(ح19) مذكرات أخطر جاسوسة انجليزية (من 1907 – 1926) Gertrude Lowthian Bell ماذا كتبت عن الأردن وعشائره واهميتهما ترجمة وتحليل وتعليق المؤرخ المفكر د. أحمد عويدي العبادي (أبو البشر ونمي) دكتوراه من جامعة كامبريدج البريطانية – 1982م
36 = الرسالة 36 (1916) – البادية الأردنية وبدايات الثورة العربية 'في مطلع هذا العام (1916)، وصلتني الأخبار من البلقاء ومعان أن القبائل بدأت تتحرك بقلق واضح. الحديث عن الثورة العربية ينتشر بين الناس، لكن المواقف متباينة. بعض الشيوخ يرون فيها فرصة للانعتاق من الأتراك، بينما يخشى آخرون أن تفقدهم امتيازاتهم القديمة.' 'التقيت برجال من بني صخر في البادية الشرقية. قال أحدهم: (نحن لا نعرف من نصدق، الأتراك يطلبون منا الولاء، والعرب يدعوننا للثورة). كان صوته يحمل ارتباكًا صادقًا، إذ لم يكن الاختيار سهلاً بين قوتين تتنازعان النفوذ.' 'أما في معان، فقد وجدت أن أهلها أقرب إلى قبول الثورة. أحد تجارها قال لي: (إنها فرصة لنستعيد مكانتنا بين العرب). لكنني لاحظت أيضًا أن الخوف من انتقام الأتراك لا يزال حاضرًا بقوة.' 'في الكرك، سمعت كلامًا مختلفًا. بعض الشيوخ أبدوا حذرًا شديدًا، قائلين إنهم لا يثقون بالوعود البريطانية. أحدهم قال: (نحن جُرّبنا مع الأتراك، فلا نريد أن نخدع مرة أخرى). هذه العبارة ظلّت ترنّ في أذني طويلًا.' 'كتبت في دفتري: (البادية الأردنية اليوم عند مفترق طرق. القبائل بين ولاء قديم وإغراء جديد، بين الخوف من البطش والأمل في الحرية. لا شك أن الأشهر القادمة ستحدد مصير المنطقة كلها). 37 = الرسالة 37 (1916) – الحويطات ومعان والعقبة في بدايات الثورة 'اتجهت الأخبار هذا الشهر نحو الجنوب، حيث لعبت قبيلة الحويطات دورًا بارزًا. التقيت ببعض رجالهم في معان، وكانوا يتحدثون بحماسة عن انضمامهم إلى الثورة. قال أحد الشيوخ: (لقد مللنا ظلم الأتراك، والآن نقاتل تحت راية العرب). كان في صوته يقين يختلف عن حذر القبائل الأخرى.' 'في العقبة، بدا الأمر أكثر وضوحًا. بعض فروع الحويطات أعلنوا استعدادهم لدعم الشريف حسين، بل وأرسلوا فرسانهم للمشاركة في الهجمات الأولى على المواقع التركية. في السوق سمعت رجلاً من التجار يقول: (الحويطات صاروا حديث الناس، فهم من بدأ المعركة على الشاطئ).' 'ومع ذلك، لم يكن الإجماع كاملاً. أحد كبارهم أسرّ لي قائلاً: (نحن نقاتل مع العرب، لكننا لا نثق بالإنجليز). كانت عبارته كاشفة عن وعي مزدوج: حماس للثورة، لكن مع ريبة من القوى الأجنبية التي تساندها.' 'كتبت في دفتري: (الحويطات اليوم هم رأس الحربة في الجنوب الأردني. إذا استمروا في دعمهم للثورة، فسوف يتحولون إلى قوة حاسمة في ميزان القوى بين العرب والأتراك).' 38 = الرسالة 38 (1917) – الكرك والبلقاء في ظل تصاعد الثورة 'مع مطلع العام الجديد، كانت أنباء الثورة تصل إلى الكرك والبلقاء بوتيرة متسارعة. في الكرك، التقيت بعض الشيوخ الذين بدوا مترددين بين التزامهم بالعثمانيين وبين ميلهم إلى الثورة. قال لي أحدهم: (لقد حاصرنا صلاح الدين في قلعتنا، فهل تظنين أن الأتراك أقوى منه؟). كانت جملة تحمل اعتزازًا بتاريخ مدينته، لكنها لم تحسم الموقف.' 'في الأسواق، كان الناس يتحدثون عن قوافل سلاح وذخيرة تمر عبر البادية نحو قوات الثورة. أحد التجار في الكرك قال: (الطريق لم يعد آمنًا كما كان، فكل عشيرة تريد أن تعرف لمن تذهب هذه الأسلحة). لقد كان واضحًا أن التوازنات القبلية أصبحت جزءًا من المعركة.' 'أما في البلقاء، فقد كان الوضع أكثر التباسًا. بني صخر، الذين يسيطرون على مساحات واسعة، بدوا حذرين. شيخ من شيوخهم قال: (نحن نراقب ما يجري، ولن نضع أنفسنا في كفة إلا إذا تيقّنا أنها الغالبة). هذا الحذر جعلهم قوة يُحسب لها حساب من الطرفين: العثمانيين والثوار.' 'كتبت في دفتري: (الكرك تتأرجح بين إرثها المقاوم وحسابات الحاضر، والبلقاء تنتظر لترى إلى أين تميل الكفة. هذه الأرض هي ميزان الثورة، ومن يكسب ولاء قبائلها فقد ضمن طريقه إلى الشام).' الرسالة 39 (1917) – أخبار حملة العقبة وصلتها بالقبائل الأردنية 'في صيف هذا العام، جاءتنا الأنباء الكبرى: سقوط العقبة بيد قوات الثورة بقيادة الشريف فيصل ورجال الحويطات. كان الخبر يتردد في كل المجالس من الكرك إلى البلقاء، وكأنه زلزال قلب الموازين. أحد الشيوخ قال لي: (من يملك العقبة يملك البحر، والآن صارت بأيدي العرب).' 