الشتاء الاسطوري: أهكذا يحزن الاردني؟!


رم - سليمان قبيلات وبركات الزيود- كمن يقيم في منتصف المسافة بين الوهم والواقع، كانت ردة الفعل الاولى للشارع الاردني مع بدء تلقيه اخبار فاجعة البحر الميت، لكن مع تصاعد الحدث وتسارع وتيرته، سيطر الحزن المشوب بالغضب وتوزيع اللوم، على الراي العام المأخوذ بالصدمة بصفتها قفزة درامية في المشهد.
ايادي الجحيم التي كانت تتخذ من سيل ماعين مستقرا لها، نثرت الموت بطريقة اسطورية، حسب الباحث نايف النوايسة، الذي يرى ان هذه الفاجعة ستحفر عميقا في نفوس الاردنيين، الذين ذهبت نسبة منهم الى السخرية المرّة والتهكم، علّ الهروب يخفف وطأة الصدمة.
فما ان تتجسد الفاجعة وتبلغ منتهاها حتى ينخرط الناس بـ"لمحة بصر" في استعادة قصص الكوارث الغائرة في الموروث الشعبي، وكأنما يستجدون الخلاص، بالقياس والمقارنة التي يجدون فيها ملاذا للسكينة، حسب النوايسة. الباحث النوايسة يقيّد سلسلة الاوجاع التي تتملك الوجدان الشعبي، معتبرا ان التاريخ الإجتماعي للشعوب يسجله عامّة الناس، وخصوصا المكابدون منهم الذين يحملون معاناتهم ومعاناة الآخرين على أكفهم، فيما ينأى ناس الترف عن الحفر في توقيعات الحياة، اذ هم لا يشاهدون منها الا ما يتسرب من نوافذ ضيقة لوعيهم الاجتماعي.
اضاف النوايسة :"استيقظ غضب الطبيعة فجأة فاضاف صفحة جديدة للوجع الأردني، على شكل شتوة اسطورية تضاهي "تسونامي" صغير، على الرغم من ان الفاجعة لا تقارن في استمرارها بكوارث تعيشها كثير من دول العالم يوميا. كانت دقائق معدودة لشتوة غادرة سرقت نشوتنا التشرينية بانتظار تباشير الموسم، لتمضي هذه الغادرة غير مبالية بما القت من اثقال علينا".
وقال "تذكرني هذه الشتوة بشتوة البعارين في الخمسينيات والثلجة الكبيرة في الستينيات وسيل معان في الستينيات وفيضان عمان في الثمانينيات. اما المضحك المبكي في هذه الشتوة، انها كشفت تبعاتها كم للاسطورة من مكانة في وعينا الجمعي".
النجاة الخرافية لاحد اطفال فاجعة البحر الميت بعدما اخذه السيل الهادر لمئات الامتار، ينطبق عليها ما يورده تعريف الخرافة من انها "ذات ابطال رئيسيين من البشر...".
من ذاكرته المترعة بالقص، يروي الحاج سالم بركة المعلا قصة "عمرة وعميرة" عبر تسجيل صوتي، وهي الحادثة التي شهدتها منطقة "سايح الذياب" شرقي محافظة الزرقاء، وتناقلتها الاجيال خصوصا البدوية، وتستعيدها مع بداية كل شتاء وكأنما تحذر ذاتها الجمعية من كارثة مفاجئة.
