الاستقلال التاسع والسبعين .. الثقافة الأردنية تُعيد صياغة حضورها الإبداعي


رم - الدكتور فؤاد اياد خصاونة

في ظل احتفالات المملكة الأردنية الهاشمية بعيد الاستقلال التاسع والسبعين، تتجدد النظرة إلى الثقافة بوصفها أداة استراتيجية للنهوض المجتمعي والتنمية الشاملة، حيث غدت الثقافة منذ الاستقلال إلى يومنا هذا عنصرًا فاعلًا في تعزيز الهوية الوطنية، وترسيخ قيم الانتماء، وتحفيز الاقتصاد القائم على الإبداع.
وتبرز في هذا السياق أهمية الصناعات الإبداعية والاقتصاد الإبداعي، باعتبارهما محركين أساسيين في بناء اقتصاد المستقبل القائم على الفكر والابتكار وتحويل الإبداع إلى قيمة مضافة اقتصادية واجتماعية، إذ تشكل الفنون والصناعات الثقافية جزءًا لا يتجزأ من هذا المسار التنموي الجديد الذي يعيد الاعتبار للخيال بوصفه موردًا وطنيًا.
وانطلاقًا من هذه الرؤية، تضطلع وزارة الثقافة الأردنية بدور ريادي في صياغة سياسات ثقافية تواكب هذا التحول، من خلال تمكين الفاعلين الثقافيين، ودعم الفنون والإنتاج الثقافي، ودمج الثقافة في السياسات التنموية، كما تعمل على تعزيز الريادة في الثقافة والفنون عبر توسيع نطاق العمل الثقافي ليشمل كافة مكونات المجتمع، من المدن إلى القرى والبوادي والمخيمات، بما يضمن تحقيق العدالة الثقافية وتكافؤ الفرص.

ويُعد صندوق دعم الحركة الثقافية والفنية أحد الأذرع الأهم لترجمة هذه التوجهات، والذي أُسس بأمر من جلالة الملك عبد الله الثاني لتعزيز الثقافة والفنون في المملكة؛ ففي عام 2007 أمر جلالته بتخصيص مبلغ عشرة ملايين دينار لتأسيس صندوق مستقل لدعم الحركة الثقافية الأردنية، ليتولى إنشاء دارة الملك عبد الله الثاني للثقافة والفنون.
وقد أكد جلالته حينها أهمية الارتقاء بالمستوى المعيشي للمثقفين والمبدعين، مشددًا على ضرورة دعمهم وتوفير التأمين الصحي لهم، وتشجيع الإبداع الثقافي والفني الوطني، واحترام استقلاليته وحريته في التعبير، ودعم وتشجيع الأبحاث والدراسات الخاصة بالتراث الثقافي.
ويعكس هذا التوجيه الملكي التزام الدولة بتطوير الحوكمة الثقافية ورفع كفاءة الدعم، ويُعزز مأسسة القطاع الثقافي، وتوجيه التمويل نحو المشاريع التي تمتلك أثرًا مستدامًا على المجتمع والاقتصاد.

وتأتي أهمية الصندوق من دوره في تمويل المشاريع الثقافية النوعية التي تستند إلى رؤية تطويرية مستدامة، وتشمل قطاعات النشر، والموسيقى، والتصميم، والإنتاج المرئي والمسموع، والفنون الأدائية والبصرية، والصناعات الثقافية، وتوثيق وتاريخ التراث المادي.
وتكمن أهمية هذا الصندوق في قدرته على تهيئة بيئة حاضنة للإبداع، وتحفيز المبادرات الشبابية، وتوسيع دائرة المشاركة المجتمعية في الفعل الثقافي. وفي خطوة تؤكد التزام الدولة بتطوير الحوكمة الثقافية ورفع كفاءة الدعم، قرر مجلس الوزراء الأردني مؤخرًا، وبناءً على توصية من معالي وزير الثقافة مصطفى الرواشدة، الذي حرص على إعادة تفعيل دور الصندوق لدعم الحركة الثقافية والفنية، إعادة تشكيل مجلس إدارة الصندوق، بما يعكس توجهًا وطنيًا نحو تعزيز مأسسة القطاع الثقافي، وتوجيه التمويل نحو المشاريع التي تمتلك أثرًا مستدامًا على المجتمع والاقتصاد.