'في الطريق إلى البلقاء، التقيت برجال من الحويطات عائدين من المعركة. وجوههم تلمع بالفخر، وكانوا يروون تفاصيل الهجوم على الحامية العثمانية. قال أحدهم: (قاتلنا حتى دخلناها، ففرّ الأتراك وتركوا سلاحهم وراءهم). شعرت أن انتصارهم منحهم مكانة جديدة بين القبائل.' 'أما بني صخر، فقد بدت مواقفهم أكثر إيجابية بعد هذا النصر. شيخ من شيوخهم قال: (إذا تمكن العرب من أخذ العقبة، فلن يطول الوقت حتى يأخذوا غيرها). كان ذلك اعترافًا بأن الثورة لم تعد مجرد حلم، بل واقع يفرض نفسه.' 'في الكرك أيضًا، لاحظت تغيرًا في النبرة. أهل السوق كانوا يقولون: (الطريق إلى الحجاز صار مفتوحًا، والإنجليز خلف العرب). لقد رأوا في سقوط العقبة بداية لمرحلة جديدة ستغير وجه المنطقة.' 'كتبت في دفتري: (العقبة لم تسقط وحدها، بل سقط معها جدار الخوف من العثمانيين. لقد دخلت الثورة طورًا جديدًا، وأصبحت القبائل الأردنية جزءًا من الحدث، سواء أرادت أم لم ترد).' 40 = الرسالة 40 (1918) – التحركات شمال الأردن نحو السلط وعمان 'مع دخول عام 1918، اتجهت الأنظار شمالًا، حيث تقدمت قوات الثورة مدعومة بالإنجليز نحو السلط وعمان. كانت الأخبار تصلني من البلقاء متلاحقة: القوافل تتحرك، القبائل تتأهب، والناس ينتظرون ما ستؤول إليه المعارك.' 'في السلط، قيل لي إن بعض أعيانها بدأوا ينسقون مع رجال الثورة. أحدهم كتب لي: (نحن نرى أن زمن الأتراك قد انتهى، لكننا نريد أن نتأكد أن الإنجليز لن يخدعونا). كانت العبارة كاشفة عن أمل ممزوج بالحذر.' 'أما في عمان، فقد بدت أكثر هدوءًا، لكنها تحت مراقبة شديدة من العثمانيين. أحد التجار قال لي: (كل كلمة هنا محسوبة، لكننا نعلم أن الإنجليز قادمون). كان الشعور العام أن التغيير يقترب، حتى لو لم يُعلن الناس ذلك جهارًا.' 'من جهة القبائل، بدا أن بني صخر يتابعون الموقف عن كثب. شيخ منهم قال: (إذا دخل العرب عمان، فنحن أول من يرحب بهم). هذا الموقف، وإن لم يكن التزامًا كاملًا، إلا أنه إشارة إلى أن القبائل تهيئ نفسها للانضمام إلى الكفة الراجحة.' 'كتبت في دفتري: (شمال الأردن يقف على عتبة تحول تاريخي. السلط وعمان ليستا مجرد مدينتين، بل مفتاح الطريق إلى دمشق. ومن يملكهما يفتح الباب أمام نهاية النفوذ العثماني في الشام).' 41 = الرسالة 41 (1918) – دخول عمان وتغير الموازين 'في أواخر عام 1918، وصلني الخبر الحاسم: دخول قوات الثورة مدعومة بالإنجليز إلى عمان. كان ذلك الحدث بمثابة إعلان نهاية العهد العثماني في الأردن. سمعت من بعض أهل السلط أن الجنود الأتراك انسحبوا مسرعين، تاركين وراءهم العتاد، فيما دخل العرب والإنجليز إلى المدينة دون مقاومة تذكر.' 'أحد وجهاء عمان كتب لي: (لقد تبدل كل شيء في يوم واحد، فالعلم العثماني نُزع، وارتفع علم جديد). كانت عبارته تختصر شعور الناس بالانتقال المفاجئ من ولاء قديم إلى واقع جديد.' 'في الأسواق، كان الناس يتبادلون التهاني، لكنهم يتحدثون أيضًا بحذر عن المستقبل. تاجر من أهل عمان قال لي: (نحن لا نعرف ما إذا كان الإنجليز سيبقون، أم أن العرب سيحكموننا. المهم أننا خرجنا من يد الأتراك). كان كلامه يعكس فرحة ممزوجة بالترقب.' 'أما القبائل المحيطة، وخاصة بني صخر، فقد بدت أكثر اندماجًا في المشهد الجديد. أحد شيوخهم قال: (الآن صار لنا دور في بناء الدولة، لا مجرد حماية الطريق). هذه العبارة كانت إشارة إلى بداية وعي سياسي جديد عند القبائل.' 'كتبت في دفتري: (دخول عمان لم يكن مجرد حدث عسكري، بل كان إعلانًا عن ولادة مرحلة جديدة. الأردن لم يعد أطرافًا للسلطنة، بل صار ساحة مفتوحة لمشاريع عربية وإنجليزية ستحدد مصيره).' 