الحاج المعلا الذي عاش قرنا، قال في تسجيله الصوتي "إن هناك حكيما شاهد جرذا يقوم بنقل صغاره من بطن الوادي، فاستشعر ان هناك كارثة قادمة والدليل ما يقوم به هذا الحيوان".. أضاف "من استجاب لحديث هذا الشخص نجا، الا ان الثنائي "عمرة وعميرة" الشقيقتان لم تستجيبا، فكان مصيرهما أن أخذهما السيل الكبير، وذهبت على مجرى الحكاية، ومغزاها التحذير من مواجهة مصير الشقيقتين "عمرة وعميرة". وفي اشارة ذات دلالة، تضيف قصة "عمرة وعميرة" ان القوم عثروا بعد ايام من البحث على "عميرة" بمعرفة جديلتها التي كانت ظاهرة من الطمي والرمل، بمعنى انهم لم يتركوا جثث من فقدوها! تواصل الطبيعية غضبها فتضيف مآسي جديدة تصبح مع الزمن قصصا وروايات ينسج العقل الانساني حولها كثيرا من الخيال وصولا الى اسطرتها او تخييلها، ومنها ما جرى لعائلة في محافظة الزرقاء، كانت ذاهبة في موكب فرح "فاردة"، عبر وادي بيرين غرب المحافظة، ولم تكن المنطقة تشهد امطارا، لكن سيلا مفاجئا دهم "الفاردة" واخذها بعيدا، على ما تروي الحاجة فضة محمد التي تشارف التسعين من العمر. "ساكن الوديان وحلاّف الايمان لا يأمن على حاله" قول شعبي يفسره الحاج سلامة نصرالله، موضحا انه "يدل على أن من يسكن الوديان أو يكون فيها في أوقات الشتاء فإن فرصه بالنجاة قليلة".
ويورد نصرالله قولا آخر يحمل كثيرا من الدلالات وهو "بيت عمي شِقَّة وقع بالمغرقة، بيتنا حديدي وقع بالمديدي"، وهنا كثير من الدلالات من بينها، أن البيت حتى لو كان من الحديد والفولاذ سيكون مصيره الدمار إن تعرض لكارثة طبيعية مثل السيل، بينما البيت المصنوع من الشَّعر قد لا يتعرض للأذى الكبير إن كان في مكان بعيد عن مجرى السيل. نصرالله يصف طبيعة الأردن برعوية وريفية "وأكثر من كان يتعرض للسيول هم البدو الرحل، بسبب بيوتهم، ناهيك عن أنه لا تتوفر لديهم معرفة بحالة الجو لكن بواكير الشتاء تبدأ مع ظهور نجم سهيل وهنا يندرج المثل العربي القديم " إن شفت سهيل لا تأمن السيل". "اذا شتت الدنيا بدري خلال السنة، وأرعدت بغير موعدها اطرحت" يقول نصرالله، وان هذا نذير شؤم، اذ ان مقدمات الشتاء تدل على أنه سيكون أقرب الى المحل والجفاف وان السنة هذه ستكون أمطارها قليلة جدا. يصف نصرالله معيشة البدو في الشتاء، فيقول "حيث إن حرصهم يبدأ من اختيار المسكن، يقومون بصناعة بيوتهم ونسجها من شعر الماعز وليس من القماش، فبالحياكة المحكمة يصبح شعر الماعز مانعا لدلف الماء ونفاذه.
يزداد حرص ساكني البادية وخوفهم من السيول، بمغادرة الأودية، وشق قنوات تصريف للمياه حول بيوتهم، حسب نصرالله الذي يقول ان هذا الحرص المتوارث تؤكده ندرة تعرض القبائل لكوارث طبيعية كبيرة. يستعيد نصرالله روايات عن والده وجده لعائلات أخذها السيل في منطقة الضليل، ومن بين ضحاياها متعهد أخذه السيل ولم يعثر عليه الا بعد اربع سنوات، بعد أن وصلت اعمال انشائية للمنطقة التي مرهم بها السيل.
والاسطورة كما يصفها الباحث العراقي خزعل الماجدي" تتمتع بقدسية ولها سلطة عظيمة على عقول الناس ونفوسهم في عصرها"، وهي كما يضيف الخزعلي، صاحب كتاب "مثولوجيا الاردن القديم" "لا مؤلف لها لانها ليست نتاج خيال فردي او حكمة شخص بعينه، بل هي ظاهرة جمعية وقد يعيد الافراد صياغتها وفق صنعة ادبية".




عدد المشاهدات : (6206)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :