صفحة من كتابي الأردن في مواجهة السردية التوراتية والاستشراقية الصهيونية والمتصهينة الواردة في كتاب (حث ومؤاب) للرحالة كوندر بقلم المترجم د احمد عويدي العبادي (أبو د البشر والطبيب د نمي) في هذا الموضع من ترجمتي لهذا الكتاب، أجد لزامًا عليّ أن أقف وقفة نقدية ضد السردية الاستشراقية المتكثّفة في كلام الرحّالة الإنجليزي كلود رايجنير كوندر عام 1881 في كتابه حِثّ ومؤاب الذي قمنا بترجمته إلى العربية. فقد قدّم المؤلف رؤية تختزل الأردن في عبارة عابرة: «بلد مرور»، وتنزع عنه دوره في صناعة التاريخ، وتُلحقه قسرًا بما سمّاه «المجال التوراتي»، وكأن جغرافيته وهويته وثقافته مجرّد هوامش لكُتب متأخرة، وليست أرضًا لها تاريخها وجذورها وفاعليتها الحضارية.
ومثل هذا التصوير ليس مجرّد وصف جغرافي أو اجتهاد بحثي، بل هو جزء من بنية ذهنية استشراقية وصهيونية ومتصهينة طويلة الأمد، سعت — بوعي أو بغير وعي — إلى تغييب او تقليص حضور الأردن في الخريطة التاريخية والسياسية، وتجريده من دوره الحقيقي بوصفه مركزًا حضاريًا، ومحورًا لطرق التجارة الدولية، ومسرحًا لنشاط الأنبياء، ومهدًا لنشوء الممالك المؤابية والأدومية والعمونية والبَيرية وغيرها من دول المنطقة التي صاغت هوية الشرق الأدنى آلاف السنين قبل التدوين التوراتي ذاته. وعلى ارضه قامت جميع المعارك الاسلامية الفاصلة عبر التاريخ: مؤتة وطبقة فحل واليرموك وحطين وعين جالوت أما الحقائق الأثرية، والجغرافية، والنصوص التاريخية — فضلًا عن قراءة القرآن الكريم — فتدلّ دلالة قاطعة على أنّ الأردن لم يكن يومًا هامشًا، ولا ممّرًا بين قوى أكبر، بل كان بؤرة فعل حضاري، وفضاءً تشكّل فيه العمران، وموطنًا للقصص الكبرى التي صنعت روح المنطقة ومسارها. فهذه الأرض ليست صفحة ثانوية في كتاب غيرها، بل كتاب قائم بذاته، كتبه أهلها، ونقشته جباله وسهوله وأوديته، وورثته قبائلها العريقة عبر القرون. ومن هنا تأتي هذه الحاشية لتضع الأمور في نصابها العلمي، وتردّ — بهدوء المتخصص وصلابة الحجة، ووعي الهوية — على تلك الرواية الاستشراقية، ولتُعيد الاعتبار لهذه الأرض التي لم تكن يومًا عابرة تاريخ، بل صانعة له، وفاعلة في تشكيله، وحاضنة لواحدة من أعمق التجارب الإنسانية والدينية والحضارية في تاريخ البشرية. يبدو الأردن في الكتابات التوراتية والاستشراقية وكأنه فضاء ثانوي، وأرض عابرة لا تنتج تاريخًا ولا حضارة، بل مجرد هامش للجغرافيا “المقدسة” التي رسمتها مخيلة كتّاب ورحالة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. غير أنّ هذه الرؤية ليست مجرد خطأ علمي، بل تمثّل إطارًا فكريًا كاملًا حاول من خلاله المستشرقون والرحالة الأجانب إعادة تشكيل هوية الشرق وفق رؤيتهم، لا وفق ما تقوله الأرض نفسها. فالأردن ليس ساحة صامتة تنتظر مَن يمنحها معنى، او يعلمها لغة تنطق بها او يصنع لها تاريخا وهي صانعة التاريخ، بل هو قلب المنطقة النابض، وجغرافيا تتجاوز في قيمتها ومساحتها ومكانتها حدود ما رسمته النصوص التوراتية، ليغدو مركزًا من مراكز النبوة، ومهدًا لممالك عربية أصيلة، نشأت على الأرض الأردنية منذ 14000 سنة، وسكنها الانسان الثمودي العربي منذ مليون ونصف مليون سنة وحاضنة لتراث قبلي وثقافي لا نظير له في المنطقة ولا في العالم. لقد قامت السردية التوراتية على منهج يقوم على إسقاط نصوصها على المكان دون قراءة المكان بواقعه الأردني الحقيقي. فكل تلّ قديم حُوّل إلى “مدينة توراتية”، وكل وادٍ فُسّر بما يناسب الرواية الدينية الصهيونية والمتصهينة، وكل قرية أردنية أعيدت تسميتها بما يتوافق مع المخيال العبري. ولم يكن الهدف بحثًا علميًا محايدًا، بل صناعة خريطة جديدة تخدم سردية دينية وسياسية معادية لنا، تُلغي وجود الممالك العربية الأردنية القديمة في ادوم الطفيلة وبصيرا ومؤاب وعمون وباشان، وبيريا وممالك قوم لوط وامارة بلعام / بلعما، والانباط والمملكة الضجعمية القضاعية وكانت عاصمتها جرش وتحجب أثر النقوش الثمودية والمؤابية والنبطية التي سبقت التوراة نفسها بعشرات القرون. وهكذا جرى تجاهل آلاف الشواهد الأثرية التي تؤكّد أنّ الأردن كان مركزًا حضاريًا مكتملًا، له لغته وملوكه ومدنه واقتصاده، وجيوشه وانظمته، وليس فرعًا تابعًا لأي منظومة او جغرافيا خارجية. وما إن نقترب من البعد النبوي حتى يتضح حجم الخلل في التصور الاستشراقي والصهيوني والمتصهين، الذي ما زال ينظر إلى الأردن بوصفه “مساحة عبور” للنبوات لا أكثر. والحقيقة أنّ الجغرافيا الأردنية هي المسرح الأصلي لقصص مركزية في التاريخ الإنساني والديني والجغرافي: فالأنبياء شيت وادريس وصالح نشأوا بالأردن ومدفون فيه كل من نوح (في الكرك) وهود (في جرش) عليهما السلام، كما ان لوط اعليه السلام عاش وهلك قومه في غور الأردن ومدن السهل، وشعيب عليه السلام أسس مدرسته الأخلاقية في فضاء يمتد نحو أيلة وشرق الأردن، ووادي السلط (الايكة) وموسى عليه السلام رعى عند شعيب الحفيد في اكناف الطفيلة الادومية والكرك المؤابية عشر سنوات، ووقف على جبل نبو (بمعجزة الاهية) ليرى مصيره الأخير، وداود قضى طفولته في كنف جدته المؤابية راعوث , وسليمان تزوج الاميرة نعمة العمونية ام ابنه وولي عهده رحبعام وزكريا ويحيى وعيسى عليهما السلام نشآ وعاشا في فضاء جغرافي واحد يجمع بين القدس والأردن. إنّ هذه ليست مشاهد ثانوية، بل هي صميم النبوة نفسها، الأمر الذي يجعل الأردن قلب القصص القرآني والتاريخي، لا هامشًا كما يريد الاستشراق أن يصوّره. ومريم عندما خافت على نفسها اتخذت من بيت عنيا (المغطس) ملاذا امنا ولدت في سيدنا عيسى المسيح عليه السلام ورفعه الله اليه من نفس المكان أما القبائل الأردنية، فقد كانت دائمًا هدفًا للتقليل والتهميش في الكتابات الاستشراقية والصهيونية والمتصهينة، وكأنها كيانات “فولكلورية” تعيش خارج التاريخ. غير أنّ هذه القبائل — مثل جذام وبطونها مثل بني صخر وبني عباد والعجارمة وبني حميدة وبني عقبة وغيرهم كثير، وبني حسن والحويطات والعدوان والحويطات وعشائر الجنوب والبلقاء والشمال بدوا وحضرا والسرحان والسردية والعيسى، شكّلت عبر القرون بنية اجتماعية–سياسية متماسكة، حافظت على نظام الحماية والجوار، وأدارت طرق القوافل، وأسهمت في بناء السلم الأهلي، وأقامت منظومات القضاء العرفي (القائم على العدالة والأخلاق) التي لا تزال تشكّل مرجعًا اجتماعيًا متينًا حتى اليوم. والرواية الشفوية التي يزدريها المستشرقون هي في حقيقتها أرشيف معرفي حي، يحفظ تفاصيل التحالفات، ومسارات التجارة، والذاكرة الجغرافية، وقيم الشرف التي قامت عليها المجتمعات الأردنية بخاصة والعربية بعامة. إنّ اختزال هذا الإرث العميق في “أساطير شاعرية” يكشف عن جهل فاضح بطبيعة المجتمع الأردني وتاريخه. وتزداد الصورة وضوحًا حين نقرأ ما كتبه بعض المستشرقين عن الإسلام، إذ زعموا أنّه دين “غير أصيل”، وأن معانيه مستمدة من (الزند أفستا) والنصوص الفارسية. وهذا الادعاء ليس سوى إعادة إنتاج لرؤية استشراقية قديمة أرادت دائمًا أن تنزع عن العرب قدرتهم على الإبداع والتأسيس، وأن تجعلهم مجرّد ناقلين لثقافات غيرهم. لكن الواقع العلمي والنصي للقرآن الكريم، بوصفه نصًا عربيًا خالصًا في لغته وبنيته ومرجعيته، يدحض كل تلك الادعاءات، كما أنّ نشأة الإسلام في سياقه العربي الخالص، ثم انتشاره في الأردن وما حوله، جاءت امتدادًا طبيعيًا للنبوات السابقة، لا ظاهرة مستعارة من حضارة أخرى. وقد شاركت القبائل الأردنية في بواكير الدولة