42 = الرسالة 42 (1919) – شرق الأردن بعد الحرب وبدايات التفكير في الكيانات الجديدة 'بعد انتهاء الحرب (العالمية الأولى) واندحار الأتراك، وجدت أن شرق الأردن يعيش حالة من الفراغ السياسي. المدن الكبرى – السلط، عمان، الكرك، ومعان – باتت خارج الحكم العثماني، لكنها لم تدخل بعد في نظام واضح. القبائل بدت وكأنها تعود إلى استقلالها القديم، لكن بانتظار سلطة جديدة ترسم الحدود.' 'في السلط، أخبرني بعض الأعيان أنهم عقدوا مجالس للتشاور حول إدارة شؤونهم. أحدهم قال لي: (نحن نعرف كيف نحكم أنفسنا، لكننا نحتاج إلى مظلة عربية تجمعنا). كان واضحًا أنهم يخشون الفوضى أكثر من أي شيء آخر.' 'أما في الكرك، فقد لاحظت روحًا من الاعتزاز بالاستقلال، لكنها مشوبة بالقلق من عودة الأتراك أو قدوم سلطة أجنبية أخرى. شيخ كبير قال: (لن نقبل إلا بحكم عربي). لكن خلف هذه الكلمات، شعرت بقلق حقيقي من التدخلات الأجنبية.' 'في البادية، وخاصة عند بني صخر والحويطات، كان الكلام يدور حول المكاسب والخسائر. أحد شيوخ بني صخر قال: (الأتراك رحلوا، لكن من سيأتي مكانهم؟). كانت هذه الجملة تعبيرًا عن لحظة تاريخية فاصلة، حيث لا أحد يعرف من سيملأ الفراغ.' 'كتبت في دفتري: (شرق الأردن في عام 1919 يقف على مفترق طرق. إنه فضاء مفتوح بلا سلطة حقيقية، تتنازعه الطموحات العربية والمشاريع البريطانية. هنا تبدأ قصة جديدة قد تغيّر وجه المنطقة).' 43 = الرسالة 43 (1920) – مؤتمر دمشق وتداعياته على شرق الأردن 'في ربيع هذا العام، حضرت في دمشق أصداء المؤتمر الذي أعلن فيه فيصل نفسه ملكًا على سوريا الكبرى. كان بين الحضور وفود من شرق الأردن، من السلط والكرك ومعان. قال لي أحد المشاركين من السلط: (نحن نرى في فيصل رمزًا لوحدة العرب، لكننا نخشى من أن تكون هذه الوحدة قصيرة العمر). كانت كلماته تعكس الحماس والريبة في آن واحد.' 'في الكرك، أخبرني بعض الشيوخ أن الناس احتفلوا بخبر إعلان المملكة السورية، لكنهم تساءلوا: (هل ستصل سلطة فيصل إلينا حقًا؟). بدا لي أنهم يرحبون بالفكرة، لكنهم يشكون في القدرة على التطبيق.' 'أما في البلقاء، فقد بدت المواقف أكثر عملية. أحد رجال بني صخر قال: (إذا كان فيصل قويًا، فنحن معه. أما إذا انهزم أمام الفرنسيين، فلن نضيع أنفسنا). كانت تلك الجملة تلخص حسابات القوة التي تحكم موقف القبائل.' 'في عمان، لاحظت أن الأهالي يتابعون الأخبار بشغف، لكنهم يتحدثون عن الإنجليز أكثر مما يتحدثون عن فيصل. تاجر من أهلها قال: (من يملك القوة على الأرض هم الإنجليز، ولسنا متأكدين أن فيصل يستطيع أن يغير ذلك).' 'كتبت في دفتري: (مؤتمر دمشق أعطى للأردن أملًا جديدًا، لكنه كشف أيضًا عن حدود النفوذ الفيصلي. المنطقة تقف بين مشروع عربي ناشئ وقوة بريطانية راسخة، والقبائل تراقب لترى أيهما ينتصر). انتهت (ح19) وتليها (ح20) بعون الله تعالى وهي مواصلة نشر رسائل أخطر جاسوسة انجليزية
(ح19) مذكرات أخطر جاسوسة انجليزية (من 1907 – 1926) Gertrude Lowthian Bell ماذا كتبت عن الأردن وعشائره واهميتهما ترجمة وتحليل وتعليق المؤرخ المفكر د. أحمد عويدي العبادي (أبو البشر ونمي) دكتوراه من جامعة كامبريدج البريطانية – 1982م
36 = الرسالة 36 (1916) – البادية الأردنية وبدايات الثورة العربية 'في مطلع هذا العام (1916)، وصلتني الأخبار من البلقاء ومعان أن القبائل بدأت تتحرك بقلق واضح. الحديث عن الثورة العربية ينتشر بين الناس، لكن المواقف متباينة. بعض الشيوخ يرون فيها فرصة للانعتاق من الأتراك، بينما يخشى آخرون أن تفقدهم امتيازاتهم القديمة.' 'التقيت برجال من بني صخر في البادية الشرقية. قال أحدهم: (نحن لا نعرف من نصدق، الأتراك يطلبون منا الولاء، والعرب يدعوننا للثورة). كان صوته يحمل ارتباكًا صادقًا، إذ لم يكن الاختيار سهلاً بين قوتين تتنازعان النفوذ.' 'أما في معان، فقد وجدت أن أهلها أقرب إلى قبول الثورة. أحد تجارها قال لي: (إنها فرصة لنستعيد مكانتنا بين العرب). لكنني لاحظت أيضًا أن الخوف من انتقام الأتراك لا يزال حاضرًا بقوة.' 'في الكرك، سمعت كلامًا مختلفًا. بعض الشيوخ أبدوا حذرًا شديدًا، قائلين إنهم لا يثقون بالوعود البريطانية. أحدهم قال: (نحن جُرّبنا مع الأتراك، فلا نريد أن نخدع مرة أخرى). هذه العبارة ظلّت ترنّ في أذني طويلًا.' 'كتبت في دفتري: (البادية الأردنية اليوم عند مفترق طرق. القبائل بين ولاء قديم وإغراء جديد، بين الخوف من البطش والأمل في الحرية. لا شك أن الأشهر القادمة ستحدد مصير المنطقة كلها). 37 = الرسالة 37 (1916) – الحويطات ومعان والعقبة في بدايات الثورة 'اتجهت الأخبار هذا الشهر نحو الجنوب، حيث لعبت قبيلة الحويطات دورًا بارزًا. التقيت ببعض رجالهم في معان، وكانوا يتحدثون بحماسة عن انضمامهم إلى الثورة. قال أحد الشيوخ: (لقد مللنا ظلم الأتراك، والآن نقاتل تحت راية العرب). كان في صوته يقين يختلف عن حذر القبائل الأخرى.' 'في العقبة، بدا الأمر أكثر وضوحًا. بعض فروع الحويطات أعلنوا استعدادهم لدعم الشريف حسين، بل وأرسلوا فرسانهم للمشاركة في الهجمات الأولى على المواقع التركية. في السوق سمعت رجلاً من التجار يقول: (الحويطات صاروا حديث الناس، فهم من بدأ المعركة على الشاطئ).' 'ومع ذلك، لم يكن الإجماع كاملاً. أحد كبارهم أسرّ لي قائلاً: (نحن نقاتل مع العرب، لكننا لا نثق بالإنجليز). كانت عبارته كاشفة عن وعي مزدوج: حماس للثورة، لكن مع ريبة من القوى الأجنبية التي تساندها.' 'كتبت في دفتري: (الحويطات اليوم هم رأس الحربة في الجنوب الأردني. إذا استمروا في دعمهم للثورة، فسوف يتحولون إلى قوة حاسمة في ميزان القوى بين العرب والأتراك).' 38 = الرسالة 38 (1917) – الكرك والبلقاء في ظل تصاعد الثورة 'مع مطلع العام الجديد، كانت أنباء الثورة تصل إلى الكرك والبلقاء بوتيرة متسارعة. في الكرك، التقيت بعض الشيوخ الذين بدوا مترددين بين التزامهم بالعثمانيين وبين ميلهم إلى الثورة. قال لي أحدهم: (لقد حاصرنا صلاح الدين في قلعتنا، فهل تظنين أن الأتراك أقوى منه؟). كانت جملة تحمل اعتزازًا بتاريخ مدينته، لكنها لم تحسم الموقف.' 'في الأسواق، كان الناس يتحدثون عن قوافل سلاح وذخيرة تمر عبر البادية نحو قوات الثورة. أحد التجار في الكرك قال: (الطريق لم يعد آمنًا كما كان، فكل عشيرة تريد أن تعرف لمن تذهب هذه الأسلحة). لقد كان واضحًا أن التوازنات القبلية أصبحت جزءًا من المعركة.' 'أما في البلقاء، فقد كان الوضع أكثر التباسًا. بني صخر، الذين يسيطرون على مساحات واسعة، بدوا حذرين. شيخ من شيوخهم قال: (نحن نراقب ما يجري، ولن نضع أنفسنا في كفة إلا إذا تيقّنا أنها الغالبة). هذا الحذر جعلهم قوة يُحسب لها حساب من الطرفين: العثمانيين والثوار.' 'كتبت في دفتري: (الكرك تتأرجح بين إرثها المقاوم وحسابات الحاضر، والبلقاء تنتظر لترى إلى أين تميل الكفة. هذه الأرض هي ميزان الثورة، ومن يكسب ولاء قبائلها فقد ضمن طريقه إلى الشام).' الرسالة 39 (1917) – أخبار حملة العقبة وصلتها بالقبائل الأردنية 'في صيف هذا العام، جاءتنا الأنباء الكبرى: سقوط العقبة بيد قوات الثورة بقيادة الشريف فيصل ورجال الحويطات. كان الخبر يتردد في كل المجالس من الكرك إلى البلقاء، وكأنه زلزال قلب الموازين. أحد الشيوخ قال لي: (من يملك العقبة يملك البحر، والآن صارت بأيدي العرب).' 'في الطريق إلى البلقاء، التقيت برجال من الحويطات عائدين من المعركة. وجوههم تلمع بالفخر، وكانوا يروون تفاصيل الهجوم على الحامية العثمانية. قال أحدهم: (قاتلنا حتى دخلناها، ففرّ الأتراك وتركوا سلاحهم وراءهم). شعرت أن انتصارهم منحهم مكانة جديدة بين القبائل.' 'أما بني صخر، فقد بدت مواقفهم أكثر إيجابية بعد هذا النصر. شيخ من شيوخهم قال: (إذا تمكن العرب من أخذ العقبة، فلن يطول الوقت حتى يأخذوا غيرها). كان ذلك اعترافًا بأن الثورة لم تعد مجرد حلم، بل واقع يفرض نفسه.' 'في الكرك أيضًا، لاحظت تغيرًا في النبرة. أهل السوق كانوا يقولون: (الطريق إلى الحجاز صار مفتوحًا، والإنجليز خلف العرب). لقد رأوا في سقوط العقبة بداية لمرحلة جديدة ستغير وجه المنطقة.' 'كتبت في دفتري: (العقبة لم تسقط وحدها، بل سقط معها جدار الخوف من العثمانيين. لقد دخلت الثورة طورًا جديدًا، وأصبحت القبائل الأردنية جزءًا من الحدث، سواء أرادت أم لم ترد).' 40 = الرسالة 40 (1918) – التحركات شمال الأردن نحو السلط وعمان 'مع دخول عام 1918، اتجهت الأنظار شمالًا، حيث تقدمت قوات الثورة مدعومة بالإنجليز نحو السلط وعمان. كانت الأخبار تصلني من البلقاء متلاحقة: القوافل تتحرك، القبائل تتأهب، والناس ينتظرون ما ستؤول إليه المعارك.' 'في السلط، قيل لي إن بعض أعيانها بدأوا ينسقون مع رجال الثورة. أحدهم كتب لي: (نحن نرى أن زمن الأتراك قد انتهى، لكننا نريد أن نتأكد أن الإنجليز لن يخدعونا). كانت العبارة كاشفة عن أمل ممزوج بالحذر.' 'أما في عمان، فقد بدت أكثر هدوءًا، لكنها تحت مراقبة شديدة من العثمانيين. أحد التجار قال لي: (كل كلمة هنا محسوبة، لكننا نعلم أن الإنجليز قادمون). كان الشعور العام أن التغيير يقترب، حتى لو لم يُعلن الناس ذلك جهارًا.' 'من جهة القبائل، بدا أن بني صخر يتابعون الموقف عن كثب. شيخ منهم قال: (إذا دخل العرب عمان، فنحن أول من يرحب بهم). هذا الموقف، وإن لم يكن التزامًا كاملًا، إلا أنه إشارة إلى أن القبائل تهيئ نفسها للانضمام إلى الكفة الراجحة.' 'كتبت في دفتري: (شمال الأردن يقف على عتبة تحول تاريخي. السلط وعمان ليستا مجرد مدينتين، بل مفتاح الطريق إلى دمشق. ومن يملكهما يفتح الباب أمام نهاية النفوذ العثماني في الشام).' 41 = الرسالة 41 (1918) – دخول عمان وتغير الموازين 'في أواخر عام 1918، وصلني الخبر الحاسم: دخول قوات الثورة مدعومة بالإنجليز إلى عمان. كان ذلك الحدث بمثابة إعلان نهاية العهد العثماني في الأردن. سمعت من بعض أهل السلط أن الجنود الأتراك انسحبوا مسرعين، تاركين وراءهم العتاد، فيما دخل العرب والإنجليز إلى المدينة دون مقاومة تذكر.' 'أحد وجهاء عمان كتب لي: (لقد تبدل كل شيء في يوم واحد، فالعلم العثماني نُزع، وارتفع علم جديد). كانت عبارته تختصر شعور الناس بالانتقال المفاجئ من ولاء قديم إلى واقع جديد.' 'في الأسواق، كان الناس يتبادلون التهاني، لكنهم يتحدثون أيضًا بحذر عن المستقبل. تاجر من أهل عمان قال لي: (نحن لا نعرف ما إذا كان الإنجليز سيبقون، أم أن العرب سيحكموننا. المهم أننا خرجنا من يد الأتراك). كان كلامه يعكس فرحة ممزوجة بالترقب.' 'أما القبائل المحيطة، وخاصة بني صخر، فقد بدت أكثر اندماجًا في المشهد الجديد. أحد شيوخهم قال: (الآن صار لنا دور في بناء الدولة، لا مجرد حماية الطريق). هذه العبارة كانت إشارة إلى بداية وعي سياسي جديد عند القبائل.' 'كتبت في دفتري: (دخول عمان لم يكن مجرد حدث عسكري، بل كان إعلانًا عن ولادة مرحلة جديدة. الأردن لم يعد أطرافًا للسلطنة، بل صار ساحة مفتوحة لمشاريع عربية وإنجليزية ستحدد مصيره).' 42 = الرسالة 42 (1919) – شرق الأردن بعد الحرب وبدايات التفكير في الكيانات الجديدة 'بعد انتهاء الحرب (العالمية الأولى) واندحار الأتراك، وجدت أن شرق الأردن يعيش حالة من الفراغ السياسي. المدن الكبرى – السلط، عمان، الكرك، ومعان – باتت خارج الحكم العثماني، لكنها لم تدخل بعد في نظام واضح. القبائل بدت وكأنها تعود إلى استقلالها القديم، لكن بانتظار سلطة جديدة ترسم الحدود.' 'في السلط، أخبرني بعض الأعيان أنهم عقدوا مجالس للتشاور حول إدارة شؤونهم. أحدهم قال لي: (نحن نعرف كيف نحكم أنفسنا، لكننا نحتاج إلى مظلة عربية تجمعنا). كان واضحًا أنهم يخشون الفوضى أكثر من أي شيء آخر.' 'أما في الكرك، فقد لاحظت روحًا من الاعتزاز بالاستقلال، لكنها مشوبة بالقلق من عودة الأتراك أو قدوم سلطة أجنبية أخرى. شيخ كبير قال: (لن نقبل إلا بحكم عربي). لكن خلف هذه الكلمات، شعرت بقلق حقيقي من التدخلات الأجنبية.' 'في البادية، وخاصة عند بني صخر والحويطات، كان الكلام يدور حول المكاسب والخسائر. أحد شيوخ بني صخر قال: (الأتراك رحلوا، لكن من سيأتي مكانهم؟). كانت هذه الجملة تعبيرًا عن لحظة تاريخية فاصلة، حيث لا أحد يعرف من سيملأ الفراغ.' 'كتبت في دفتري: (شرق الأردن في عام 1919 يقف على مفترق طرق. إنه فضاء مفتوح بلا سلطة حقيقية، تتنازعه الطموحات العربية والمشاريع البريطانية. هنا تبدأ قصة جديدة قد تغيّر وجه المنطقة).' 43 = الرسالة 43 (1920) – مؤتمر دمشق وتداعياته على شرق الأردن 'في ربيع هذا العام، حضرت في دمشق أصداء المؤتمر الذي أعلن فيه فيصل نفسه ملكًا على سوريا الكبرى. كان بين الحضور وفود من شرق الأردن، من السلط والكرك ومعان. قال لي أحد المشاركين من السلط: (نحن نرى في فيصل رمزًا لوحدة العرب، لكننا نخشى من أن تكون هذه الوحدة قصيرة العمر). كانت كلماته تعكس الحماس والريبة في آن واحد.' 'في الكرك، أخبرني بعض الشيوخ أن الناس احتفلوا بخبر إعلان المملكة السورية، لكنهم تساءلوا: (هل ستصل سلطة فيصل إلينا حقًا؟). بدا لي أنهم يرحبون بالفكرة، لكنهم يشكون في القدرة على التطبيق.' 'أما في البلقاء، فقد بدت المواقف أكثر عملية. أحد رجال بني صخر قال: (إذا كان فيصل قويًا، فنحن معه. أما إذا انهزم أمام الفرنسيين، فلن نضيع أنفسنا). كانت تلك الجملة تلخص حسابات القوة التي تحكم موقف القبائل.' 'في عمان، لاحظت أن الأهالي يتابعون الأخبار بشغف، لكنهم يتحدثون عن الإنجليز أكثر مما يتحدثون عن فيصل. تاجر من أهلها قال: (من يملك القوة على الأرض هم الإنجليز، ولسنا متأكدين أن فيصل يستطيع أن يغير ذلك).' 'كتبت في دفتري: (مؤتمر دمشق أعطى للأردن أملًا جديدًا، لكنه كشف أيضًا عن حدود النفوذ الفيصلي. المنطقة تقف بين مشروع عربي ناشئ وقوة بريطانية راسخة، والقبائل تراقب لترى أيهما ينتصر). انتهت (ح19) وتليها (ح20) بعون الله تعالى وهي مواصلة نشر رسائل أخطر جاسوسة انجليزية
(ح19) مذكرات أخطر جاسوسة انجليزية (من 1907 – 1926) Gertrude Lowthian Bell ماذا كتبت عن الأردن وعشائره واهميتهما ترجمة وتحليل وتعليق المؤرخ المفكر د. أحمد عويدي العبادي (أبو البشر ونمي) دكتوراه من جامعة كامبريدج البريطانية – 1982م
36 = الرسالة 36 (1916) – البادية الأردنية وبدايات الثورة العربية 'في مطلع هذا العام (1916)، وصلتني الأخبار من البلقاء ومعان أن القبائل بدأت تتحرك بقلق واضح. الحديث عن الثورة العربية ينتشر بين الناس، لكن المواقف متباينة. بعض الشيوخ يرون فيها فرصة للانعتاق من الأتراك، بينما يخشى آخرون أن تفقدهم امتيازاتهم القديمة.' 'التقيت برجال من بني صخر في البادية الشرقية. قال أحدهم: (نحن لا نعرف من نصدق، الأتراك يطلبون منا الولاء، والعرب يدعوننا للثورة). كان صوته يحمل ارتباكًا صادقًا، إذ لم يكن الاختيار سهلاً بين قوتين تتنازعان النفوذ.' 'أما في معان، فقد وجدت أن أهلها أقرب إلى قبول الثورة. أحد تجارها قال لي: (إنها فرصة لنستعيد مكانتنا بين العرب). لكنني لاحظت أيضًا أن الخوف من انتقام الأتراك لا يزال حاضرًا بقوة.' 'في الكرك، سمعت كلامًا مختلفًا. بعض الشيوخ أبدوا حذرًا شديدًا، قائلين إنهم لا يثقون بالوعود البريطانية. أحدهم قال: (نحن جُرّبنا مع الأتراك، فلا نريد أن نخدع مرة أخرى). هذه العبارة ظلّت ترنّ في أذني طويلًا.' 'كتبت في دفتري: (البادية الأردنية اليوم عند مفترق طرق. القبائل بين ولاء قديم وإغراء جديد، بين الخوف من البطش والأمل في الحرية. لا شك أن الأشهر القادمة ستحدد مصير المنطقة كلها). 37 = الرسالة 37 (1916) – الحويطات ومعان والعقبة في بدايات الثورة 'اتجهت الأخبار هذا الشهر نحو الجنوب، حيث لعبت قبيلة الحويطات دورًا بارزًا. التقيت ببعض رجالهم في معان، وكانوا يتحدثون بحماسة عن انضمامهم إلى الثورة. قال أحد الشيوخ: (لقد مللنا ظلم الأتراك، والآن نقاتل تحت راية العرب). كان في صوته يقين يختلف عن حذر القبائل الأخرى.' 'في العقبة، بدا الأمر أكثر وضوحًا. بعض فروع الحويطات أعلنوا استعدادهم لدعم الشريف حسين، بل وأرسلوا فرسانهم للمشاركة في الهجمات الأولى على المواقع التركية. في السوق سمعت رجلاً من التجار يقول: (الحويطات صاروا حديث الناس، فهم من بدأ المعركة على الشاطئ).' 'ومع ذلك، لم يكن الإجماع كاملاً. أحد كبارهم أسرّ لي قائلاً: (نحن نقاتل مع العرب، لكننا لا نثق بالإنجليز). كانت عبارته كاشفة عن وعي مزدوج: حماس للثورة، لكن مع ريبة من القوى الأجنبية التي تساندها.' 'كتبت في دفتري: (الحويطات اليوم هم رأس الحربة في الجنوب الأردني. إذا استمروا في دعمهم للثورة، فسوف يتحولون إلى قوة حاسمة في ميزان القوى بين العرب والأتراك).' 