وجاء هذا القرار متزامنًا مع الاحتفال بعيد الاستقلال التاسع والسبعين، الذي تشكل فيه الأنشطة طابعًا ثقافيًا واستداميًا مميزًا، حيث تمثّل الفعاليات الفنية والثقافية المقامة بهذه المناسبة منصات للتعبير الوطني، وأدوات لتعزيز روح الانتماء، وتجسيد قيم الاستقلال في الوجدان. وتسهم هذه الأنشطة في ترسيخ الاستقلال بوصفه مشروعًا مستمرًا لبناء الدولة الحديثة، حيث تلتقي الذاكرة الوطنية مع الإبداع الفني في خطاب حضاري يعكس هوية الأردن، ويكرّس الثقافة كرافعة استراتيجية في مسيرة التنمية. وبهذا، تتعزز مكانة الأردن كمركز إقليمي للإبداع الثقافي، قادر على التفاعل مع متغيرات العصر، والانفتاح على التجارب العالمية، دون أن يتخلى عن خصوصيته الحضارية.

وفي هذا السياق، أشار وزير الثقافة مؤخرًا إلى أن الأردن يمتلك فرصة حقيقية للمنافسة في أسواق الثقافة والفنون، وأن الاستثمار في الثقافة لا يقل أهمية عن الاستثمار في الصناعة أو الزراعة، بل قد يكون أكثر استدامة وتأثيرًا. فالاستقلال، كما هو تحرر سياسي، هو أيضًا تحرير للخيال وفتح لآفاق التجديد والإبداع، حيث تُسهم الثقافة في بناء مواطن حر، واعٍ، منتمٍ، ومجتمع قادر على المنافسة، مزوّد بأدوات القوة الناعمة، التي تُكمل مسيرة التحرر والسيادة من خلال ترسيخ الكلمة والفكرة والصورة، جنبًا إلى جنب مع الإنجاز الاقتصادي والسياسي. وتشكل الثقافة والفنون في هذا السياق إحدى الركائز الحيوية لتحقيق الاستدامة الشاملة والاقتصاد القائم على الإبداع، إذ تتجاوز وظيفتها التعبيرية الجمالية لتصبح أداة فاعلة. ومع تصاعد التحديات، تبرز الحاجة إلى دمج الفن والثقافة في استراتيجيات التنمية المستدامة، من خلال تشجيع الصناعات الإبداعية التي تُعد من أسرع القطاعات نموًا في الاقتصاد العربي، حيث تُسهم في توليد فرص العمل، وتعزيز التنافسية، ودعم المثقفين والفنانين المحليين ضمن منظومات اقتصادية دائرية.
ويُعد الاستثمار في الثقافة والفن ركيزة أساسية في هذا التحول، إذ لم يعد ترفًا ثقافيًا، بل ضرورة اقتصادية واجتماعية وثقافية تُسهم في بناء مجتمعات حيوية قادرة على الابتكار، وتحقيق التوازن بين الهوية والحداثة.

وختامًا، يُعوَّل على صندوق دعم الحركة الثقافية والفنية ليكون أداة فاعلة في تحفيز الإنتاج الثقافي وتمكين المبدعين، خاصة في ظل الاهتمام المتزايد من قبل الحكومة في الثقافة وما أشار إليه وزير الثقافة مصطفى الرواشدة من أن الاستثمار في الثقافة لا يقل أهمية عن الصناعة والزراعة، بل يتفوق عليه في الاستدامة والتأثير. فبفضل هذا الصندوق، يمكن توجيه الدعم نحو مشاريع نوعية تُسهم في تعزيز الاقتصاد الإبداعي، وتكريس الثقافة كقوة ناعمة ترفع من مكانة الأردن وتدعم مسيرته التنموية.

نائب عميد كلية الفنون والتصميم / الجامعة الأردنية



عدد المشاهدات : (4573)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :