رم - هو من أولئك الذين تمرّ أسماؤهم على السطور، فتجعل القارئ يتوقف، ليس لأن الاسم غريب، بل لأن صاحبه نادر.
عبدالكريم الكباريتي، الصامت الصاخب، الغائب الحاضر، واحد من أكثر رجالات الدولة الأردنية إثارةً للقراءة لا الضوء.
ولد عام 1949 في عمّان، لكنه تشكّل سياسياً في بيئة أقرب إلى البحر — مدينة العقبة التي شهدت بداياته، بعد أن عبر محطات الوزارة، ورئاسة الحكومة، والنيابة، ورئيساً للديوان الملكي في عهد جلالة المك عبدالله الثاني بن الحسين، بل كان الوحيد الذي جمع بين الرئاسة ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع في تاريخ الحكومات الأردنية، إلا أن الكاريزما لم تأتِ من المناصب، بل من الأسلوب.
الكباريتي لا يرفع صوته، ولا يطيل الجملة، ولا يمنحك تصريحاً يُستخدم بلا سياق، في حضوره ملمح من الغموض، وفي صمته نبرة من الحسم، حتى وإن ظهر قوياً بجسد رشيق في الجيم ونال إعجاب الجميع بعد تلك السنوات.
يوم الاثنين كان مميزاً فقد أصر أن يجمع رجال الإعلام صباح كل أسبوع مع أحد المسؤولين وكانت تلك فكرته الرائدة، كان يستمع للأفكار جميعها ويجد حلاً لكل شيء.
رجل السياسة البارع والحالة التي لا تتكرر والجريء، من الرؤساء النادرين الذين أتقنوا السياسة والاقتصاد، والذي يحظى بعلاقات متينة داخلياً وخارجياً، وصاحب القرار الذي يُجيد الانسحاب دون أن يغادر، ويتقن الاختفاء دون أن يُنسى.
تولّى رئاسة الوزراء عام 1996، في واحدة من أكثر لحظات الأردن حساسية، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، عُرفت حكومته بأنها حكومة "فك الارتباط مع العراق" وحتى كان أول من تنبأ بما سيحصل فيه فهو صاحب بصيرة ومعلومة على ما يبدو، ومواجهة الشارع في ذروة رفع الأسعار حتى أنه كان صاحب مقولة "الدفع قبل الرفع" عندما طلب دفع الدعم قبل رفع الأسعار، لكنها كانت أيضاً لحظة إعلان استقلال القرار السياسي الأردني بوجه معلن، وصياغة خطاب داخلي مختلف.
لم يكن الرجل شعبوياً، ولم يتوسّل الشعبية، بل كان يعلم أن الدولة تُدار لا تُدلل، وأن الجراح لا تُخاط بالتصفيق، لكنه ظلّ محترماً، حتى من خصومه.
في علاقته مع المؤسسة، لعب أدواراً مركبة، كان قريبًا من الملك الحسين الذي كان يناديه "كريم" واستقبله بعد العودة من بيروت، لكنه لم يكن خافتاً، كان شريكاً في القرار، لكن بوجهٍ خاص لا يذوب، وحين رحل الملك، التزم الصمت، حباً وانتماءً ووطنية، لم يدخل لعبة التكرار، ولا تسابق على الظهور، كان حضوره تقنياً، حاداً، محسوباً.
رجل دولة لا رجل سوق
حين تُذكر الخصخصة في الأردن، تعود الأسئلة إلى الحكومات التي حملت هذا الملف في التسعينيات، والكباريتي كان على رأس واحدة منها، لكن الرجل لم يكن تاجر قرارات، ولا وسيطاً بين الدولة ورجال الأعمال، كان من أولئك الذين يرون الخصخصة "أداة" لا عقيدة، و"مرحلة" لا "نهجاً أبدياً".
لم يكن ضد فتح الأسواق، لكنه كان مدافعاً شرساً عن دور الدولة في حماية أعصاب الاقتصاد الوطني، لم يكن يعادي رأس المال، لكنه لم يسمح له بتوجيه الدفّة السياسية، وربما لهذا السبب، لم يظهر اسمه في صفقات مشبوهة، ولا ارتبط بصور الولائم التي جمعت المال بالسلطة.
ظلّ في منطقة رمادية صعبة يريد التقدم، لكن لا يريد بيع السيادة تحت عنوان "الإصلاح".
رجل ظلّ لا ظل له
علاقته بالمؤسسة كانت دقيقة، فيها احترام، وفيها قرب، لم يكن كبعض المسؤولين الذين يقيسون كلامهم بما يُرضي، بل كان يقيسه بما يبقى، وحين غاب، لم يطلب تفسيراً، كان يرى أن "الاختفاء في الوقت المناسب" موقف لا هروب.
وفي مشهدٍ سياسي أردني دائم التداخل بين الداخل والخارج، وقف الكباريتي في مربّعه الوطني الصريح، لم يكن مهووساً بالمواقف الخارجية، ولا منسجماً مع "إملاءات المانحين"، ولا متذمراً من الضغط الدولي.
كان يتعامل مع الخارج بعين الداخل، لا العكس، ولهذا ظلّ محافظًا على وزنه دون أن يبالغ في إظهار انتمائه لأي محور.
في زمن يتكلم فيه الكل، بقي عبدالكريم الكباريتي يُحكى عنه لا منه، رجل لم يكتب مذكراته، ولم يُسرّب رسائله، ولم يُعدّل تاريخه، لا يعيد الظهور، ولا ينافس على المكان، لكنه حين يُذكر، يتّسع له السياق... لأن وزنه لا يزال حاضرًا في ميزان الرجال.
ربما لا يُكمل الجملة، لكنه يعرف دائمًا من أين تبدأ.