سنقدم في هذا المقال ما أمكن تحليل سياسي دقيق حول الدوافع الاستراتيجية والرسائل الجيوسياسية ومآلات الصراع المحتملة سيما وإن عودة الحديث عن هذه القاعدة الحيوية ليس حدثاً عابراً بل إشارة إلى محاولة ترامب إعادة رسم موازين القوى في قلب منطقة آسيا ذات الاهمية البالغة. بعد مرور أربع سنوات من الانسحاب الأميركي والفوضوي من أفغانستان في صيف عام 2021 الذي وُصف حينها بأنه أحد أسوأ حالات الهزيمة والتقهقر في التاريخ العسكري الأميركي تعود قاعدة باغرام الجوية لتتصدر عناوين السياسة الخارجية الأميركية مجدداً لكن هذه المرة ليس في سياق دفاعي أو إنساني بل ضمن خطاب ناري أطلقه الرئيس الأميركي المتهور دونالد ترامب معلناً بشكل صريح أن إدارته تعمل على استعادة قاعدة باغرام التي قال إنها سُلّمت مجاناً لطالبان فيما بدا أنه تصعيد سياسي ورسالة قوية باتجاه عدة أطراف دولية وإقليمية.
تصريحات ترامب لم تأت من فراغ فالرجل الذي بنى حملاته الانتخابية ومشروعه السياسي على مفاهيم الهيبة والهيمنة والسيطرة واستعادة المجد الأميركي لا يرى في الانسحاب من باغرام إلا خطأ تكتيكياً ارتكبه خصومه الديمقراطيون بل وصمة عار يجب تصحيحها وتصويب مسارها ولو بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء في المقابل فإن قاعدة باغرام ليست مجرد منشأة عسكرية خرجت منها القوات الأميركية بل هي رمز تاريخي يختزن الكثير من أرشيف تدخلات واشنطن في آسيا الوسطى وتحديداً في بلد وصفه العديد من الساسة الأميركيين يوماً بأنه مقبرة الإمبراطوريات العالمية. قاعدة باغرام العسكرية التي تبعد خمسين كيلومتراً فقط عن كابل لا تزال تحتفظ ببنية تحتية هائلة تشمل مدرجات إسمنتية للطائرات ومنشآت عسكرية ومستشفى وسجناً محصناً ظلّت لعقود طويلة رمزاً لانتهاكات حقوق الإنسان في الحروب الأميركية المتتالية إلى جانب بعض المعالم الرمزية التي تجسدت في مطاعم الوجبات السريعة الأميركية التي استوطنت المكان في محاكاة ساخرة لحياة طبيعية في قلب حرب دموية لكنها اليوم تحولت إلى نقطة توتر جديدة بين واشنطن وطالبان وورقة متفجرة في اللعبة الجيوسياسية التي تلعبها القوى الكبرى في المنطقة.
خلال مؤتمر صحفي عقد في 19 / 9 / 2025 مع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر أطلق ترامب أول تصريحاته العلنية عن باغرام قبل أن يصعّد لهجته سريعاً على منصته تروث سوشيال مهدداً بأنه في حال رفض طالبان إعادة القاعدة سيحدث أمر سيئ ما عده مراقبون ليس فقط تهديداً لكابول بل رسالة مبطنة أيضاً للصين التي أصبحت اللاعب الأكثر نفوذاً في جوار أفغانستان.
جمهورية الصين الشعبية من وجهة نظر إدارة ترامب تعتبر المستفيد الأول من انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان ليس فقط بسبب الفراغ الأمني الذي سمح لها بالتوغل اقتصادياً وسياسياً بل أيضاً بسبب قربها الجغرافي من قاعدة باغرام ومن مناطق إنتاج السلاح النووي الصيني حيث لا تبعد سوى نحو ثمانمئة كيلومتر وبهذا المعنى فإن استعادة باغرام لم تعد مسألة متعلقة بأفغانستان فحسب بل بميزان الردع الاستراتيجي بين واشنطن وبكين وهو ما أكده ترامب حين وصف القاعدة بأنها على بُعد ساعة فقط من أهم منشآت الصين النووية.