38 = الرسالة 38 (1917) – الكرك والبلقاء في ظل تصاعد الثورة 'مع مطلع العام الجديد، كانت أنباء الثورة تصل إلى الكرك والبلقاء بوتيرة متسارعة. في الكرك، التقيت بعض الشيوخ الذين بدوا مترددين بين التزامهم بالعثمانيين وبين ميلهم إلى الثورة. قال لي أحدهم: (لقد حاصرنا صلاح الدين في قلعتنا، فهل تظنين أن الأتراك أقوى منه؟). كانت جملة تحمل اعتزازًا بتاريخ مدينته، لكنها لم تحسم الموقف.' 'في الأسواق، كان الناس يتحدثون عن قوافل سلاح وذخيرة تمر عبر البادية نحو قوات الثورة. أحد التجار في الكرك قال: (الطريق لم يعد آمنًا كما كان، فكل عشيرة تريد أن تعرف لمن تذهب هذه الأسلحة). لقد كان واضحًا أن التوازنات القبلية أصبحت جزءًا من المعركة.' 'أما في البلقاء، فقد كان الوضع أكثر التباسًا. بني صخر، الذين يسيطرون على مساحات واسعة، بدوا حذرين. شيخ من شيوخهم قال: (نحن نراقب ما يجري، ولن نضع أنفسنا في كفة إلا إذا تيقّنا أنها الغالبة). هذا الحذر جعلهم قوة يُحسب لها حساب من الطرفين: العثمانيين والثوار.' 'كتبت في دفتري: (الكرك تتأرجح بين إرثها المقاوم وحسابات الحاضر، والبلقاء تنتظر لترى إلى أين تميل الكفة. هذه الأرض هي ميزان الثورة، ومن يكسب ولاء قبائلها فقد ضمن طريقه إلى الشام).' الرسالة 39 (1917) – أخبار حملة العقبة وصلتها بالقبائل الأردنية 'في صيف هذا العام، جاءتنا الأنباء الكبرى: سقوط العقبة بيد قوات الثورة بقيادة الشريف فيصل ورجال الحويطات. كان الخبر يتردد في كل المجالس من الكرك إلى البلقاء، وكأنه زلزال قلب الموازين. أحد الشيوخ قال لي: (من يملك العقبة يملك البحر، والآن صارت بأيدي العرب).' 'في الطريق إلى البلقاء، التقيت برجال من الحويطات عائدين من المعركة. وجوههم تلمع بالفخر، وكانوا يروون تفاصيل الهجوم على الحامية العثمانية. قال أحدهم: (قاتلنا حتى دخلناها، ففرّ الأتراك وتركوا سلاحهم وراءهم). شعرت أن انتصارهم منحهم مكانة جديدة بين القبائل.' 'أما بني صخر، فقد بدت مواقفهم أكثر إيجابية بعد هذا النصر. شيخ من شيوخهم قال: (إذا تمكن العرب من أخذ العقبة، فلن يطول الوقت حتى يأخذوا غيرها). كان ذلك اعترافًا بأن الثورة لم تعد مجرد حلم، بل واقع يفرض نفسه.' 'في الكرك أيضًا، لاحظت تغيرًا في النبرة. أهل السوق كانوا يقولون: (الطريق إلى الحجاز صار مفتوحًا، والإنجليز خلف العرب). لقد رأوا في سقوط العقبة بداية لمرحلة جديدة ستغير وجه المنطقة.' 'كتبت في دفتري: (العقبة لم تسقط وحدها، بل سقط معها جدار الخوف من العثمانيين. لقد دخلت الثورة طورًا جديدًا، وأصبحت القبائل الأردنية جزءًا من الحدث، سواء أرادت أم لم ترد).' 40 = الرسالة 40 (1918) – التحركات شمال الأردن نحو السلط وعمان 'مع دخول عام 1918، اتجهت الأنظار شمالًا، حيث تقدمت قوات الثورة مدعومة بالإنجليز نحو السلط وعمان. كانت الأخبار تصلني من البلقاء متلاحقة: القوافل تتحرك، القبائل تتأهب، والناس ينتظرون ما ستؤول إليه المعارك.' 'في السلط، قيل لي إن بعض أعيانها بدأوا ينسقون مع رجال الثورة. أحدهم كتب لي: (نحن نرى أن زمن الأتراك قد انتهى، لكننا نريد أن نتأكد أن الإنجليز لن يخدعونا). كانت العبارة كاشفة عن أمل ممزوج بالحذر.' 'أما في عمان، فقد بدت أكثر هدوءًا، لكنها تحت مراقبة شديدة من العثمانيين. أحد التجار قال لي: (كل كلمة هنا محسوبة، لكننا نعلم أن الإنجليز قادمون). كان الشعور العام أن التغيير يقترب، حتى لو لم يُعلن الناس ذلك جهارًا.' 'من جهة القبائل، بدا أن بني صخر يتابعون الموقف عن كثب. شيخ منهم قال: (إذا دخل العرب عمان، فنحن أول من يرحب بهم). هذا الموقف، وإن لم يكن التزامًا كاملًا، إلا أنه إشارة إلى أن القبائل تهيئ نفسها للانضمام إلى الكفة الراجحة.' 'كتبت في دفتري: (شمال الأردن يقف على عتبة تحول تاريخي. السلط وعمان ليستا مجرد مدينتين، بل مفتاح الطريق إلى دمشق. ومن يملكهما يفتح الباب أمام نهاية النفوذ العثماني في الشام).' 41 = الرسالة 41 (1918) – دخول عمان وتغير الموازين 'في أواخر عام 1918، وصلني الخبر الحاسم: دخول قوات الثورة مدعومة بالإنجليز إلى عمان. كان ذلك الحدث بمثابة إعلان نهاية العهد العثماني في الأردن. سمعت من بعض أهل السلط أن الجنود الأتراك انسحبوا مسرعين، تاركين وراءهم العتاد، فيما دخل العرب والإنجليز إلى المدينة دون مقاومة تذكر.' 