(ح17) مذكرات أخطر جاسوسة انجليزية (من 1907 – 1926)


رم - (ح17) مذكرات أخطر جاسوسة انجليزية (من 1907 – 1926)
Gertrude Lowthian Bell
ماذا كتبت عن الأردن وعشائره واهميتهما

ترجمة وتحليل وتعليق المؤرخ المفكر
د. أحمد عويدي العبادي (أبو البشر ونمي)
دكتوراه من جامعة كامبريدج البريطانية – 1982م
21 = الرسالة 21 (1905) – الوصول إلى بغداد وانطباعات أولى
"دخلنا بغداد من الجهة الشمالية، فإذا بالمدينة تستقبلنا بأبوابها وأسوارها التي ما تزال تحتفظ بملامح قديمة رغم تقادم الزمن. منظر النخيل الكثيف على ضفاف دجلة أعطى انطباعًا بأننا وصلنا إلى واحة عظيمة في قلب الصحراء."
"في داخل المدينة، الشوارع ضيقة متعرجة، لكن الأسواق تعج بالحياة. رأيت الباعة يعرضون كل ما يخطر على البال: التمر من الجنوب، الأقمشة الحريرية من الهند، البهارات من الخليج، والسجاد من إيران وكردستان. كان السوق بمثابة صورة مصغرة عن الشرق كله، ملتقى الطرق والبضائع والثقافات."
"مررنا على خان مرجان، وهو خان قديم يستقبل القوافل والتجار. أروقته العالية وأبوابه الضخمة تذكّر بزمن كان فيه السفر والتجارة أساس الثراء. جلست في فناء الخان، وأحسست أنني أشارك لحظة من حياة آلاف التجار الذين مروا من هنا عبر القرون."
"زرت أيضًا بعض المدارس الدينية القديمة. في إحدى الزوايا رأيت طلبة يجلسون حول شيخ يقرأ عليهم من كتب الفقه. بدا المشهد وكأن الزمن توقف عند لحظة من لحظات بغداد العباسية."
"كتبت في دفتري: (بغداد مدينة تحمل وجهين: وجه الأسواق الصاخبة التي تجلب من الشرق والغرب، ووجه التراث العباسي الذي ما زال يلقي بظلاله على الحاضر. إنها مدينة الماضي والحاضر معًا)."
22 = الرسالة 22 (1905) – ضيافة وجهاء بغداد والحياة الاجتماعية
"في بغداد استضافني بعض وجهائها في بيوتهم المطلة على دجلة. البيوت واسعة، ذات أفنية داخلية تزينها الأشجار والنوافير، والغرف تطل على الفناء بشرفات خشبية مزخرفة. جلست في إحدى هذه الغرف، وقدمت لي سيدات البيت القهوة والشاي مع الحلوى الشرقية."
"لفتني الدور الكبير للنساء داخل هذه البيوت. فهن لا يشاركن في الأسواق أو المجالس العامة، لكنهن يحكمن من وراء الستار، بتنظيم شؤون البيت وتربية الأبناء والمحافظة على التقاليد. إحدى السيدات حدثتني عن تعليم أولادها القرآن واللغة العربية، وقالت: (الأبناء هم رأس مالنا). كانت كلماتها تعبّر عن وعي عميق بأهمية التعليم في حفظ المكانة."
"في مجالس الرجال، رأيت الوجهاء يجلسون على البُسط المزخرفة، يتبادلون الحديث عن التجارة والسياسة. بعضهم كان يذكر أخبار إسطنبول، والبعض الآخر يتحدث عن طرق التجارة مع الهند والخليج. بدا واضحًا أن بغداد تعيش على اتصال دائم بالعالم الأوسع."
"أحد الشيوخ قال لي: (بغداد ليست كما كانت في أيام هارون الرشيد، لكنها ما زالت قلب الشرق). كانت عبارته تعبيرًا عن شعور بالفخر، ممزوج بالحسرة على ماضٍ مجيد."
"كتبت في دفتري: (الحياة الاجتماعية في بغداد مزيج من تقاليد راسخة وانفتاح على العالم. البيت هو مركز النفوذ الخفي، والسوق هو ميدان النفوذ الظاهر)."
23 = الرسالة 23 (1905) – من بغداد إلى بابل وأطلالها القديمة
"غادرت بغداد متجهة جنوبًا بمحاذاة دجلة، وكان الطريق محفوفًا ببساتين النخيل الواسعة. أشجار النخيل هنا تمتد بلا نهاية، تعطي الأرض منظرًا أخضر يبعث الطمأنينة. بين الحين والآخر كنا نمر بقرى صغيرة يعيش أهلها على زراعة الحبوب والتمر."