لكن السؤال المهم لماذا الآن ولماذا يفتح ترامب هذا الملف في توقيت حساس جداً يشهد اضطرابات إقليمية في أوكرانيا والشرق الأوسط وتصاعداً في الخطاب القومي داخل الصين يبدو أن ترامب يحاول من خلال هذه المطالبة إحياء رمزية القيادة الأميركية التي تراجعت قوتها وهيبتها ومكانتها بعد الانسحاب الفوضوي من أفغانستان وأيضاً لتأكيد عودة العقيدة الترامبية التي ترى في الهيمنة العسكرية وسيلة لفرض النفوذ السياسي ومن جهة أخرى قد تكون هذه الورقة أداة تفاوضية بحتة خاصة أن إدارة ترامب معروفة باستخدامها لسياسة الحافة أي رفع سقف المطالب إلى أقصاه ثم التراجع تدريجياً مقابل مكاسب جزئية لكنها هامة.
إضافة إلى ذلك فإن عودة الحديث عن قاعدة باغرام تحمل بعداً انتخابياً داخلياً واضحاً فترامب يسعى إلى توظيف هذا الملف لإعادة كسب دعم القاعدة الجمهورية والقوميين العسكريين الذين رأوا في انسحاب بايدن من أفغانستان إهانة وطنية وهي محاولة ذكية لتصوير نفسه كرمز لاستعادة المجد الأميركي والرد على خصومه الديمقراطيين من خلال خطاب القوة والهيبة.
في المقابل فإن حركة طالبان التي بنت شرعيتها على فكرة مقاومة الاحتلال الأجنبي لا تبدو في وارد التنازل عن شبر واحد من قاعدة باغرام وقد جاء ردها حازماً من خلال تصريح نائب المتحدث باسمها حمد الله فطرت الذي اعتبر أن مطالب ترامب تنتهك اتفاق الدوحة الموقع عام 2020 والذي نص على احترام وحدة الأراضي الأفغانية وعدم التدخل في شؤونها الداخلية كما أن طالبان تعلم جيداً أن أي خطوة في اتجاه القبول بهذه المطالب ستفجر صراعات داخلية قد تؤدي إلى تفكك الحركة أو انقسامها وهو ما يجعلها متمسكة حرفياً بموقفها الرافض تماماً لإعادة القاعدة للولايات المتحدة. اللافت أن قاعدة باغرام لم تكن في يوم من الأيام مجرد نقطة عسكرية بل مساحة وطنية ارتبطت دائماً بتغير موازين القوى في آسيا الوسطى ففي خمسينيات القرن الماضي شيّدها الاتحاد السوفيتي لتكون بوابة لتدخله في أفغانستان ثم تحولت إلى معقل للسوفيت أثناء الغزو عام 1979 وبعدها خضعت لسيطرة تحالف الشمال ثم حركة طالبان وصولاً إلى القوات الأميركية بعد غزو عام 2001 وكل هذه التحولات جعلت من القاعدة مؤشراً قوياً على صعود وسقوط القوى الكبرى في المنطقة.
أما عن ترسانة الأسلحة التي تركتها واشنطن خلفها والتي تقدر قيمتها بنحو سبعة مليارات دولار فثمة تساؤلات جدية عما إذا كانت قد تُركت عن عمد لدعم القوات الأفغانية التي سيطرت على البلاد أم أنها كانت ثمناً باهظاً لهروب سريع لم يكن مخططاً له بهذا الشكل خصوصاً وأن البعض كان يرى أن واشنطن كانت تأمل بأن تصمد الحكومة الأفغانية التي تدعمها لأشهر أو حتى سنوات بعد انسحابها وهو ما لم يحدث ما جعل هذه الأسلحة تقع عملياً غنيمة سهلة في يد طالبان دون مواجهة مباشرة لكنها مع ذلك أصبحت جزءاً من معادلة التفاوض الجديدة بين الجانبين.
وبالعودة إلى الصين نلاحظ أنها تتوخى الحذر الشديد في تعاملها مع الملف الأفغاني لأن عودة الأميركيين إلى قلب آسيا الوسطى تعني تهديداً مباشراً لمبادرة الحزام والطريق ولتوازناتها في بحر الصين الجنوبي وآسيا عموماً ولذلك جاء رد الخارجية الصينية ليؤكد بأن شعب أفغانستان وحده من يقرر مستقبله ويتخذ قراراته في رسالة واضحة بأن بكين لن تقف متفرجة على أي إعادة انتشار أميركي مؤثر في خاصرتها الغربية وفي هذا السياق فإن روسيا وإيران أيضاً تنظران بقلق بالغ إلى أي محاولة لإحياء الوجود الأميركي في أفغانستان باعتبارها خطوة تعيد تموضع واشنطن في تخومهما الجنوبية مما قد يخلق جبهة ضغط جديدة على مصالحهما في آسيا الوسطى والخليج.
في ضوء ما سبق يمكن القول إن ملف باغرام ليس سوى مؤشر مبكر لتحول استراتيجي أوسع في بنية الصراع الدولي فالتحليل العميق للمشهد يظهر بوضوح أن هذه القاعدة قد لا تكون إلا رأس جبل الجليد في بداية تحولات أوسع قادمة سيما وأن الصراع الأميركي الصيني يدخل اليوم مرحلة المواجهة غير المباشرة عبر أدوات ناعمة وقواعد استراتيجية ومحاور جغرافية بديلة وأفغانستان بما تحمله من موقع وميراث وحجم فراغ كبير تبدو أحد أبرز مسارح هذه المواجهة المقبلة وهي إشارة إلى أن واشنطن بدأت تعود تدريجياً إلى استخدام القواعد العسكرية كأداة نفوذ مباشر بعد أن اعتمدت لسنوات على الحروب بالوكالة والعقوبات الاقتصادية في إدارة صراعاتها الخارجية.
في النهاية يمكن القول إن ترامب لا يطالب بقاعدة باغرام من أجل عيون كابل بل من أجل إعادة ترتيب أوراق أميركا في عالم يتغير بسرعة أما طالبان التي وجدت نفسها فجأة في قلب صراع الكبار فقد لا تجد مفرّاً في نهاية المطاف من الدخول في مساومات قاسية عنوانها البارز باغرام ومضمونها المخفي إعادة تشكيل النفوذ في آسيا الوسطى بين واشنطن وبكين وموسكو على حساب دولة أنهكتها الحروب ولا تزال تبحث عن سيادتها المفقودة واستقرارها المأمول.
سنقدم في هذا المقال ما أمكن تحليل سياسي دقيق حول الدوافع الاستراتيجية والرسائل الجيوسياسية ومآلات الصراع المحتملة سيما وإن عودة الحديث عن هذه القاعدة الحيوية ليس حدثاً عابراً بل إشارة إلى محاولة ترامب إعادة رسم موازين القوى في قلب منطقة آسيا ذات الاهمية البالغة. بعد مرور أربع سنوات من الانسحاب الأميركي والفوضوي من أفغانستان في صيف عام 2021 الذي وُصف حينها بأنه أحد أسوأ حالات الهزيمة والتقهقر في التاريخ العسكري الأميركي تعود قاعدة باغرام الجوية لتتصدر عناوين السياسة الخارجية الأميركية مجدداً لكن هذه المرة ليس في سياق دفاعي أو إنساني بل ضمن خطاب ناري أطلقه الرئيس الأميركي المتهور دونالد ترامب معلناً بشكل صريح أن إدارته تعمل على استعادة قاعدة باغرام التي قال إنها سُلّمت مجاناً لطالبان فيما بدا أنه تصعيد سياسي ورسالة قوية باتجاه عدة أطراف دولية وإقليمية.
تصريحات ترامب لم تأت من فراغ فالرجل الذي بنى حملاته الانتخابية ومشروعه السياسي على مفاهيم الهيبة والهيمنة والسيطرة واستعادة المجد الأميركي لا يرى في الانسحاب من باغرام إلا خطأ تكتيكياً ارتكبه خصومه الديمقراطيون بل وصمة عار يجب تصحيحها وتصويب مسارها ولو بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء في المقابل فإن قاعدة باغرام ليست مجرد منشأة عسكرية خرجت منها القوات الأميركية بل هي رمز تاريخي يختزن الكثير من أرشيف تدخلات واشنطن في آسيا الوسطى وتحديداً في بلد وصفه العديد من الساسة الأميركيين يوماً بأنه مقبرة الإمبراطوريات العالمية. قاعدة باغرام العسكرية التي تبعد خمسين كيلومتراً فقط عن كابل لا تزال تحتفظ ببنية تحتية هائلة تشمل مدرجات إسمنتية للطائرات ومنشآت عسكرية ومستشفى وسجناً محصناً ظلّت لعقود طويلة رمزاً لانتهاكات حقوق الإنسان في الحروب الأميركية المتتالية إلى جانب بعض المعالم الرمزية التي تجسدت في مطاعم الوجبات السريعة الأميركية التي استوطنت المكان في محاكاة ساخرة لحياة طبيعية في قلب حرب دموية لكنها اليوم تحولت إلى نقطة توتر جديدة بين واشنطن وطالبان وورقة متفجرة في اللعبة الجيوسياسية التي تلعبها القوى الكبرى في المنطقة.
خلال مؤتمر صحفي عقد في 19 / 9 / 2025 مع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر أطلق ترامب أول تصريحاته العلنية عن باغرام قبل أن يصعّد لهجته سريعاً على منصته تروث سوشيال مهدداً بأنه في حال رفض طالبان إعادة القاعدة سيحدث أمر سيئ ما عده مراقبون ليس فقط تهديداً لكابول بل رسالة مبطنة أيضاً للصين التي أصبحت اللاعب الأكثر نفوذاً في جوار أفغانستان.
جمهورية الصين الشعبية من وجهة نظر إدارة ترامب تعتبر المستفيد الأول من انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان ليس فقط بسبب الفراغ الأمني الذي سمح لها بالتوغل اقتصادياً وسياسياً بل أيضاً بسبب قربها الجغرافي من قاعدة باغرام ومن مناطق إنتاج السلاح النووي الصيني حيث لا تبعد سوى نحو ثمانمئة كيلومتر وبهذا المعنى فإن استعادة باغرام لم تعد مسألة متعلقة بأفغانستان فحسب بل بميزان الردع الاستراتيجي بين واشنطن وبكين وهو ما أكده ترامب حين وصف القاعدة بأنها على بُعد ساعة فقط من أهم منشآت الصين النووية.
لكن السؤال المهم لماذا الآن ولماذا يفتح ترامب هذا الملف في توقيت حساس جداً يشهد اضطرابات إقليمية في أوكرانيا والشرق الأوسط وتصاعداً في الخطاب القومي داخل الصين يبدو أن ترامب يحاول من خلال هذه المطالبة إحياء رمزية القيادة الأميركية التي تراجعت قوتها وهيبتها ومكانتها بعد الانسحاب الفوضوي من أفغانستان وأيضاً لتأكيد عودة العقيدة الترامبية التي ترى في الهيمنة العسكرية وسيلة لفرض النفوذ السياسي ومن جهة أخرى قد تكون هذه الورقة أداة تفاوضية بحتة خاصة أن إدارة ترامب معروفة باستخدامها لسياسة الحافة أي رفع سقف المطالب إلى أقصاه ثم التراجع تدريجياً مقابل مكاسب جزئية لكنها هامة.
إضافة إلى ذلك فإن عودة الحديث عن قاعدة باغرام تحمل بعداً انتخابياً داخلياً واضحاً فترامب يسعى إلى توظيف هذا الملف لإعادة كسب دعم القاعدة الجمهورية والقوميين العسكريين الذين رأوا في انسحاب بايدن من أفغانستان إهانة وطنية وهي محاولة ذكية لتصوير نفسه كرمز لاستعادة المجد الأميركي والرد على خصومه الديمقراطيين من خلال خطاب القوة والهيبة.
في المقابل فإن حركة طالبان التي بنت شرعيتها على فكرة مقاومة الاحتلال الأجنبي لا تبدو في وارد التنازل عن شبر واحد من قاعدة باغرام وقد جاء ردها حازماً من خلال تصريح نائب المتحدث باسمها حمد الله فطرت الذي اعتبر أن مطالب ترامب تنتهك اتفاق الدوحة الموقع عام 2020 والذي نص على احترام وحدة الأراضي الأفغانية وعدم التدخل في شؤونها الداخلية كما أن طالبان تعلم جيداً أن أي خطوة في اتجاه القبول بهذه المطالب ستفجر صراعات داخلية قد تؤدي إلى تفكك الحركة أو انقسامها وهو ما يجعلها متمسكة حرفياً بموقفها الرافض تماماً لإعادة القاعدة للولايات المتحدة. اللافت أن قاعدة باغرام لم تكن في يوم من الأيام مجرد نقطة عسكرية بل مساحة وطنية ارتبطت دائماً بتغير موازين القوى في آسيا الوسطى ففي خمسينيات القرن الماضي شيّدها الاتحاد السوفيتي لتكون بوابة لتدخله في أفغانستان ثم تحولت إلى معقل للسوفيت أثناء الغزو عام 1979 وبعدها خضعت لسيطرة تحالف الشمال ثم حركة طالبان وصولاً إلى القوات الأميركية بعد غزو عام 2001 وكل هذه التحولات جعلت من القاعدة مؤشراً قوياً على صعود وسقوط القوى الكبرى في المنطقة.
أما عن ترسانة الأسلحة التي تركتها واشنطن خلفها والتي تقدر قيمتها بنحو سبعة مليارات دولار فثمة تساؤلات جدية عما إذا كانت قد تُركت عن عمد لدعم القوات الأفغانية التي سيطرت على البلاد أم أنها كانت ثمناً باهظاً لهروب سريع لم يكن مخططاً له بهذا الشكل خصوصاً وأن البعض كان يرى أن واشنطن كانت تأمل بأن تصمد الحكومة الأفغانية التي تدعمها لأشهر أو حتى سنوات بعد انسحابها وهو ما لم يحدث ما جعل هذه الأسلحة تقع عملياً غنيمة سهلة في يد طالبان دون مواجهة مباشرة لكنها مع ذلك أصبحت جزءاً من معادلة التفاوض الجديدة بين الجانبين.
وبالعودة إلى الصين نلاحظ أنها تتوخى الحذر الشديد في تعاملها مع الملف الأفغاني لأن عودة الأميركيين إلى قلب آسيا الوسطى تعني تهديداً مباشراً لمبادرة الحزام والطريق ولتوازناتها في بحر الصين الجنوبي وآسيا عموماً ولذلك جاء رد الخارجية الصينية ليؤكد بأن شعب أفغانستان وحده من يقرر مستقبله ويتخذ قراراته في رسالة واضحة بأن بكين لن تقف متفرجة على أي إعادة انتشار أميركي مؤثر في خاصرتها الغربية وفي هذا السياق فإن روسيا وإيران أيضاً تنظران بقلق بالغ إلى أي محاولة لإحياء الوجود الأميركي في أفغانستان باعتبارها خطوة تعيد تموضع واشنطن في تخومهما الجنوبية مما قد يخلق جبهة ضغط جديدة على مصالحهما في آسيا الوسطى والخليج.
في ضوء ما سبق يمكن القول إن ملف باغرام ليس سوى مؤشر مبكر لتحول استراتيجي أوسع في بنية الصراع الدولي فالتحليل العميق للمشهد يظهر بوضوح أن هذه القاعدة قد لا تكون إلا رأس جبل الجليد في بداية تحولات أوسع قادمة سيما وأن الصراع الأميركي الصيني يدخل اليوم مرحلة المواجهة غير المباشرة عبر أدوات ناعمة وقواعد استراتيجية ومحاور جغرافية بديلة وأفغانستان بما تحمله من موقع وميراث وحجم فراغ كبير تبدو أحد أبرز مسارح هذه المواجهة المقبلة وهي إشارة إلى أن واشنطن بدأت تعود تدريجياً إلى استخدام القواعد العسكرية كأداة نفوذ مباشر بعد أن اعتمدت لسنوات على الحروب بالوكالة والعقوبات الاقتصادية في إدارة صراعاتها الخارجية.
في النهاية يمكن القول إن ترامب لا يطالب بقاعدة باغرام من أجل عيون كابل بل من أجل إعادة ترتيب أوراق أميركا في عالم يتغير بسرعة أما طالبان التي وجدت نفسها فجأة في قلب صراع الكبار فقد لا تجد مفرّاً في نهاية المطاف من الدخول في مساومات قاسية عنوانها البارز باغرام ومضمونها المخفي إعادة تشكيل النفوذ في آسيا الوسطى بين واشنطن وبكين وموسكو على حساب دولة أنهكتها الحروب ولا تزال تبحث عن سيادتها المفقودة واستقرارها المأمول.
سنقدم في هذا المقال ما أمكن تحليل سياسي دقيق حول الدوافع الاستراتيجية والرسائل الجيوسياسية ومآلات الصراع المحتملة سيما وإن عودة الحديث عن هذه القاعدة الحيوية ليس حدثاً عابراً بل إشارة إلى محاولة ترامب إعادة رسم موازين القوى في قلب منطقة آسيا ذات الاهمية البالغة. بعد مرور أربع سنوات من الانسحاب الأميركي والفوضوي من أفغانستان في صيف عام 2021 الذي وُصف حينها بأنه أحد أسوأ حالات الهزيمة والتقهقر في التاريخ العسكري الأميركي تعود قاعدة باغرام الجوية لتتصدر عناوين السياسة الخارجية الأميركية مجدداً لكن هذه المرة ليس في سياق دفاعي أو إنساني بل ضمن خطاب ناري أطلقه الرئيس الأميركي المتهور دونالد ترامب معلناً بشكل صريح أن إدارته تعمل على استعادة قاعدة باغرام التي قال إنها سُلّمت مجاناً لطالبان فيما بدا أنه تصعيد سياسي ورسالة قوية باتجاه عدة أطراف دولية وإقليمية.
تصريحات ترامب لم تأت من فراغ فالرجل الذي بنى حملاته الانتخابية ومشروعه السياسي على مفاهيم الهيبة والهيمنة والسيطرة واستعادة المجد الأميركي لا يرى في الانسحاب من باغرام إلا خطأ تكتيكياً ارتكبه خصومه الديمقراطيون بل وصمة عار يجب تصحيحها وتصويب مسارها ولو بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء في المقابل فإن قاعدة باغرام ليست مجرد منشأة عسكرية خرجت منها القوات الأميركية بل هي رمز تاريخي يختزن الكثير من أرشيف تدخلات واشنطن في آسيا الوسطى وتحديداً في بلد وصفه العديد من الساسة الأميركيين يوماً بأنه مقبرة الإمبراطوريات العالمية. قاعدة باغرام العسكرية التي تبعد خمسين كيلومتراً فقط عن كابل لا تزال تحتفظ ببنية تحتية هائلة تشمل مدرجات إسمنتية للطائرات ومنشآت عسكرية ومستشفى وسجناً محصناً ظلّت لعقود طويلة رمزاً لانتهاكات حقوق الإنسان في الحروب الأميركية المتتالية إلى جانب بعض المعالم الرمزية التي تجسدت في مطاعم الوجبات السريعة الأميركية التي استوطنت المكان في محاكاة ساخرة لحياة طبيعية في قلب حرب دموية لكنها اليوم تحولت إلى نقطة توتر جديدة بين واشنطن وطالبان وورقة متفجرة في اللعبة الجيوسياسية التي تلعبها القوى الكبرى في المنطقة.
خلال مؤتمر صحفي عقد في 19 / 9 / 2025 مع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر أطلق ترامب أول تصريحاته العلنية عن باغرام قبل أن يصعّد لهجته سريعاً على منصته تروث سوشيال مهدداً بأنه في حال رفض طالبان إعادة القاعدة سيحدث أمر سيئ ما عده مراقبون ليس فقط تهديداً لكابول بل رسالة مبطنة أيضاً للصين التي أصبحت اللاعب الأكثر نفوذاً في جوار أفغانستان.
جمهورية الصين الشعبية من وجهة نظر إدارة ترامب تعتبر المستفيد الأول من انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان ليس فقط بسبب الفراغ الأمني الذي سمح لها بالتوغل اقتصادياً وسياسياً بل أيضاً بسبب قربها الجغرافي من قاعدة باغرام ومن مناطق إنتاج السلاح النووي الصيني حيث لا تبعد سوى نحو ثمانمئة كيلومتر وبهذا المعنى فإن استعادة باغرام لم تعد مسألة متعلقة بأفغانستان فحسب بل بميزان الردع الاستراتيجي بين واشنطن وبكين وهو ما أكده ترامب حين وصف القاعدة بأنها على بُعد ساعة فقط من أهم منشآت الصين النووية.
لكن السؤال المهم لماذا الآن ولماذا يفتح ترامب هذا الملف في توقيت حساس جداً يشهد اضطرابات إقليمية في أوكرانيا والشرق الأوسط وتصاعداً في الخطاب القومي داخل الصين يبدو أن ترامب يحاول من خلال هذه المطالبة إحياء رمزية القيادة الأميركية التي تراجعت قوتها وهيبتها ومكانتها بعد الانسحاب الفوضوي من أفغانستان وأيضاً لتأكيد عودة العقيدة الترامبية التي ترى في الهيمنة العسكرية وسيلة لفرض النفوذ السياسي ومن جهة أخرى قد تكون هذه الورقة أداة تفاوضية بحتة خاصة أن إدارة ترامب معروفة باستخدامها لسياسة الحافة أي رفع سقف المطالب إلى أقصاه ثم التراجع تدريجياً مقابل مكاسب جزئية لكنها هامة.
إضافة إلى ذلك فإن عودة الحديث عن قاعدة باغرام تحمل بعداً انتخابياً داخلياً واضحاً فترامب يسعى إلى توظيف هذا الملف لإعادة كسب دعم القاعدة الجمهورية والقوميين العسكريين الذين رأوا في انسحاب بايدن من أفغانستان إهانة وطنية وهي محاولة ذكية لتصوير نفسه كرمز لاستعادة المجد الأميركي والرد على خصومه الديمقراطيين من خلال خطاب القوة والهيبة.
في المقابل فإن حركة طالبان التي بنت شرعيتها على فكرة مقاومة الاحتلال الأجنبي لا تبدو في وارد التنازل عن شبر واحد من قاعدة باغرام وقد جاء ردها حازماً من خلال تصريح نائب المتحدث باسمها حمد الله فطرت الذي اعتبر أن مطالب ترامب تنتهك اتفاق الدوحة الموقع عام 2020 والذي نص على احترام وحدة الأراضي الأفغانية وعدم التدخل في شؤونها الداخلية كما أن طالبان تعلم جيداً أن أي خطوة في اتجاه القبول بهذه المطالب ستفجر صراعات داخلية قد تؤدي إلى تفكك الحركة أو انقسامها وهو ما يجعلها متمسكة حرفياً بموقفها الرافض تماماً لإعادة القاعدة للولايات المتحدة. اللافت أن قاعدة باغرام لم تكن في يوم من الأيام مجرد نقطة عسكرية بل مساحة وطنية ارتبطت دائماً بتغير موازين القوى في آسيا الوسطى ففي خمسينيات القرن الماضي شيّدها الاتحاد السوفيتي لتكون بوابة لتدخله في أفغانستان ثم تحولت إلى معقل للسوفيت أثناء الغزو عام 1979 وبعدها خضعت لسيطرة تحالف الشمال ثم حركة طالبان وصولاً إلى القوات الأميركية بعد غزو عام 2001 وكل هذه التحولات جعلت من القاعدة مؤشراً قوياً على صعود وسقوط القوى الكبرى في المنطقة.
