رم - أ.د. علي النحلة حياصات
خلال العقود الثلاثة الماضية، اتخذت الحكومات الأردنية مسارًا واضحًا نحو إسناد المواقع القيادية للخبراء وذوي الخلفيات الأكاديمية، فيما يُعرف بالتكنوقراط. كان هذا التوجه يتصاعد عادة في لحظات الأزمات، خاصة الاقتصادية منها، بدعوى أن "الكفاءة الفنية" وحدها قادرة على إنقاذ الدولة من عثراتها.
دراسة حديثة، نُشرت مؤخرًا في مجلة علمية متخصصة، توضح أن نحو 57% من الوزراء الذين شغلوا مواقع في الحكومات الأردنية بين عامي 1989 و2020 كانوا من خلفيات أكاديمية وتقنية. وهو رقم ضخم يشير إلى تحوّل في طبيعة القيادة من السياسي إلى "الخبير". ورغم الوجاهة النظرية لهذا التحوّل، إلا أن نتائجه على أرض الواقع لم تكن بمستوى الطموحات. الأداء المؤسسي لم يتحسن بالشكل الملموس، والاقتصاد الوطني لم يخرج من أزماته، والأهم من ذلك: ثقة الناس بالدولة بقيت تتآكل.
فالكفاءة وحدها لا تغني عن الفهم , وربما لم يكن الخطأ في تعيين التكنوقراط بحد ذاته، بل في الاعتقاد بأن الإدارة الجيدة تُصنع داخل قاعات المحاضرات والمؤتمرات فقط. ما حدث فعليًا أننا استبدلنا التجربة الميدانية بالخبرة النظرية، والممارسة الواقعية بالتقارير الفنية، فأصبح القرار منفصلًا عن نبض الشارع، والسياسات تُصاغ بلغة لا يفهمها المواطن، ولا يثق بها.
وهنا، يحضرني مقال كتبته تحت عنوان (مدرسة الرعيان) منذ أكثر من 15 عامًا، حين بدأت ظاهرة ما سُمي آنذاك بـ"الصلعان" المتخرجين من جامعات أجنبية مرموقة، في بسط نفوذهم على مفاصل الاقتصاد الأردني، متبنين نهج الخصخصة والتقشف والانضباط المالي دونما مراعاة كافية للواقع الاجتماعي. في تلك اللحظة، شعرت بحاجة إلى استحضار صورة بسيطة لكنها بالغة التعبير.
كنت قد كتبت بما معناه, في الأرض المقابلة لمنزلي، يقيم راعٍ بسيط خيمة كل ربيع، بعد أن يمضي شتاءه في الأغوار هربًا من البرد. يزرع أرضه بالشعير والقمح وبعض الخضروات، يحصد ما يحتاجه، ويطعم دوابه ومواشيه وفق خطة يومية دقيقة. لا يستهلك أكثر مما ينتج، ولا يقترض، ولا يهدر. ينظم يومه بعقلية موسمية، ويدير موارده بمرونة. والأهم: يُعيد الكرة عامًا بعد عام دون خسائر.
ذلك الراعي لا يحمل شهادة في الإدارة، ولا يعرف شيئًا عن الرؤية (vision) أو الرسالة (mission)، لكنه يملك حسًّا فطريًا بالإدارة يفوق كثيرًا من الجالسين خلف المكاتب الوزارية.
لقد اعتدنا أن نصف الإدارات المرتبكة بأنها تُدار "بعقلية الرعيان"، وكأنها تهمة. لكن الحقيقة أن هذا الراعي الذي يعمل بصمت، ويدير محيطه بحكمة، ويخرج في نهاية كل موسم برصيد إيجابي، يستحق أن تُدرس تجربته.
إن ما ينقص الإدارة العامة في الأردن اليوم ليس الشهادات، بل البصيرة. ليس النظريات، بل الفهم الحقيقي لكيف تُدار الموارد. فالكفاءة التي لا تقترن بالحكمة، والخطة التي لا تُبنى على فهم للميدان، تتحول إلى ممارسة نظرية معزولة عن الواقع. وهنا يكمن جوهر الفرق بين "الراعي" و"الخبير المعزول".
لا أهاجم التكنوقراط بحد ذاتهم. بعضهم أدى أداءً مشرفًا، وقدم حلولًا فنية ذات قيمة. لكن حين يُعزل التكنوقراط عن السياسة والمجتمع والرقابة، يتحول إلى منظّر يعيش في برج عاجي، بعيدًا عن نبض الناس. بينما الراعي الذي يدير قطيعًا وأرضًا، قدّم نموذجًا بسيطًا لكنه مكتمل الأركان في التوازن، والتخطيط، والاستدامة.
من هنا، أطرح بجدية أن نُدرج "مدرسة الرعيان" ضمن نظريات الإدارة الحديثة. لا كرمزية شعبية فحسب، بل كنموذج عملي لإدارة الموارد بفعالية، والتخطيط الموسمي، والعمل ضمن الإمكانيات، والربط بين القرار والنتيجة.
لسنا بحاجة إلى مزيد من الاستراتيجيات على الورق، بل إلى فهم أعمق للناس والأرض والموارد. الإدارة ليست ما نقرأه، بل ما نمارسه وننجزه. وأحيانًا، نجد في خيمة راعٍ دروسًا أعمق من كل ما يُقال في المؤتمرات والاجتماعات.
فربما، آن الأوان أن نسأل: هل نحتاج إلى تكنوقراط أكثر، أم إلى حكماء أكثر؟ وهل نبحث عن خطط أكثر، أم عن فهم أصدق؟ أترك لكم الإجابة.