الإسلامية، وأسهمت في الفتوحات، وحمت طرق الحج، وأقامت مراكز علمية مزدهرة، لتصير جزءًا فاعلًا من تاريخ الإسلام، لا متلقيًا هامشيًا كما يصوّر الخطاب الاستشراقي والمتصهين. إنّ علم الآثار الأردني اليوم يقدّم الدليل القاطع على تهافت السرديات التوراتية والاستشراقية معًا. فالنقوش الثمودية والمؤابية المكتشفة في ذيبان وربّة عمون ووادي فينان واللجاة وغيرها تكشف عن حضارات عربية اردنية موغلة في القدم، لها لغتها وإدارتها واقتصادها، سبقت معظم النصوص الدينية المتأخرة. كما أنّ ممالك ادوم ومؤاب وعمون وباشان وبيريا وممالك قوم لوط وبلعام/ بلعما والانباط، لم تكن كيانات بدائية، بل دولًا قائمة لها جيوش وأسوار ونظم ضرائب، وهي حقائق لم تستطع السردية التوراتية استيعابها لأنها تنسف ادعاء “الهيمنة التاريخية العبريّة”. ويأتي ازدهار المملكة النبطية، التي جعلت البتراء عاصمة عالمية، ليبرهن أنّ الأردن كان مركزًا سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، وليس أرضًا بلا تاريخ وبلا شعب وبلا هوية وبلا شرعية وبلا جذور كما روّجت بعض الأدبيات الصهيونية والمتصهينة. لهذا كلّه، لم يكن استهداف الأردن في الخطاب الاستشراقي مجرد صدفة، بل كان جزءًا من بنية فكرية وسياسية ممنهجة في تدبير بليل، تريد أن تُحجِّم دوره، وأن تفصل بينه وبين هويته العربية والإسلامية. فالاعتراف بالمكانة الحضارية للأردن يعني انهيار ركيزتين من ركائز السردية الاستشراقية: أوّلًا، أنّ العرب ليسوا طارئين على التاريخ؛ وثانيًا، أنّ الجغرافيا التي دارت عليها قصص الأنبياء ليست حكرًا على رواية واحدة ولا على شعب واحد. وبالتالي يبرز الأردن وعشائره في مقدمة الطلائع الطيبة. إن المشروع العلمي الذي نقوده (نحن المترجم د احمد عويدي العبادي) — في ترجمة النصوص، وتصحيح المسارات التاريخية، وإعادة الاعتبار للجغرافيا والقبيلة الأردنية، وربط الأردن بدوره النبوي والعمراني — ليس مجرّد جهد أكاديمي، بل هو إعادة تشكيل للوعي، وتحرير للسرد التاريخي من قبضة الاستشراق والتوراتية والمنهج المتصهين وهو اخطر علينا من الصهيونية. فالأردن ليس هامشًا على دفتر أحد، وهو ليس وطنا بلا شعب ينتظر شعبا بلا وطن، وهو ليس شعبا لا قيادة ينتظر قيادة بلا شعب لتمسك من تلابيبه وتطرحه ارضا، بل هو قلب التاريخ الذي حفظته جباله، ووعته قبائله، ونطق به القرآن الكريم في سياق النبوة، وعبّرت عنه الحضارات التي قامت على ترابه عبر آلاف السنين. بهذا الفهم يصبح الأردن، كما هو حقًا، كتابًا مفتوحًا للتاريخ، لا هامشًا في كتب الآخرين، وفضاءً تصنعه هويته وشرعيته وذاكرته، لا سرديات مستوردة أو قراءات متحيّزة. وهو ليس قطعة قماش عند خياط يفصله كيف شاء، لكنه صخر قاسي لا يقطعه فاس ولا مقص وليس قطعة من الحلوى يأكلها من له اسنان او بلا اسنان، ونقول ممن يريدون تفصيل الأردن على مقاسهم جملة واحدة: الأردن كبير عليكم وهو كبير باهله ونحن اهله كِبار به
صفحة من كتابي الأردن في مواجهة السردية التوراتية والاستشراقية الصهيونية والمتصهينة الواردة في كتاب (حث ومؤاب) للرحالة كوندر بقلم المترجم د احمد عويدي العبادي (أبو د البشر والطبيب د نمي) في هذا الموضع من ترجمتي لهذا الكتاب، أجد لزامًا عليّ أن أقف وقفة نقدية ضد السردية الاستشراقية المتكثّفة في كلام الرحّالة الإنجليزي كلود رايجنير كوندر عام 1881 في كتابه حِثّ ومؤاب الذي قمنا بترجمته إلى العربية. فقد قدّم المؤلف رؤية تختزل الأردن في عبارة عابرة: «بلد مرور»، وتنزع عنه دوره في صناعة التاريخ، وتُلحقه قسرًا بما سمّاه «المجال التوراتي»، وكأن جغرافيته وهويته وثقافته مجرّد هوامش لكُتب متأخرة، وليست أرضًا لها تاريخها وجذورها وفاعليتها الحضارية.
ومثل هذا التصوير ليس مجرّد وصف جغرافي أو اجتهاد بحثي، بل هو جزء من بنية ذهنية استشراقية وصهيونية ومتصهينة طويلة الأمد، سعت — بوعي أو بغير وعي — إلى تغييب او تقليص حضور الأردن في الخريطة التاريخية والسياسية، وتجريده من دوره الحقيقي بوصفه مركزًا حضاريًا، ومحورًا لطرق التجارة الدولية، ومسرحًا لنشاط الأنبياء، ومهدًا لنشوء الممالك المؤابية والأدومية والعمونية والبَيرية وغيرها من دول المنطقة التي صاغت هوية الشرق الأدنى آلاف السنين قبل التدوين التوراتي ذاته. وعلى ارضه قامت جميع المعارك الاسلامية الفاصلة عبر التاريخ: مؤتة وطبقة فحل واليرموك وحطين وعين جالوت أما الحقائق الأثرية، والجغرافية، والنصوص التاريخية — فضلًا عن قراءة القرآن الكريم — فتدلّ دلالة قاطعة على أنّ الأردن لم يكن يومًا هامشًا، ولا ممّرًا بين قوى أكبر، بل كان بؤرة فعل حضاري، وفضاءً تشكّل فيه العمران، وموطنًا للقصص الكبرى التي صنعت روح المنطقة ومسارها. فهذه الأرض ليست صفحة ثانوية في كتاب غيرها، بل كتاب قائم بذاته، كتبه أهلها، ونقشته جباله وسهوله وأوديته، وورثته قبائلها العريقة عبر القرون. ومن هنا تأتي هذه الحاشية لتضع الأمور في نصابها العلمي، وتردّ — بهدوء المتخصص وصلابة الحجة، ووعي الهوية — على تلك الرواية الاستشراقية، ولتُعيد الاعتبار لهذه الأرض التي لم تكن يومًا عابرة تاريخ، بل صانعة له، وفاعلة في تشكيله، وحاضنة لواحدة من أعمق التجارب الإنسانية والدينية والحضارية في تاريخ البشرية. يبدو الأردن في الكتابات التوراتية والاستشراقية وكأنه فضاء ثانوي، وأرض عابرة لا تنتج تاريخًا ولا حضارة، بل مجرد هامش للجغرافيا “المقدسة” التي رسمتها مخيلة كتّاب ورحالة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. غير أنّ هذه الرؤية ليست مجرد خطأ علمي، بل تمثّل إطارًا فكريًا كاملًا حاول من خلاله المستشرقون والرحالة الأجانب إعادة تشكيل هوية الشرق وفق رؤيتهم، لا وفق ما تقوله الأرض نفسها. فالأردن ليس ساحة صامتة تنتظر مَن يمنحها معنى، او يعلمها لغة تنطق بها او يصنع لها تاريخا وهي صانعة التاريخ، بل هو قلب المنطقة النابض، وجغرافيا تتجاوز في قيمتها ومساحتها ومكانتها حدود ما رسمته النصوص التوراتية، ليغدو مركزًا من مراكز النبوة، ومهدًا لممالك عربية أصيلة، نشأت على الأرض الأردنية منذ 14000 سنة، وسكنها الانسان الثمودي العربي منذ مليون ونصف مليون سنة وحاضنة لتراث قبلي وثقافي لا نظير له في المنطقة ولا في العالم. لقد قامت السردية التوراتية على منهج يقوم على إسقاط نصوصها على المكان دون قراءة المكان بواقعه الأردني الحقيقي. فكل تلّ قديم حُوّل إلى “مدينة توراتية”، وكل وادٍ فُسّر بما يناسب الرواية الدينية الصهيونية والمتصهينة، وكل قرية أردنية أعيدت تسميتها بما يتوافق مع المخيال العبري. ولم يكن الهدف بحثًا علميًا محايدًا، بل صناعة خريطة جديدة تخدم سردية دينية وسياسية معادية لنا، تُلغي وجود الممالك العربية الأردنية القديمة في ادوم الطفيلة وبصيرا ومؤاب وعمون وباشان، وبيريا وممالك قوم لوط وامارة بلعام / بلعما، والانباط والمملكة الضجعمية القضاعية وكانت عاصمتها جرش وتحجب أثر النقوش الثمودية والمؤابية والنبطية التي سبقت التوراة نفسها بعشرات القرون. وهكذا جرى تجاهل آلاف الشواهد الأثرية التي تؤكّد أنّ الأردن كان مركزًا حضاريًا مكتملًا، له لغته وملوكه ومدنه واقتصاده، وجيوشه وانظمته، وليس فرعًا تابعًا لأي منظومة او جغرافيا خارجية. وما إن نقترب من البعد النبوي حتى يتضح حجم الخلل في التصور الاستشراقي والصهيوني والمتصهين، الذي ما زال ينظر إلى الأردن بوصفه “مساحة عبور” للنبوات لا أكثر. والحقيقة أنّ الجغرافيا الأردنية هي المسرح الأصلي لقصص مركزية في التاريخ الإنساني والديني والجغرافي: فالأنبياء شيت وادريس وصالح نشأوا بالأردن ومدفون فيه كل من نوح (في الكرك) وهود (في جرش) عليهما السلام، كما ان لوط اعليه السلام عاش وهلك قومه في غور الأردن ومدن السهل، وشعيب عليه السلام أسس مدرسته الأخلاقية في فضاء يمتد نحو أيلة وشرق الأردن، ووادي السلط (الايكة) وموسى عليه السلام رعى عند شعيب الحفيد في اكناف الطفيلة الادومية والكرك المؤابية عشر سنوات، ووقف على جبل نبو (بمعجزة الاهية) ليرى مصيره الأخير، وداود قضى طفولته في كنف جدته المؤابية راعوث , وسليمان تزوج الاميرة نعمة العمونية ام ابنه وولي عهده رحبعام وزكريا ويحيى وعيسى عليهما السلام نشآ وعاشا في فضاء جغرافي واحد يجمع بين القدس والأردن. إنّ هذه ليست مشاهد ثانوية، بل هي صميم النبوة نفسها، الأمر الذي يجعل الأردن قلب القصص القرآني والتاريخي، لا هامشًا كما يريد الاستشراق أن يصوّره. ومريم عندما خافت على نفسها اتخذت من بيت عنيا (المغطس) ملاذا امنا ولدت في سيدنا عيسى المسيح عليه السلام ورفعه الله اليه من نفس المكان أما القبائل الأردنية، فقد كانت دائمًا هدفًا للتقليل والتهميش في الكتابات الاستشراقية والصهيونية والمتصهينة، وكأنها كيانات “فولكلورية” تعيش خارج التاريخ. غير أنّ هذه القبائل — مثل جذام وبطونها مثل بني صخر وبني عباد والعجارمة وبني حميدة وبني عقبة وغيرهم كثير، وبني حسن والحويطات والعدوان والحويطات وعشائر الجنوب والبلقاء والشمال بدوا وحضرا والسرحان والسردية والعيسى، شكّلت عبر القرون بنية اجتماعية–سياسية متماسكة، حافظت على نظام الحماية والجوار، وأدارت طرق القوافل، وأسهمت في بناء السلم الأهلي، وأقامت منظومات القضاء العرفي (القائم على العدالة والأخلاق) التي لا تزال تشكّل مرجعًا اجتماعيًا متينًا حتى اليوم. والرواية الشفوية التي يزدريها المستشرقون هي في حقيقتها أرشيف معرفي حي، يحفظ تفاصيل التحالفات، ومسارات التجارة، والذاكرة الجغرافية، وقيم الشرف التي قامت عليها المجتمعات الأردنية بخاصة والعربية بعامة. إنّ اختزال هذا الإرث العميق في “أساطير شاعرية” يكشف عن جهل فاضح بطبيعة المجتمع الأردني وتاريخه. وتزداد الصورة وضوحًا حين نقرأ ما كتبه بعض المستشرقين عن الإسلام، إذ زعموا أنّه دين “غير أصيل”، وأن معانيه مستمدة من (الزند أفستا) والنصوص الفارسية. وهذا الادعاء ليس سوى إعادة إنتاج لرؤية استشراقية قديمة أرادت دائمًا أن تنزع عن العرب قدرتهم على الإبداع والتأسيس، وأن تجعلهم مجرّد ناقلين لثقافات غيرهم. لكن الواقع العلمي والنصي للقرآن الكريم، بوصفه نصًا عربيًا خالصًا في لغته وبنيته ومرجعيته، يدحض كل تلك الادعاءات، كما أنّ نشأة الإسلام في سياقه العربي الخالص، ثم انتشاره في الأردن وما حوله، جاءت امتدادًا طبيعيًا للنبوات السابقة، لا ظاهرة مستعارة من حضارة أخرى. وقد شاركت القبائل الأردنية في بواكير الدولة الإسلامية، وأسهمت في الفتوحات، وحمت طرق الحج، وأقامت مراكز علمية مزدهرة، لتصير جزءًا فاعلًا من تاريخ الإسلام، لا متلقيًا هامشيًا كما يصوّر الخطاب الاستشراقي والمتصهين. إنّ علم الآثار الأردني اليوم يقدّم الدليل القاطع على تهافت السرديات التوراتية والاستشراقية معًا. فالنقوش الثمودية والمؤابية المكتشفة في ذيبان وربّة عمون ووادي فينان واللجاة وغيرها تكشف عن حضارات عربية اردنية موغلة في القدم، لها لغتها وإدارتها واقتصادها، سبقت معظم النصوص الدينية المتأخرة. كما أنّ ممالك ادوم ومؤاب وعمون وباشان وبيريا وممالك قوم لوط وبلعام/ بلعما والانباط، لم تكن كيانات بدائية، بل دولًا قائمة لها جيوش وأسوار ونظم ضرائب، وهي حقائق لم تستطع السردية التوراتية استيعابها لأنها تنسف ادعاء “الهيمنة التاريخية العبريّة”. ويأتي ازدهار المملكة النبطية، التي جعلت البتراء عاصمة عالمية، ليبرهن أنّ الأردن كان مركزًا سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، وليس أرضًا بلا تاريخ وبلا شعب وبلا هوية وبلا شرعية وبلا جذور كما روّجت بعض الأدبيات الصهيونية والمتصهينة. لهذا كلّه، لم يكن استهداف الأردن في الخطاب الاستشراقي مجرد صدفة، بل كان جزءًا من بنية فكرية وسياسية ممنهجة في تدبير بليل، تريد أن تُحجِّم دوره، وأن تفصل بينه وبين هويته العربية والإسلامية. فالاعتراف