"بعد مسيرة يومين وصلنا إلى أطلال بابل. وقفت مبهورة أمام ما تبقى من جدرانها وأسوارها العظيمة. رأيت بقايا بوابة عشتار، وزخارفها التي كانت يومًا ما تلمع بألوانها الزرقاء والزخارف البابلية الشهيرة. أحسست أنني أسير بين أطياف حضارة هائلة لم يترك الزمن منها إلا الشواهد الصامتة."
"كان أهل القرى المجاورة ينظرون إلى هذه الأطلال بفضول، لكن دون وعي بتاريخها العميق. سألت أحدهم: (ماذا تسمون هذا المكان؟) فقال: (نحن نقول إنه بقايا قصر قديم). بدت الفجوة واسعة بين ماضٍ مهيب وحاضر بسيط."
"جلست طويلًا أتأمل حجارة بابل، وأتخيل مواكب الملوك والكهنة الذين مروا من هنا قبل آلاف السنين. شعرت أنني أمام مدينة لم تمت تمامًا، بل ما زالت تلقي بظلالها على هذه الأرض، حتى وإن غابت دولتها."
"كتبت في دفتري: (بابل تذكير بأن الحضارات تصعد وتنهار، لكن أثرها يبقى في الأرض والذاكرة. هذه الحجارة الصامتة أبلغ من كل كتب التاريخ)."
الرسالة 24 (1905) – كربلاء والنجف والحياة الدينية
"من بابل واصلنا السير جنوبًا حتى بلغنا كربلاء، فوجدت المدينة تغص بالزوار. الحرم الشريف يعلو فوق الأسوار، وقبابه الذهبية تلمع تحت شمس العراق. كان الناس يفدون من كل صوب، رجالًا ونساءً، يرفعون الأدعية ويذرفون الدموع عند الضريح. لم أرَ في حياتي مشهدًا يضاهي هذا في قوة العاطفة الدينية."
"في السوق المحيط بالحرم تباع السبح والمصاحف الصغيرة والرايات، وكل ما يرتبط بالشعائر. بدا أن الحياة الاقتصادية للمدينة تقوم إلى حد كبير على خدمة الزوار. قال لي أحد التجار: (نحن نعيش من بَرَكَة الزوار). وكانت العبارة كاشفة عن العلاقة الوثيقة بين الدين والمعاش."
"من كربلاء سرنا إلى النجف. الطريق كان حارًا متعبًا، لكن التعب يزول عند رؤية قبة الإمام علي تلمع في الأفق. دخلنا المدينة فوجدناها أكثر هدوءًا من كربلاء، لكنها لا تقل قداسة. طلاب العلم يجلسون في أروقة المدارس الدينية، وأصوات الدروس تتردد في الهواء. بدت النجف كأنها مدينة مكرسة بكاملها للعلم والدين."
"حدثني أحد طلاب الحوزة قائلاً: (نحن نأتي من بلاد شتى لطلب العلم هنا، فالنجف قبلة الفقهاء). كان كلامه صادقًا، فقد رأيت وجوهًا من إيران والهند والعراق، جميعهم يجتمعون في طلب العلم الشرعي."
"كتبت في دفتري: (كربلاء والنجف هما قلب العراق الديني. في الأولى يتجسد البعد العاطفي للشعائر، وفي الثانية يتجسد البعد العلمي والفكري. معًا يشكلان محورًا لا غنى عنه لفهم روح هذه البلاد)."
25 = الرسالة 25 (1905) – من النجف إلى البصرة ومشهد التجارة
"غادرنا النجف متجهين جنوبًا، وسرنا أيامًا في أراضٍ تزداد رطوبة كلما اقتربنا من شط العرب. النخيل هنا لا يُعد ولا يُحصى، يغطي الأفق في غابات خضراء متصلة. المياه تجري في الجداول والقنوات، والسكان يعيشون على زراعة التمور وصيد الأسماك."
"وصلنا إلى البصرة، فبدت لي مدينة مختلفة عن سائر مدن العراق. هنا يلتقي الشرق بالغرب في ميناء واحد. رأيت السفن البريطانية راسية في الميناء، محملة بالبضائع القادمة من الهند وزنجبار والخليج. وفي الأسواق وجدت البهارات الهندية، والشاي الصيني، والأقمشة الأوروبية، كلها تباع جنبًا إلى جنب مع التمر العراقي."
"المدينة ذات طابع متنوع، سكانها خليط من العرب والفرس والهنود واليهود. سمعت لغات متعددة في الشوارع: العربية والفارسية والهندية والإنجليزية. بدا المشهد كأنه صورة مصغرة عن العالم كله اجتمع في مكان واحد."
"جلست مع تاجر عربي في خان قديم يطل على الميناء. قال لي: (البصرة هي باب العراق إلى البحر، ومن لا يملكها لا يملك التجارة). كانت كلماته معبرة عن وعيهم العميق بأهمية موقعهم الاستراتيجي."
"كتبت في دفتري: (البصرة مدينة عالمية بامتياز، تجمع في شوارعها وسفنها وأسواقها خيوط التجارة التي تمتد من المحيط الهندي إلى البحر المتوسط. إنها بوابة العراق إلى العالم)."
26 = الرسالة 26 (1905) –
انطباعات ختامية عن الرحلة في العراق والأردن والشام
"مع اقتراب رحلتي من نهايتها، جلست أراجع ما دونته في دفاتري منذ غادرت القدس نحو البلقاء والكرك، ثم إلى معان والعقبة، فعدت عبر الصحراء إلى الجوف وتدمر والفرات، حتى وصلت الموصل وبغداد وكربلاء والبصرة. كانت رحلة طويلة، لكنها أعطتني صورة أوضح عن هذه البلاد وأهلها."
"في الأردن رأيت أرضًا تقف بين عالمين: عالم القبيلة الرحّل التي لا تعرف الاستقرار إلا حيث يوجد الماء والكلأ، وعالم القرية التي تعيش على الزراعة وتخشى غارات البدو. وفي الكرك والسلط ومعان، بدا لي أن الدولة العثمانية تحاول أن تُمسك بخيوط الحكم، لكن النفوذ الحقيقي ما زال في يد القبائل."
"في العراق، كان المشهد أكثر تعقيدًا. المدن الكبيرة مثل بغداد والموصل والبصرة تنبض بالحياة التجارية والثقافية، لكنها محاطة دائمًا بالقبائل التي تفرض حضورها. بدا لي أن العلاقة بين الدولة والقبيلة علاقة شد وجذب لا تنتهي."
"أما في النجف وكربلاء، فقد لمست عمق الحياة الدينية التي تملأ قلوب الناس وتوجه سلوكهم. شعرت أن هذه المدن ليست مجرد أماكن، بل مراكز روحية تمتد تأثيراتها إلى ما وراء حدود العراق."
"كتبت في دفتري: (هذه الرحلة علمتني أن الشرق لا يمكن فهمه من مدينة واحدة أو قبيلة واحدة. إنه فسيفساء واسعة، كل قطعة فيها تكمل الأخرى. ومن أراد أن يفهمه حقًا، فعليه أن يسير في طرقه الوعرة، ويشرب قهوته في خيمة البدوي، ويجلس في سوق بغداد، ويتأمل أنقاض بابل وتدمر)."

الجاسوسة البريطانية غيرترود مارغريت لوثيان بِل Gertrude Lowthian Bell
رحلتها التالية (1913–1914)، حيث كتبت أيضًا عن الأردن وحوران والبادية وصولًا إلى الجوف وشمال الجزيرة؟ هي واحدة من أهم رحلاتها قبل الحرب العالمية الأولى ///
27 = الرسالة 27 (1913) – بداية الرحلة عبر حوران نحو البادية
"غادرت دمشق في شتاء هذا العام، متجهة جنوبًا نحو حوران، حيث تمتد السهول البركانية السوداء. الأرض هنا مدهشة: صخور بازلتية داكنة متناثرة فوق الحقول، تجعل الزراعة صعبة لكنها ممكنة بفضل خصوبة التربة. رأيت الفلاحين يعملون في الأرض، يزرعون القمح والشعير، بينما تتناثر قرى صغيرة بين التلال."
"في طريقنا مررنا بقرى درزية. كان أهلها يستقبلوننا بالترحاب، يقدمون القهوة ويحدثوننا عن حياتهم في هذه الأرض الصعبة. قال لي أحدهم: (نحن نحيا بين الصخور، لكننا نحافظ على أرضنا كما نحافظ على شرفنا). بدت كلماته تعبيرًا عن صلابة مجتمعهم."
"التقينا أيضًا برجال من بني خالد، كانوا يقودون جمالهم في أطراف السهول. أخبرونا أنهم يتنقلون بين حوران والبادية، يحملون البضائع ويقدمون الحماية للقوافل. قال شيخهم: (نحن صلة الوصل بين القرية والصحراء). وكانت عبارته مفتاحًا لفهم طبيعة دورهم."
"كتبت في دفتري: (حوران تمثل الحد الفاصل بين عالمين: الزراعة المستقرة على الأرض السوداء، والبداوة الرحّل التي تبدأ مع أول امتداد للصحراء. هنا يبدأ الشرق في الكشف عن تنوعه العميق)."
انتهت (ح17) وتليها ( ح18) بعون الله تعالى , وهي عن رحلتها في البلقاء



عدد المشاهدات : (4517)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :