مهدي مبارك عبد الله
غزة من جديد على مائدة الوصاية الدولية ولكن هذه المرة بغطاء إنساني وتفويض ناعم يقوده السياسي البريطاني توني بلير في مشهد يعيد إلى الأذهان صورة المندوب السامي البريطاني الذي حكم فلسطين بسلطة استعمارية مطلقة قبل نكبة عام 1948 ليؤكد ان ما يجري اليوم ليس إعادة تدوير لشخصيات دولية بل محاولة مريبة لإعادة إنتاج عقلية الانتداب والهيمنة تحت مسميات خادعة حيث يعود بلير إلى المشهد لا كمبعوث محايد بل كجزء من هندسة سياسية تستهدف السيطرة على غزة دون احتلال مباشر بل عبر ما يُسمى بالسلطة الدولية الانتقالية وما بين التاريخ والحاضر تتكرّر أدوات النفوذ وتتبدل الوجوه لكن جوهر المشروع يظل واحدًا إقصاء الفلسطينيين عن قرارهم الوطني واستبدال التحرير بالوصاية والدولة بالمساعدات، والاحتلال بالتفويض الدولي
الجزء الأكثر خطورة في المشروع يتمثل في مقترح إنشاء “هيئة انتقالية دولية” باسم مجلس السلام” ويرأسه ترامب نفسه ويضم شخصيات غربية مثل توني بلير وآخرين لتكون هي الجهة المشرفة على إدارة غزة وتمويلها وإعادة إعمارها وهو أشبه بالوصاية أو الانتداب حيث يتحكم الخارج في كل التفاصيل من الأمن إلى الاقتصاد وتجريد الفلسطينيين من أي سيادة على أرضهم
ربما لم يكن مرور أكثر من قرن (1920 – 1948) على انتداب بريطانيا لفلسطين كان كافيًا لطيّ صفحة الاستعمار إذ تعود اليوم غزة إلى واجهة مشروع وصاية دولية تقوده واشنطن سياسيًا باسم القانون الدولي ويمثله هذه المرة توني بلير في محاولة لإعادة إنتاج الهيمنة على الأرض الفلسطينية ورغم أن بلير لا يحمل تفويضًا رسميًا من لندن إلا أن رمزية الدور الذي يُطرح له تُشبه من حيث الجوهر دور المندوب السامي الذي منحته عصبة الأمم سلطة شبه استعمارية على أراضي الدولة العثمانية السابقة وجعلت من غزة جزءًا من انتداب فلسطين الذي مهّد لتقسيم الأرض وولادة المشروع الصهيوني
اليوم وبعد حرب دامية على غزة تسوق الإدارة الأمريكية مشروعًا لإدارة القطاع عبر كيان هجين يحمل اسم 'السلطة الدولية الانتقالية (GITA) ' يُقترح أن يترأسه بلير في خطة لا تخفي طابعها الاستعماري رغم تغليفها بشعارات إعادة الإعمار ووقف الحرب وتحسين الأوضاع الإنسانية وهذه الخطة التي كشفت تفاصيلها مصادر إسرائيلية تتجاوز التصورات الأمريكية السابقة لما يسمى بـ 'اليوم التالي' في غزة إذ لا تهدف فقط إلى إدارة مؤقتة بل إلى وصاية طويلة الأمد قد تمتد إلى خمس سنوات تُسند فيها الصلاحيات السياسية والقانونية العليا إلى شخصية غير فلسطينية وخارج أي شرعية تمثيلية وطنية أو عربية في تجاوز صارخ لمبدأ تقرير المصير الذي يُعد ركيزة أساسية في القانون الدولي
تنطلق الخطة من مدينة العريش المصرية حيث يُفترض أن تُقام مقرات مؤقتة للسلطة الجديدة قبل أن تنتقل تدريجيًا إلى القطاع برفقة قوة متعددة الجنسيات ذات طابع عربي شكلي وتفويض أممي واسع وهذه الإدارة المقترحة ستُمنح سلطات شاملة تشمل الإعمار والتشريعات والأمن والتنسيق مع السلطة الفلسطينية في مزيج يقترب من نموذج الانتداب العسكري والإدارة المدنية تمامًا كما كانت الحال تحت حكم المندوب السامي البريطاني قبل النكبة
المشهد بكل تفاصيله يعيد إنتاج التاريخ لا كمأساة فقط بل كمهزلة أيضًا حيث توني بلير يُقدَّم اليوم كبديل عصري للمندوب السامي الأخير السير' آلان كننغهام ' الذي غادر فلسطين عام 1948 مع نهاية الانتداب البريطاني لكن الفارق أن بلير لا يعود على متن بارجة حربية إلى ميناء حيفا بل يدخل من بوابة دولية ذات طابع إنساني زائف وشرعية مفروضة وبينما كان كننغهام يمثل الاستعمار المباشر يأتي بلير الآن مندوبًا ساميًا من نوع مختلف يخلط فيه بين أدوات السيطرة السياسية ووسائل التغلغل الاقتصادي في مشروع أمريكي – إسرائيلي قد يُبقي غزة تحت الهيمنة الأجنبية لسنوات طويلة
إذا كانت بريطانيا في حقبة الانتداب الأول قد فرضت سيطرتها من خلال وعد بلفور المشؤوم فإن مشروع الوصاية الجديد يُعيد إنتاج نفس الذهنية الاستعمارية ولكن دون وعد بل بفرض الأمر الواقع فالانتداب القديم انطلق من مقولة ' أرض بلا شعب لشعب بلا أرض ' أما المشروع الحالي فيقوم على صيغة أكثر خطورة ' شعب بلا دولة تحت إدارة بلا سيادة ' إنه انتداب بلا اعتراف ووعد بلا أفق ووضع انتقالي بلا نهاية تُغلف فيه الهيمنة تحت شعارات الإعمار وتُدفن فيه قضية التحرر تحت ركام الحلول الأمنية والإنسانية المعلّبة
بلير المعروف بعلاقاته الوثيقة مع دوائر القرار الغربية والعواصم الخليجية لا يحمل لدى الفلسطينيين سوى الذكريات المُرّة فقد شغل منصب مبعوث اللجنة الرباعية لسنوات طويلة دون أن يقدّم شيئًا ملموسًا للقضية بل يُنظر إليه كشريك في تمرير سياسات الاحتلال وعرقلة أي مسار سياسي حقيقي نحو الدولة وان إعادة طرحه اليوم كوجه لإدارة غزة لا يعكس فقط انعدام الثقة بقدرة الفلسطينيين على إدارة شؤونهم بل يمثل تكريسًا لفكرة الوصاية السياسية وتحويل غزة إلى حقل تجربة دولي في إدارة ما بعد الحروب
التمثيل الفلسطيني ضمن الخطة لا يتجاوز شخصًا واحدًا ربما رجل أعمال أو مسؤولًا أمنيًا سابقًا في مؤشر صارخ على تهميش القرار الوطني الفلسطيني وخلق طبقة وظيفية تعمل كديكور لإضفاء الشرعية الشكلية على المشروع والأخطر من ذلك هو ارتباط الخطة بمؤسسات مشبوهة مثل ' مؤسسة غزة الإنسانية ' التي رُفضت عربيًا لدورها في تبييض سياسات الاحتلال ما يثير مزيدًا من الريبة والشك حول طبيعة النفوذ الإسرائيلي غير المباشر داخل هذه التركيبة
هذا المشروع لا يتوافق مع إعلان نيويورك الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخرًا والذي نصّ على تشكيل إدارة فلسطينية تكنوقراطية مؤقتة لمدة عام واحد فقط تنتقل بعدها السلطة إلى قيادة منتخبة وفق دستور معدّل الفارق الزمني والهيكلي بين المقترحين يكشف أن واشنطن لا تسعى لحل بل لصناعة واقع سياسي يخدم أمن إسرائيل ويمنع عودة وحدة القرار الفلسطيني من خلال سلطة دولية تُعيد إنتاج الاحتلال بلغة أكثر دبلوماسية وأدوات أكثر نُعومة
رغم أن الموقف العربي المعلن حتى الآن يرفض هذا النموذج ويتمسّك بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية إلا أن الكواليس تكشف عن محاولات تسويق المشروع في لقاءات عُقدت بنيويورك التي جمعت ترامب بقيادات خليجية وتركية وأردنية وإندونيسية وسط محاولات فرنسية لدمج مقترح بلير ضمن إعلان نيويورك في ما يبدو وكأنه عملية ' تدوير ناعم ' للفكرة الاستعمارية ذاتها
الرهان الإسرائيلي على ضعف الذاكرة الفلسطينية سقط منذ زمن بعيد وعودة 'المندوب السامي' في ثوب توني بلير لن تغيّر من جوهر المشروع شيئًا فالمحتوى واحد وإن تبدّل الغلاف المشروع الى وصاية وإن تغيّرت أدواته والمرفوض شعبيًا سيبقى مرفوضًا مهما حاز على دعم العواصم لأن غزة ليست تجربة سياسية عابرة بل هي قلب مشروع وطني أكبر عنوانه التحرر والسيادة لا القبول بإدارة انتقالية أجنبية تُخفي الاحتلال وتُعقّد الحل
حديث ترامب عن منطقة اقتصادية خاصة وفرص استثمارية هو أشبه بمحاولة تسويق أوهام رخاء اقتصادي للتغطية على حقيقة أن غزة ستبقى خاضعة للرقابة والهيمنة وبدل أن تكون التنمية وسيلة للتحرر ستُحوَّل إلى أداة لتطويع الفلسطينيين وقبولهم بالواقع المفروض عليهم وفي المحصلة ترامب لم يطرح حلًا للصراع بقدر ما طرح آلية جديدة لتثبيت الاحتلال بصيغة دولية مع منحه شخصيًا دور الوصي الأعلى على غزة وما يحدث ليس سلامًا بل هو شكل آخر من أشكال الاحتلال حيث تتحول غزة إلى مختبر للتجارب الدولية يديره رئيس أمريكي عبر مندوب سامي جديد اسمه طوني بلير في بداية لمرحلة أشد خطورة اساسها وأد القضية الفلسطينية وتحويلها إلى ملف إداري دولي
ختاما : قد تظن الإدارة الأمريكية أن الفلسطينيين أنهكهم الحصار وأرهقتهم الحروب وسيرضخون لمشاريع ( ترامب بلير كشنر ) كما رضخوا سابقًا لوعود فارغة لكن ما لم تفهمه واشنطن أو تتغافل عنه أن هذا الشعب قدم ما يكفي من الدماء ليُميز متى تكون التضحية طريقًا للتحرر ومتى تكون فخًا لشرعنة استعمار جديد ومهما أُغرق المشروع بالتفويضات والتمويلات والواجهات الدولية سيبقى مرفوضًا على الأرض لأن من لم يفقد إرادته لا يُنتدَب عليه ولأن غزة بكل ما نزفت لن تقبل أن تتحول إلى حقل تجارب لمشاريع استعمارية مغلّفة بالدبلوماسية والإنسانية وشعارات التنمية والاستقرار الكاذبة لإعادة صياغة المشهد الفلسطيني بما يلائم أمن إسرائيل ومصالح أمريكا
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]
مهدي مبارك عبد الله
غزة من جديد على مائدة الوصاية الدولية ولكن هذه المرة بغطاء إنساني وتفويض ناعم يقوده السياسي البريطاني توني بلير في مشهد يعيد إلى الأذهان صورة المندوب السامي البريطاني الذي حكم فلسطين بسلطة استعمارية مطلقة قبل نكبة عام 1948 ليؤكد ان ما يجري اليوم ليس إعادة تدوير لشخصيات دولية بل محاولة مريبة لإعادة إنتاج عقلية الانتداب والهيمنة تحت مسميات خادعة حيث يعود بلير إلى المشهد لا كمبعوث محايد بل كجزء من هندسة سياسية تستهدف السيطرة على غزة دون احتلال مباشر بل عبر ما يُسمى بالسلطة الدولية الانتقالية وما بين التاريخ والحاضر تتكرّر أدوات النفوذ وتتبدل الوجوه لكن جوهر المشروع يظل واحدًا إقصاء الفلسطينيين عن قرارهم الوطني واستبدال التحرير بالوصاية والدولة بالمساعدات، والاحتلال بالتفويض الدولي