'أحد وجهاء عمان كتب لي: (لقد تبدل كل شيء في يوم واحد، فالعلم العثماني نُزع، وارتفع علم جديد). كانت عبارته تختصر شعور الناس بالانتقال المفاجئ من ولاء قديم إلى واقع جديد.' 'في الأسواق، كان الناس يتبادلون التهاني، لكنهم يتحدثون أيضًا بحذر عن المستقبل. تاجر من أهل عمان قال لي: (نحن لا نعرف ما إذا كان الإنجليز سيبقون، أم أن العرب سيحكموننا. المهم أننا خرجنا من يد الأتراك). كان كلامه يعكس فرحة ممزوجة بالترقب.' 'أما القبائل المحيطة، وخاصة بني صخر، فقد بدت أكثر اندماجًا في المشهد الجديد. أحد شيوخهم قال: (الآن صار لنا دور في بناء الدولة، لا مجرد حماية الطريق). هذه العبارة كانت إشارة إلى بداية وعي سياسي جديد عند القبائل.' 'كتبت في دفتري: (دخول عمان لم يكن مجرد حدث عسكري، بل كان إعلانًا عن ولادة مرحلة جديدة. الأردن لم يعد أطرافًا للسلطنة، بل صار ساحة مفتوحة لمشاريع عربية وإنجليزية ستحدد مصيره).' 42 = الرسالة 42 (1919) – شرق الأردن بعد الحرب وبدايات التفكير في الكيانات الجديدة 'بعد انتهاء الحرب (العالمية الأولى) واندحار الأتراك، وجدت أن شرق الأردن يعيش حالة من الفراغ السياسي. المدن الكبرى – السلط، عمان، الكرك، ومعان – باتت خارج الحكم العثماني، لكنها لم تدخل بعد في نظام واضح. القبائل بدت وكأنها تعود إلى استقلالها القديم، لكن بانتظار سلطة جديدة ترسم الحدود.' 'في السلط، أخبرني بعض الأعيان أنهم عقدوا مجالس للتشاور حول إدارة شؤونهم. أحدهم قال لي: (نحن نعرف كيف نحكم أنفسنا، لكننا نحتاج إلى مظلة عربية تجمعنا). كان واضحًا أنهم يخشون الفوضى أكثر من أي شيء آخر.' 'أما في الكرك، فقد لاحظت روحًا من الاعتزاز بالاستقلال، لكنها مشوبة بالقلق من عودة الأتراك أو قدوم سلطة أجنبية أخرى. شيخ كبير قال: (لن نقبل إلا بحكم عربي). لكن خلف هذه الكلمات، شعرت بقلق حقيقي من التدخلات الأجنبية.' 'في البادية، وخاصة عند بني صخر والحويطات، كان الكلام يدور حول المكاسب والخسائر. أحد شيوخ بني صخر قال: (الأتراك رحلوا، لكن من سيأتي مكانهم؟). كانت هذه الجملة تعبيرًا عن لحظة تاريخية فاصلة، حيث لا أحد يعرف من سيملأ الفراغ.' 'كتبت في دفتري: (شرق الأردن في عام 1919 يقف على مفترق طرق. إنه فضاء مفتوح بلا سلطة حقيقية، تتنازعه الطموحات العربية والمشاريع البريطانية. هنا تبدأ قصة جديدة قد تغيّر وجه المنطقة).' 43 = الرسالة 43 (1920) – مؤتمر دمشق وتداعياته على شرق الأردن 'في ربيع هذا العام، حضرت في دمشق أصداء المؤتمر الذي أعلن فيه فيصل نفسه ملكًا على سوريا الكبرى. كان بين الحضور وفود من شرق الأردن، من السلط والكرك ومعان. قال لي أحد المشاركين من السلط: (نحن نرى في فيصل رمزًا لوحدة العرب، لكننا نخشى من أن تكون هذه الوحدة قصيرة العمر). كانت كلماته تعكس الحماس والريبة في آن واحد.' 'في الكرك، أخبرني بعض الشيوخ أن الناس احتفلوا بخبر إعلان المملكة السورية، لكنهم تساءلوا: (هل ستصل سلطة فيصل إلينا حقًا؟). بدا لي أنهم يرحبون بالفكرة، لكنهم يشكون في القدرة على التطبيق.' 'أما في البلقاء، فقد بدت المواقف أكثر عملية. أحد رجال بني صخر قال: (إذا كان فيصل قويًا، فنحن معه. أما إذا انهزم أمام الفرنسيين، فلن نضيع أنفسنا). كانت تلك الجملة تلخص حسابات القوة التي تحكم موقف القبائل.' 'في عمان، لاحظت أن الأهالي يتابعون الأخبار بشغف، لكنهم يتحدثون عن الإنجليز أكثر مما يتحدثون عن فيصل. تاجر من أهلها قال: (من يملك القوة على الأرض هم الإنجليز، ولسنا متأكدين أن فيصل يستطيع أن يغير ذلك).' 'كتبت في دفتري: (مؤتمر دمشق أعطى للأردن أملًا جديدًا، لكنه كشف أيضًا عن حدود النفوذ الفيصلي. المنطقة تقف بين مشروع عربي ناشئ وقوة بريطانية راسخة، والقبائل تراقب لترى أيهما ينتصر). انتهت (ح19) وتليها (ح20) بعون الله تعالى وهي مواصلة نشر رسائل أخطر جاسوسة انجليزية
التعليقات
(ح19) مذكرات أخطر جاسوسة انجليزية (من 1907 – 1926)
التعليقات