بالمكانة الحضارية للأردن يعني انهيار ركيزتين من ركائز السردية الاستشراقية: أوّلًا، أنّ العرب ليسوا طارئين على التاريخ؛ وثانيًا، أنّ الجغرافيا التي دارت عليها قصص الأنبياء ليست حكرًا على رواية واحدة ولا على شعب واحد. وبالتالي يبرز الأردن وعشائره في مقدمة الطلائع الطيبة. إن المشروع العلمي الذي نقوده (نحن المترجم د احمد عويدي العبادي) — في ترجمة النصوص، وتصحيح المسارات التاريخية، وإعادة الاعتبار للجغرافيا والقبيلة الأردنية، وربط الأردن بدوره النبوي والعمراني — ليس مجرّد جهد أكاديمي، بل هو إعادة تشكيل للوعي، وتحرير للسرد التاريخي من قبضة الاستشراق والتوراتية والمنهج المتصهين وهو اخطر علينا من الصهيونية. فالأردن ليس هامشًا على دفتر أحد، وهو ليس وطنا بلا شعب ينتظر شعبا بلا وطن، وهو ليس شعبا لا قيادة ينتظر قيادة بلا شعب لتمسك من تلابيبه وتطرحه ارضا، بل هو قلب التاريخ الذي حفظته جباله، ووعته قبائله، ونطق به القرآن الكريم في سياق النبوة، وعبّرت عنه الحضارات التي قامت على ترابه عبر آلاف السنين. بهذا الفهم يصبح الأردن، كما هو حقًا، كتابًا مفتوحًا للتاريخ، لا هامشًا في كتب الآخرين، وفضاءً تصنعه هويته وشرعيته وذاكرته، لا سرديات مستوردة أو قراءات متحيّزة. وهو ليس قطعة قماش عند خياط يفصله كيف شاء، لكنه صخر قاسي لا يقطعه فاس ولا مقص وليس قطعة من الحلوى يأكلها من له اسنان او بلا اسنان، ونقول ممن يريدون تفصيل الأردن على مقاسهم جملة واحدة: الأردن كبير عليكم وهو كبير باهله ونحن اهله كِبار به
صفحة من كتابي الأردن في مواجهة السردية التوراتية والاستشراقية الصهيونية والمتصهينة الواردة في كتاب (حث ومؤاب) للرحالة كوندر بقلم المترجم د احمد عويدي العبادي (أبو د البشر والطبيب د نمي) في هذا الموضع من ترجمتي لهذا الكتاب، أجد لزامًا عليّ أن أقف وقفة نقدية ضد السردية الاستشراقية المتكثّفة في كلام الرحّالة الإنجليزي كلود رايجنير كوندر عام 1881 في كتابه حِثّ ومؤاب الذي قمنا بترجمته إلى العربية. فقد قدّم المؤلف رؤية تختزل الأردن في عبارة عابرة: «بلد مرور»، وتنزع عنه دوره في صناعة التاريخ، وتُلحقه قسرًا بما سمّاه «المجال التوراتي»، وكأن جغرافيته وهويته وثقافته مجرّد هوامش لكُتب متأخرة، وليست أرضًا لها تاريخها وجذورها وفاعليتها الحضارية.
ومثل هذا التصوير ليس مجرّد وصف جغرافي أو اجتهاد بحثي، بل هو جزء من بنية ذهنية استشراقية وصهيونية ومتصهينة طويلة الأمد، سعت — بوعي أو بغير وعي — إلى تغييب او تقليص حضور الأردن في الخريطة التاريخية والسياسية، وتجريده من دوره الحقيقي بوصفه مركزًا حضاريًا، ومحورًا لطرق التجارة الدولية، ومسرحًا لنشاط الأنبياء، ومهدًا لنشوء الممالك المؤابية والأدومية والعمونية والبَيرية وغيرها من دول المنطقة التي صاغت هوية الشرق الأدنى آلاف السنين قبل التدوين التوراتي ذاته. وعلى ارضه قامت جميع المعارك الاسلامية الفاصلة عبر التاريخ: مؤتة وطبقة فحل واليرموك وحطين وعين جالوت أما الحقائق الأثرية، والجغرافية، والنصوص التاريخية — فضلًا عن قراءة القرآن الكريم — فتدلّ دلالة قاطعة على أنّ الأردن لم يكن يومًا هامشًا، ولا ممّرًا بين قوى أكبر، بل كان بؤرة فعل حضاري، وفضاءً تشكّل فيه العمران، وموطنًا للقصص الكبرى التي صنعت روح المنطقة ومسارها. فهذه الأرض ليست صفحة ثانوية في كتاب غيرها، بل كتاب قائم بذاته، كتبه أهلها، ونقشته جباله وسهوله وأوديته، وورثته قبائلها العريقة عبر القرون. ومن هنا تأتي هذه الحاشية لتضع الأمور في نصابها العلمي، وتردّ — بهدوء المتخصص وصلابة الحجة، ووعي الهوية — على تلك الرواية الاستشراقية، ولتُعيد الاعتبار لهذه الأرض التي لم تكن يومًا عابرة تاريخ، بل صانعة له، وفاعلة في تشكيله، وحاضنة لواحدة من أعمق التجارب الإنسانية والدينية والحضارية في تاريخ البشرية. يبدو الأردن في الكتابات التوراتية والاستشراقية وكأنه فضاء ثانوي، وأرض عابرة لا تنتج تاريخًا ولا حضارة، بل مجرد هامش للجغرافيا “المقدسة” التي رسمتها مخيلة كتّاب ورحالة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. غير أنّ هذه الرؤية ليست مجرد خطأ علمي، بل تمثّل إطارًا فكريًا كاملًا حاول من خلاله المستشرقون والرحالة الأجانب إعادة تشكيل هوية الشرق وفق رؤيتهم، لا وفق ما تقوله الأرض نفسها. فالأردن ليس ساحة صامتة تنتظر مَن يمنحها معنى، او يعلمها لغة تنطق بها او يصنع لها تاريخا وهي صانعة التاريخ، بل هو قلب المنطقة النابض، وجغرافيا تتجاوز في قيمتها ومساحتها ومكانتها حدود ما رسمته النصوص التوراتية، ليغدو مركزًا من مراكز النبوة، ومهدًا لممالك عربية أصيلة، نشأت على الأرض الأردنية منذ 14000 سنة، وسكنها الانسان الثمودي العربي منذ مليون ونصف مليون سنة وحاضنة لتراث قبلي وثقافي لا نظير له في المنطقة ولا في العالم. لقد قامت السردية التوراتية على منهج يقوم على إسقاط نصوصها على المكان دون قراءة المكان بواقعه الأردني الحقيقي. فكل تلّ قديم حُوّل إلى “مدينة توراتية”، وكل وادٍ فُسّر بما يناسب الرواية الدينية الصهيونية والمتصهينة، وكل قرية أردنية أعيدت تسميتها بما يتوافق مع المخيال العبري. ولم يكن الهدف بحثًا علميًا محايدًا، بل صناعة خريطة جديدة تخدم سردية دينية وسياسية معادية لنا، تُلغي وجود الممالك العربية الأردنية القديمة في ادوم الطفيلة وبصيرا ومؤاب وعمون وباشان، وبيريا وممالك قوم لوط وامارة بلعام / بلعما، والانباط والمملكة الضجعمية القضاعية وكانت عاصمتها جرش وتحجب أثر النقوش الثمودية والمؤابية والنبطية التي سبقت التوراة نفسها بعشرات القرون. وهكذا جرى تجاهل آلاف الشواهد الأثرية التي تؤكّد أنّ الأردن كان مركزًا حضاريًا مكتملًا، له لغته وملوكه ومدنه واقتصاده، وجيوشه وانظمته، وليس فرعًا تابعًا لأي منظومة او جغرافيا خارجية. وما إن نقترب من البعد النبوي حتى يتضح حجم الخلل في التصور الاستشراقي والصهيوني والمتصهين، الذي ما زال ينظر إلى الأردن بوصفه “مساحة عبور” للنبوات لا أكثر. والحقيقة أنّ الجغرافيا الأردنية هي المسرح الأصلي لقصص مركزية في التاريخ الإنساني والديني والجغرافي: فالأنبياء شيت وادريس وصالح نشأوا بالأردن ومدفون فيه كل من نوح (في الكرك) وهود (في جرش) عليهما السلام، كما ان لوط اعليه السلام عاش وهلك قومه في غور الأردن ومدن السهل، وشعيب عليه السلام أسس مدرسته الأخلاقية في فضاء يمتد نحو أيلة وشرق الأردن، ووادي السلط (الايكة) وموسى عليه السلام رعى عند شعيب الحفيد في اكناف الطفيلة الادومية والكرك المؤابية عشر سنوات، ووقف على جبل نبو (بمعجزة الاهية) ليرى مصيره الأخير، وداود قضى طفولته في كنف جدته المؤابية راعوث , وسليمان تزوج الاميرة نعمة العمونية ام ابنه وولي عهده رحبعام وزكريا ويحيى وعيسى عليهما السلام نشآ وعاشا في فضاء جغرافي واحد يجمع بين القدس والأردن. إنّ هذه ليست مشاهد ثانوية، بل هي صميم النبوة نفسها، الأمر الذي يجعل الأردن قلب القصص القرآني والتاريخي، لا هامشًا كما يريد الاستشراق أن يصوّره. ومريم عندما خافت على نفسها اتخذت من بيت عنيا (المغطس) ملاذا امنا ولدت في سيدنا عيسى المسيح عليه السلام ورفعه الله اليه من نفس المكان أما القبائل الأردنية، فقد كانت دائمًا هدفًا للتقليل والتهميش في الكتابات الاستشراقية والصهيونية والمتصهينة، وكأنها كيانات “فولكلورية” تعيش خارج التاريخ. غير أنّ هذه القبائل — مثل جذام وبطونها مثل بني صخر وبني عباد والعجارمة وبني حميدة وبني عقبة وغيرهم كثير، وبني حسن والحويطات والعدوان والحويطات وعشائر الجنوب والبلقاء والشمال بدوا وحضرا والسرحان والسردية والعيسى، شكّلت عبر القرون بنية اجتماعية–سياسية متماسكة، حافظت على نظام الحماية والجوار، وأدارت طرق القوافل، وأسهمت في بناء السلم الأهلي، وأقامت منظومات القضاء العرفي (القائم على العدالة والأخلاق) التي لا تزال تشكّل مرجعًا اجتماعيًا متينًا حتى اليوم. والرواية الشفوية التي يزدريها المستشرقون هي في حقيقتها أرشيف معرفي حي، يحفظ تفاصيل التحالفات، ومسارات