رم - تكاد أغلب الدراسات التي تناولت الآثار النفسية لطوفان الأقصى تُجمع على أنه أفرز نموذجاً معاصراً لما يسميه علم النَّفس بـ"اضطراب ما بعد الصدمة". وتُشكّل ظاهرة الانتحار إحدى مخرجات اضطراب ما بعد الصدمة. حيث تشير البيانات المتوفّرة عن المجتمع الإسرائيلي خلال مرحلتين، هما: ما قبل طوفان الأقصى 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أي مرحلة ما قبل الصدمة، ومرحلة ما بعد الطوفان، ما بعد الصدمة، إلى تصاعد معدّلات الانتحار في الجيش الإسرائيلي بشكل واضح في مرحلة ما بعد الطوفان. وقد أفاد الجيش الإسرائيلي عن الارتفاع حاد في عدد حالات الانتحار منذ بدء الحرب على غزة، مضيفاً أنّ آلاف الجنود توقّفوا عن الخدمة القتالية بسبب الضغوط النفسية.
وفي هذا الصّدد، أصدر مركز الزيتونة ورقة علمية لبحث دلالات ذلك، وهي بعنوان: "اضطراب ما بعد الصدمة في المجتمع الإسرائيلي: نموذج انتحار العسكريين"، وهي من إعداد الأستاذ الدكتور وليد عبد الحي، خبير في الدراسات المستقبلية والاستشرافية. حيث رأى أن نظرية "اضطراب ما بعد الصدمة" تُشكّل المدخل الأنسب، لفهم انعكاسات طوفان الأقصى على المجتمع الإسرائيلي، وخصوصاً بين العسكريين.
وتبحث الورقة كيفية توظيف نظريات علماء النَّفس في فهم ظاهرة الانتحار في المجتمع الإسرائيلي، خاصة وأنّ "إسرائيل" تحتل المرتبة الأولى بين الدول الأعلى في نسبة الانتحار مقارنةً بنِسب الانتحار في بقية دول منطقة الشرق الأوسط.
يرى د. عبد الحي أن ارتفاع مؤشر العسكرة في "إسرائيل"، طول فترات الصراع منذ أكثر من 75 عاماً، وتتابع الحروب أو عمليات العنف العسكري هجوماً ودفاعاً بمعدل مرة كل أربعة أعوام، تعززت كلها بعد الطوفان، إلى جانب أن الطوفان أسهم في إعادة تشكيل صورة "إسرائيل" في المجتمع الدولي، فبدت دولة مارقة وصاحبة أعلى معدل إدانات من المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، بما فيها أهم المحاكم الدولية، وهو أمر سيكون له، من وجهة نظر النخبة الفكرية الإسرائيلية، تداعياته على المدى الطويل.
وجاء في الورقة أنّ ظاهرة الانتحار، التي عزّزها طوفان الأقصى في المجتمع الإسرائيلي، ليست منفصلة عن البنية العُصابية، والنزعة الإسبرطية، والإحساس بتصدع النموذج المزعوم وتنامي الإحساس بمظاهر اضطراب ما بعد الصدمة.
ولفت الباحث الانتباه إلى أن تحليل ظاهرة الانتحار لا يجوز أن يرتهن للبُعد الفردي في المجتمعات الإسبرطية، كما هو حال "إسرائيل"، لأنها مجتمعات عُصابية تسودها المخاوف والقلق الجماعي، وتميل للتعصُّب والعنف المفرط، وقد دلّت دراسات ميدانية على ارتباط واضح بين النزعة العدوانية في المجتمع وبين التكوين العُصابي لذلك المجتمع. وأشار الباحث أن تلك المجتمعات قد تتمكن من تحقيق نتائج ميدانية لفترات معيّنة وضمن ظروف معيّنة، لكنها تبقى مهدّدة بالتوتر الداخلي نتيجة البنية السيكولوجية العُصابية التي تقوم عليها.
وأشار الباحث إلى انفراد "إسرائيل" مع تايوان بين دول العالم بـ"ضغوط هاجس الزوال"، فكلما واجهت "إسرائيل" مأزقاً حاداً، أو انتكاسة ميدانية، استيقظ هاجس الزوال في العقل الجمعي الإسرائيلي، وهو ما يضيف إلى اضطراب ما بعد الصدمة بُعداً آخر، فتتعزز النزعة العُصابية، كما تدل الدراسات الإسرائيلية للموضوع، وتتجلّى في ظاهرة تنامي الانتحار بين العسكريين الذين أوكل المجتمع إليهم مهمة منع الزوال. خصوصاً مع تتابع الحروب بمعدل عالٍ، وهو ما يُكرّس البنية العُصابية لمجتمعٍ إمّا ينتحر أو يفرغ عصابيته في الأطفال والنساء والجوعى، كما يجري في قطاع غزة حالياً، أو يمارس تحايلاً معرفياً، طبقاً لنظرية ليون فيستنجر، بصناعة رواية للأحداث تتسق في مضمونها مع الأوهام المسيطرة على المنظومة المعرفية للمجتمع الصهيوني، مما يزيد البنية العُصابية تعقيداً.
وبحثت الورقة في المؤشرات الاجتماعية والنفسية الضاغطة التي تُفسِّر ارتفاع معدلات الانتحار في "إسرائيل" بعد الطوفان، خصوصاً بين العسكريين، فعزا الباحث الأمر لجملة عوامل أولها الإحباط والتوتر العالي عند العسكري الإسرائيلي نتيجة طول مدة الحرب بشكل غير متوقع، وعجزه عن استيعاب صمود المقاومة لهذه الفترة الطويلة، وعدم المقدرة على الانتصار السريع المعتاد في المخزون الذهني للجندي الإسرائيلي. كما أن حالة الاضطراب الداخلي في المجتمع الإسرائيلي، والذي يتجلّى في المظاهرات شبه اليومية، والتشكيك في القيادة، والأزمات بين السياسيين والعسكريين، تجعل الفرد الإسرائيلي، خصوصاً العسكري، يشعر بقدر من الارتكاس النفسي أو اضطراب ما بعد الصدمة؛ ما يعزّز لديه حالة اليأس ويدفع بمشاعر التفوّق إلى التواري. كما رأى الباحث في مطالبة الحكومة الإسرائيلية خلال المفاوضات بأن تتوقف المقاومة عن العروض المنظّمة والمهيبة التي ترافق تسليم الأسرى الإسرائيليين مؤشّراً ضاغطاً إضافياً، لا تجوز فيه النظرة العابرة؛ وقد دفع ذلك العديد من الخبراء الإسرائيليين لتأكيد الاختراق النفسي الذي قامت به المقاومة في المجتمع الإسرائيلي والعالمي على حدّ سواء.
وقد أظهرت الدراسة تصاعداً في المعدل السنوي للانتحار خلال سنوات الحرب 2023–2025، وهو ما أثار مخاوف بشأن أزمة صحية نفسية محتملة في الجيش، وبدا الارتفاع ملحوظاً مقارنةً بالسنوات السابقة. وشملj أكثر من نصف حالات الانتحار في سنة 2024 عناصر من جنود الاحتياط، وهو رقم يُعزى إلى الارتفاع الكبير في عدد جنود الاحتياط الذين تمّ استدعاؤهم منذ بدء الحرب.
وأوصت الورقة الجانب الفلسطيني بضرورة إيلاء الأبعاد والبُنية النَّفسية للمجتمع الصهيوني اهتماماً أكبر، وتحرّي ثغرات هذه البُنية النَّفسية والنظر في كيفية التعامل معها في الصراع والتفاوض والحروب الإعلامية.
للاطلاع على الورقة أو لتحميلها:
https://alzaytouna.us1.list-manage.com/track/click?u=938dbb6d837afd76810b4da18&id=d7e229f3d3&e=16748ab47f