رم - يمرّ مستذكرو سيرة الإعلامي الكبير إبراهيم شاهزاده رحمه الله، على شهادته في «الأدب المقارن»، مرور من يذهب سريعًا إلى محطات النجاح الأخرى في حياته التي حققها في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، وتدرجه في المناصب واشتغاله مذيعًا لنشرة الأخبار، وكونه مديرًا عامًّا للمؤسسة، وحضوره العربي والعالمي في اتحادات إعلاميّة أو ما شابه.
ويستذكر المشيّعون ومحبّو هذه القامة الإعلامية الكبيرة، رباطة جأش هذا الإعلامي وهو يقرأ نعي جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه على الأردنيين.
وأريد أن أقف عند شهادة الراحل في «الأدب المقارن»؛ وهي شهادة عالية ومتخصصة، تتيح للحاصل عليها أن يقلّب اللغة على الوجه الذي يشاء، فيغرد بها، ويطرب الأسماع ويشنف الآذان بهذه اللغة التي يؤكدها حصوله على مثل هذه الشهادة العالية، شهادة الأدب المقارن؛ ولذلك فإنّ جمهورنا الأردني والعربي أيضًا، ولدينا وفرة من الإعلاميين القدامى ومن يسير سيرهم، حينما يستذكر هؤلاء الرواد، فإنّه حتمًا جمهور يحفظ لأولئك الإعلاميين مقاطع معينة، ويرددها ويطرب على صوتهم في زمن لم يكن فيه «ذكاء اصطناعي»؛ فكان الصوت يأتي نقيًّا هادئًا أو قويًّا وفق قواعد إعلامية وإذاعية رصينة تشعر متلقي المذيع بهيبته وهو يبسط يديه فتتدفق من بين أصابعه وقلمه أنهار قوية وجداول هادئة من اللغة والمواضيع، في مواده الإعلاميّة وما يقرأه من أخبار.
فكان شاهزادة من الإعلاميين القديرين الذين سكنوا قلوب الناس، فحظيوا باحترامهم، حتى بعد تقاعدهم ومرضهم، وكم فرحنا لتكريمه في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون قبل مدّة وهو يعاني المرض والفاقة وظروف الحياة.
فالذي أريد قوله إنّ هيبة المذيع شاهزادة، وغيره من المذيعين الأردنيين والعرب، كانت في لغتهم وفي قوة عزمهم البياني، وحسن تخلصهم وكلماتهم التي باتت تميزهم عند من يستمع لهم؛ فكأنّما خُلقوا لأداء «النشرة» بصولتهم وحضورهم الذي بات جزءًا منا؛ فلا ينبغي لهم في نفوسنا إلا أن يكونوا بروتوكوليّين وجادّين، وأصحاب نبرة قوية مؤثرة، وهو ما يستذكره من كانوا أطفالًا ومتعلمين على شاهزادة الذي ولد نهاية الثلاثينات من القرن الماضي، وانتقل إلى رحمته تعالى، بعد رسائل من المرض الذي لا يترك أحدًا بحاله، ويأخذ منّا الرواد والنماذج المضيئة دائمًا؛ فتتواتر الأجيال.
وأنا أقرأ سيرته، في المواقع الإخبارية والصحف، وكيف أنه طلبته مؤسسة الإذاعة والتلفزيون ليقرأ نشرة الأخبار، حتى بعد تقاعده، وكيف أنه كان قويًّا بما يكفي ليقرأ نعي ملك عظيم بحجم جلالة الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه.،... دارت بين عينيّ ملامح إبراهيم شاهزادة ونبرة الصوت والثقة التي ميّزته وميّزت زملاءه الذين ودعوا الحياة، أو من بارك الله في أعمارهم، فكانت نبرةً رياديّة؛ فالشاشة الأردنية والإذاعة الأردنية كانتا، وبحق، مدرسة للآخرين والمتعلمين؛ يأخذ عنها الجميع أخبارهم وطرائقهم وأساليبهم في ذلك، فكان رحمه الله صاحب صوت قوي وهادر في مواضع تحسّ فيها أنك أمام إذاعي قدير، منسجم في سطوره التي يقرأها على الناس في «الثامنة» التي يضبطون عليها ساعاتهم ومفرداتهم ولغتهم؛ فكان لا يلحن في اللغة، وفاءً لشهادة الأدب المقارن التي يحوز، وكان من الأدباء المطبوعين والإعلاميين المطبوعين الذين نجحوا في الإعلام من نافذة اللغة، وكم من خطيب أو لغوي أو إعلامي كانت الناس تتمثله بينها وبين أنفسها وتنشأ عليه؛ كجزء من التدريب اللغوي الإعلامي، فلا يمكن لهؤلاء الإعلاميين اللغويين إلا أن يكونوا في مرتبة عليا، وتكون لهم سطوتهم على القلوب؛ بحضورهم الصارم وتقاليدهم الراسخة في الإعلام، والنماذج كثيرة في من كانوا بيننا ومن تغرّبوا وعادوا ينتقلون إلى رحمة الله بعد مشوار طويل.
في ما سبق، كانت أذن متلقي نشرات الأخبار موسيقيةً؛ باعتبار جيل الثمانينات والتسعينات وما سبقها من أجيال يأنفون من الخطأ في اللغة مهما صغر، وعزاؤنا بعد رحيل شاهزادة وزملائه أنّ المشهد الأردني الإعلامي الأردني ما يزال يفرز من الإعلاميين من يسيرون على طريق أولئك النوابغ، وبخطاهم يقتدون. (الرأي - ابراهيم السواعير)