التجارة، والذاكرة الجغرافية، وقيم الشرف التي قامت عليها المجتمعات الأردنية بخاصة والعربية بعامة. إنّ اختزال هذا الإرث العميق في “أساطير شاعرية” يكشف عن جهل فاضح بطبيعة المجتمع الأردني وتاريخه. وتزداد الصورة وضوحًا حين نقرأ ما كتبه بعض المستشرقين عن الإسلام، إذ زعموا أنّه دين “غير أصيل”، وأن معانيه مستمدة من (الزند أفستا) والنصوص الفارسية. وهذا الادعاء ليس سوى إعادة إنتاج لرؤية استشراقية قديمة أرادت دائمًا أن تنزع عن العرب قدرتهم على الإبداع والتأسيس، وأن تجعلهم مجرّد ناقلين لثقافات غيرهم. لكن الواقع العلمي والنصي للقرآن الكريم، بوصفه نصًا عربيًا خالصًا في لغته وبنيته ومرجعيته، يدحض كل تلك الادعاءات، كما أنّ نشأة الإسلام في سياقه العربي الخالص، ثم انتشاره في الأردن وما حوله، جاءت امتدادًا طبيعيًا للنبوات السابقة، لا ظاهرة مستعارة من حضارة أخرى. وقد شاركت القبائل الأردنية في بواكير الدولة الإسلامية، وأسهمت في الفتوحات، وحمت طرق الحج، وأقامت مراكز علمية مزدهرة، لتصير جزءًا فاعلًا من تاريخ الإسلام، لا متلقيًا هامشيًا كما يصوّر الخطاب الاستشراقي والمتصهين. إنّ علم الآثار الأردني اليوم يقدّم الدليل القاطع على تهافت السرديات التوراتية والاستشراقية معًا. فالنقوش الثمودية والمؤابية المكتشفة في ذيبان وربّة عمون ووادي فينان واللجاة وغيرها تكشف عن حضارات عربية اردنية موغلة في القدم، لها لغتها وإدارتها واقتصادها، سبقت معظم النصوص الدينية المتأخرة. كما أنّ ممالك ادوم ومؤاب وعمون وباشان وبيريا وممالك قوم لوط وبلعام/ بلعما والانباط، لم تكن كيانات بدائية، بل دولًا قائمة لها جيوش وأسوار ونظم ضرائب، وهي حقائق لم تستطع السردية التوراتية استيعابها لأنها تنسف ادعاء “الهيمنة التاريخية العبريّة”. ويأتي ازدهار المملكة النبطية، التي جعلت البتراء عاصمة عالمية، ليبرهن أنّ الأردن كان مركزًا سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، وليس أرضًا بلا تاريخ وبلا شعب وبلا هوية وبلا شرعية وبلا جذور كما روّجت بعض الأدبيات الصهيونية والمتصهينة. لهذا كلّه، لم يكن استهداف الأردن في الخطاب الاستشراقي مجرد صدفة، بل كان جزءًا من بنية فكرية وسياسية ممنهجة في تدبير بليل، تريد أن تُحجِّم دوره، وأن تفصل بينه وبين هويته العربية والإسلامية. فالاعتراف بالمكانة الحضارية للأردن يعني انهيار ركيزتين من ركائز السردية الاستشراقية: أوّلًا، أنّ العرب ليسوا طارئين على التاريخ؛ وثانيًا، أنّ الجغرافيا التي دارت عليها قصص الأنبياء ليست حكرًا على رواية واحدة ولا على شعب واحد. وبالتالي يبرز الأردن وعشائره في مقدمة الطلائع الطيبة. إن المشروع العلمي الذي نقوده (نحن المترجم د احمد عويدي العبادي) — في ترجمة النصوص، وتصحيح المسارات التاريخية، وإعادة الاعتبار للجغرافيا والقبيلة الأردنية، وربط الأردن بدوره النبوي والعمراني — ليس مجرّد جهد أكاديمي، بل هو إعادة تشكيل للوعي، وتحرير للسرد التاريخي من قبضة الاستشراق والتوراتية والمنهج المتصهين وهو اخطر علينا من الصهيونية. فالأردن ليس هامشًا على دفتر أحد، وهو ليس وطنا بلا شعب ينتظر شعبا بلا وطن، وهو ليس شعبا لا قيادة ينتظر قيادة بلا شعب لتمسك من تلابيبه وتطرحه ارضا، بل هو قلب التاريخ الذي حفظته جباله، ووعته قبائله، ونطق به القرآن الكريم في سياق النبوة، وعبّرت عنه الحضارات التي قامت على ترابه عبر آلاف السنين. بهذا الفهم يصبح الأردن، كما هو حقًا، كتابًا مفتوحًا للتاريخ، لا هامشًا في كتب الآخرين، وفضاءً تصنعه هويته وشرعيته وذاكرته، لا سرديات مستوردة أو قراءات متحيّزة. وهو ليس قطعة قماش عند خياط يفصله كيف شاء، لكنه صخر قاسي لا يقطعه فاس ولا مقص وليس قطعة من الحلوى يأكلها من له اسنان او بلا اسنان، ونقول ممن يريدون تفصيل الأردن على مقاسهم جملة واحدة: الأردن كبير عليكم وهو كبير باهله ونحن اهله كِبار به
التعليقات
الأردن في مواجهة السردية التوراتية والاستشراقية الصهيونية والمتصهينة
التعليقات