموازاة الإبادة في غزة تشن إسرائيل عدوان عسكري متواصل على الضفة الغربية أسفر عن استشهاد ما لا يقل عن 1016 فلسطيني وإصابة نحو 7 آلاف آخرين إضافة لاعتقال أكثر من 18 ألفا و500 وفق معطيات فلسطينية
الخطة الصهيونية المقترحة ليست مجرد تفصيل جانبي بل هي اختبار جديد للوعي الفلسطيني ولقدرة المشروع الوطني على الصمود أمام التحديات المركبة التي تجمع بين الاحتلال المباشر وتفتيت الهوية والانقسام السياسي والتهديد الاقتصادي والاجتماعي ولعل أخطر ما في ما فيها أنها تقدم نفسها كبديل مقبول وواقعي في ظل فشل كل من الاحتلال والسلطة في تحقيق الأمن والكرامة للفلسطينيين وهو ما يستدعي استنفارًا وطنيًا شاملًا يؤكد أن الحل لا يكون بمزيد من الانقسام والتشرذم بل في بناء مشروع مقاومة موحد يقوده شعب صامد وواعٍ ومتماسك
معركة فلسطين المستمرة ليست فقط على الأرض بل هي حرب وجودية ازلية بين إرادة شعب يرفض التفريط في حقوقه التاريخية عبر مخططات اجرامية تهدف إلى تفكيك وحدته وتشتيت نضاله وهو ما يعكس التحدي الأكبر الذي يواجه الفلسطينيين اليوم حول كيف يمكنهم الحفاظ على وحدتهم الوطنية ومشروعهم السياسي في وجه محاولات الاحتلال المتكررة لإعادة رسم الحدود والخرائط بما يخدم استراتيجيات السيطرة والاستيطان
ختامًا رغم كل هذه التحديات وصعوباتها تبقى إرادة الشعب الفلسطيني ووحدته الوطنية وصموده حجر الزاوية في مواجهة هذه المخططات الصهيونية وهو ما يستدعي دعم عربي ودولي حقيقي يعيد القضية إلى مكانتها العادلة على الساحة الاقليمية والدولية ويوقف مسلسل التآمر الكامل على حقوق الفلسطينيين حين تصبح الوحدة الوطنية وفعالية المؤسسات الفلسطينية ودعم المجتمع الدولي الحقيقي من اهم العوامل الحاسمة في مواجهة هذه التحديات بالإضافة الى ضرورة تفعيل دور الشباب الفلسطيني والمجتمع المدني المنظم في خلق موجة من الوعي والمقاومة الشعبية التي لا تسمح بانكسار الجبهة الداخلية عندها كل محاولات الاحتلال ستفشل في النهاية أمام إرادة شعب صامد يرفض الانقسام ويتمسك بحقه في الحرية والاستقلال
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]
لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
|
|
الاسم : | |
البريد الالكتروني : | |
التعليق : | |