أما عن ترسانة الأسلحة التي تركتها واشنطن خلفها والتي تقدر قيمتها بنحو سبعة مليارات دولار فثمة تساؤلات جدية عما إذا كانت قد تُركت عن عمد لدعم القوات الأفغانية التي سيطرت على البلاد أم أنها كانت ثمناً باهظاً لهروب سريع لم يكن مخططاً له بهذا الشكل خصوصاً وأن البعض كان يرى أن واشنطن كانت تأمل بأن تصمد الحكومة الأفغانية التي تدعمها لأشهر أو حتى سنوات بعد انسحابها وهو ما لم يحدث ما جعل هذه الأسلحة تقع عملياً غنيمة سهلة في يد طالبان دون مواجهة مباشرة لكنها مع ذلك أصبحت جزءاً من معادلة التفاوض الجديدة بين الجانبين.
وبالعودة إلى الصين نلاحظ أنها تتوخى الحذر الشديد في تعاملها مع الملف الأفغاني لأن عودة الأميركيين إلى قلب آسيا الوسطى تعني تهديداً مباشراً لمبادرة الحزام والطريق ولتوازناتها في بحر الصين الجنوبي وآسيا عموماً ولذلك جاء رد الخارجية الصينية ليؤكد بأن شعب أفغانستان وحده من يقرر مستقبله ويتخذ قراراته في رسالة واضحة بأن بكين لن تقف متفرجة على أي إعادة انتشار أميركي مؤثر في خاصرتها الغربية وفي هذا السياق فإن روسيا وإيران أيضاً تنظران بقلق بالغ إلى أي محاولة لإحياء الوجود الأميركي في أفغانستان باعتبارها خطوة تعيد تموضع واشنطن في تخومهما الجنوبية مما قد يخلق جبهة ضغط جديدة على مصالحهما في آسيا الوسطى والخليج.
في ضوء ما سبق يمكن القول إن ملف باغرام ليس سوى مؤشر مبكر لتحول استراتيجي أوسع في بنية الصراع الدولي فالتحليل العميق للمشهد يظهر بوضوح أن هذه القاعدة قد لا تكون إلا رأس جبل الجليد في بداية تحولات أوسع قادمة سيما وأن الصراع الأميركي الصيني يدخل اليوم مرحلة المواجهة غير المباشرة عبر أدوات ناعمة وقواعد استراتيجية ومحاور جغرافية بديلة وأفغانستان بما تحمله من موقع وميراث وحجم فراغ كبير تبدو أحد أبرز مسارح هذه المواجهة المقبلة وهي إشارة إلى أن واشنطن بدأت تعود تدريجياً إلى استخدام القواعد العسكرية كأداة نفوذ مباشر بعد أن اعتمدت لسنوات على الحروب بالوكالة والعقوبات الاقتصادية في إدارة صراعاتها الخارجية.
في النهاية يمكن القول إن ترامب لا يطالب بقاعدة باغرام من أجل عيون كابل بل من أجل إعادة ترتيب أوراق أميركا في عالم يتغير بسرعة أما طالبان التي وجدت نفسها فجأة في قلب صراع الكبار فقد لا تجد مفرّاً في نهاية المطاف من الدخول في مساومات قاسية عنوانها البارز باغرام ومضمونها المخفي إعادة تشكيل النفوذ في آسيا الوسطى بين واشنطن وبكين وموسكو على حساب دولة أنهكتها الحروب ولا تزال تبحث عن سيادتها المفقودة واستقرارها المأمول.
التعليقات