رم - الحزم وتطبيق القانون: دعامة الأمن وبوابة الاستقرار
مقدمة
في النسيج الاجتماعي لأي دولة، يشكّل الأمن عاملًا حاسمًا في الاستقرار والتنمية. وتتلاقى التجربة التاريخية مع النظرية السوسيولوجية لتؤكد أن القانون لا يكون فاعلًا إلا حين يُقرَن بالحزم. فالدولة ليست كيانًا عاطفيًا، بل منظومة منظمة قائمة على القوة الشرعية، وسيادة القانون، والعدالة التطبيقية.
إن ذروة الأمان في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لم تكن وليدة مصادفة تاريخية، بل ثمرة نهجٍ في الإدارة يقوم على دمج الحزم بالعدل، وفصل العاطفة عن القرار. وسيرة الفاروق ليست مجرد سردية دينية، بل مرجعية سوسيولوجية تكشف عن الطبيعة البنيوية للدولة الناجحة.
الحزم كمنظور سوسيولوجي في إدارة الدولة
يرى علماء الاجتماع السياسي أن النظام لا يقوم على الحريات المجردة، بل على قدرة الدولة على فرض احترام القانون. ف "إميل دوركايم "يربط التماسك الاجتماعي بوجود ردع مؤسسي، بينما يشدد "ماكس فيبر "على "احتكار العنف المشروع" بوصفه سمة جوهرية للدولة الحديثة.
ومن هذا المنظور، يصبح الحزم عنصرًا تأسيسيًا لحماية العقد الاجتماعي، لا تهديدًا له. بل إن الحزم، حين يكون محكومًا بالعدالة، يصون الحريات ولا يقمعها. ويبرز هذا الإطار النظري جليًا في تجربة الخليفة عمر، الذي طبّق القانون على القوي قبل الضعيف ، مستخدمًا الحزم كأداة لضمان المساواة وليس الانتقام.
نموذج عمر بن الخطاب: توازن الشدة والرحمة
مثّل الفاروق عمر قمة التوازن بين اللين والحسم. ففي حادثة أسرى بدر، مال النبي ﷺ إلى العفو، بينما عبّر عمر عن رؤية أمنية استراتيجية ترى في الحزم درءًا لمهددات الداخل. تأييد القرآن الكريم لرأيه في قوله تعالى:
﴿لولا كتاب من الله سبق لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم﴾ [الأنفال: 68]
يعزز هذا المنحى: فالحزم، وإن بدا قاسيًا ظاهريًا، قد يكون الضامن البعيد لأمن المجتمع واستمراره.
رؤية مقارنة: الطيبة السياسية مقابل الفعالية التنظيمية
في علم الاجتماع السياسي، يُنظر إلى القرارات الحاسمة كاختبار حقيقي لمتانة الدولة. فبينما جسّد أبو بكر الصديق نهج الرحمة، أدرك بنفسه أن الدولة الوليدة تحتاج قبضة قوية، ليعلن موقفه الحازم:في محابة أهل الردة ومقولته الشهيرة
"والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة".
واختياره عمر خليفةً له لم يكن عشوائيًا، بل قائمًا على وعي بنيوي بأن نجاح الكيان السياسي يرتبط بقدرة قائده على فرض القانون دون تردد.
قراءة تاريخية وسوسيولوجية للحزم
يرى بعض المنظرين أن الدولة القوية ليست تلك التي تخلو من العنف، بل التي تحتكره وتضبطه تحت سقف القانون.
دوافع الحزم وأثرها في التاريخ
تعتبر الحُكومات التي قامت على الحزم وتطبيق القانون من أنجح النماذج في فرض الأمن الداخلي، حتى وإن كان ذلك على حساب جوانب أخرى. فالاتحاد السوفييتي في عهد ستالين، رغم طغيان البيروقراطية والرقابة، عاش استقرارًا أمنيًا لا يُنكر، مكنه من النهوض السريع بعد الحرب العالمية الثانية، وتحقيق توازن دولي في مواجهة الغرب.
وفي العراق، كان صدام حسين نموذجًا للحاكم الذي جعل من القانون الحازم أداة لضبط الأمن. ورغم الحملات الإعلامية التي تحاول شيطنته، فإن من عاش تلك الحقبة يعلم أن الأمن كان حاضرًا، والسيادة محفوظة، والمجرم يعرف حدوده. وقد عبّر عن ذلك الشاعر الكبير عبد الرزاق عبد الواحد — الصابئي العراقي، الذي لم يُعرف بانتماءٍ طائفي — فقال شهادته الشهيرة:
"صدام كالسيف.. لو شكّ بنفسه، لشطرها نصفين!"
كلمات ليست شعرًا، بل شهادة رجلٍ عاش زمن القوة، وأدرك أن الزعيم حين يتردد في لحظة مصيرية، يُطاح بالدولة كلّها.
من إدلب إلى القاهرة: دروس معاصرة
في سوريا، وتحديدًا في إدلب، التي تُعد اليوم رغم ما كانت تعانيه من شدة القصف وضيق الموارد أكثر مناطق البلاد أمنًا وتنظيمًا، برز نموذج "أحمد الشرع" في إدارة الملف المدني والأمني.
لم يأتِ هذا الأمن من فراغ، بل كان نتيجة مباشرة لسياساتٍ حازمة، عُرفت بتطبيق العدالة على الجميع بلا محاباة، ومحاسبة الفاسدين والمجرمين بلا تساهل.
رغم أن إدلب تُضرب يوميًا وتعيش في محيط مشتعل، إلا أنها بقيادة حازمة تُخضع الجميع للقانون استطاعت أن تصمد، وتكون بيئة أكثر استقرارًا من مناطقٍ تُدار على أسس الفوضى والعشوائية.
وقد بات يُقال إن "إدلب تحت القصف أكثر أمنًا من غيرها في ظل السلم"، وهذه المفارقة ما كانت لتتحقق لولا الحزم في تطبيق القانون، ومحاسبة كل من تسوّل له نفسه تهديد أمن الناس.
وعلى الجانب الآخر، في مصر، كان الرئيس الراحل محمد مرسي رجلًا ذا خلق وطيبة، لكنه افتقد أدوات الحسم، وسقط حين تكالبت عليه المؤامرات من كل حدب وصوب. فالسلطة لا تحمي صاحبها إذا ترددت قبضته، ولا تبقى لمن لا يعرف أن السيف قد يكون أحيانًا أبلغ من الخُطب.
الدولة ككيان واقعي لا ينهض بالعاطفة
من منظور علم الاجتماع، تُبنى الدول على ثلاثية واضحة: القانون، الردع، والمساواة. فالفكر اليوتوبي الذي يخلط بين إدارة الدولة والعمل الخيري سرعان ما يصطدم بواقع تنافسي، تتعدد فيه المصالح وتتشابك التهديدات. لذلك فإن الحزم ليس انحرافًا عن المسار، بل هو قوامه حين يُوظف لأجل ترسيخ السلم وحماية النظام العام.
توصيات تطبيقية لبناء دولة قائمة على الحزم العادل
ترسيخ القاعدة من البداية: فكما تقرر النظرية البنيوية، فإن لحظة التأسيس هي الحاسمة في طبيعة النظام القادم.
إلغاء الاستثناءات: فالقانون الذي يُستثنى منه البعض يفقد قدرته على الردع.
تعزيز المؤسسات القانونية والأمنية: لا يكفي سنّ القوانين، بل لا بد من آليات فعالة وسريعة لإنفاذها.
فصل العاطفة عن القرار السياسي: فصناعة الدولة ليست تربية أسرية، بل إدارة تعقيد يقتضي وعيًا بالنتائج لا المشاعر.
مواجهة الإعلام الفوضوي: ببلورة خطاب عقلاني يُفنّد المزايدات، ويعيد الاعتبار لفكرة الدولة النظامية.
خاتمة
إن بناء الدولة لا يتم بالدعوات ولا بالأمنيات، بل بإرادة تستند إلى العقل والحزم والعدل. وحين يتردد القائد في ساعة القرار، يترنح الكيان كله. أما حين يكون القانون سيّد الجميع، وتُفصل العاطفة عن الحكم، تتأسس الدول التي تدوم.
-------
عبدالناصر عليوي العبيدي