الجزء الأكثر خطورة في المشروع يتمثل في مقترح إنشاء “هيئة انتقالية دولية” باسم مجلس السلام” ويرأسه ترامب نفسه ويضم شخصيات غربية مثل توني بلير وآخرين لتكون هي الجهة المشرفة على إدارة غزة وتمويلها وإعادة إعمارها وهو أشبه بالوصاية أو الانتداب حيث يتحكم الخارج في كل التفاصيل من الأمن إلى الاقتصاد وتجريد الفلسطينيين من أي سيادة على أرضهم
ربما لم يكن مرور أكثر من قرن (1920 – 1948) على انتداب بريطانيا لفلسطين كان كافيًا لطيّ صفحة الاستعمار إذ تعود اليوم غزة إلى واجهة مشروع وصاية دولية تقوده واشنطن سياسيًا باسم القانون الدولي ويمثله هذه المرة توني بلير في محاولة لإعادة إنتاج الهيمنة على الأرض الفلسطينية ورغم أن بلير لا يحمل تفويضًا رسميًا من لندن إلا أن رمزية الدور الذي يُطرح له تُشبه من حيث الجوهر دور المندوب السامي الذي منحته عصبة الأمم سلطة شبه استعمارية على أراضي الدولة العثمانية السابقة وجعلت من غزة جزءًا من انتداب فلسطين الذي مهّد لتقسيم الأرض وولادة المشروع الصهيوني
اليوم وبعد حرب دامية على غزة تسوق الإدارة الأمريكية مشروعًا لإدارة القطاع عبر كيان هجين يحمل اسم 'السلطة الدولية الانتقالية (GITA) ' يُقترح أن يترأسه بلير في خطة لا تخفي طابعها الاستعماري رغم تغليفها بشعارات إعادة الإعمار ووقف الحرب وتحسين الأوضاع الإنسانية وهذه الخطة التي كشفت تفاصيلها مصادر إسرائيلية تتجاوز التصورات الأمريكية السابقة لما يسمى بـ 'اليوم التالي' في غزة إذ لا تهدف فقط إلى إدارة مؤقتة بل إلى وصاية طويلة الأمد قد تمتد إلى خمس سنوات تُسند فيها الصلاحيات السياسية والقانونية العليا إلى شخصية غير فلسطينية وخارج أي شرعية تمثيلية وطنية أو عربية في تجاوز صارخ لمبدأ تقرير المصير الذي يُعد ركيزة أساسية في القانون الدولي
تنطلق الخطة من مدينة العريش المصرية حيث يُفترض أن تُقام مقرات مؤقتة للسلطة الجديدة قبل أن تنتقل تدريجيًا إلى القطاع برفقة قوة متعددة الجنسيات ذات طابع عربي شكلي وتفويض أممي واسع وهذه الإدارة المقترحة ستُمنح سلطات شاملة تشمل الإعمار والتشريعات والأمن والتنسيق مع السلطة الفلسطينية في مزيج يقترب من نموذج الانتداب العسكري والإدارة المدنية تمامًا كما كانت الحال تحت حكم المندوب السامي البريطاني قبل النكبة
المشهد بكل تفاصيله يعيد إنتاج التاريخ لا كمأساة فقط بل كمهزلة أيضًا حيث توني بلير يُقدَّم اليوم كبديل عصري للمندوب السامي الأخير السير' آلان كننغهام ' الذي غادر فلسطين عام 1948 مع نهاية الانتداب البريطاني لكن الفارق أن بلير لا يعود على متن بارجة حربية إلى ميناء حيفا بل يدخل من بوابة دولية ذات طابع إنساني زائف وشرعية مفروضة وبينما كان كننغهام يمثل الاستعمار المباشر يأتي بلير الآن مندوبًا ساميًا من نوع مختلف يخلط فيه بين أدوات السيطرة السياسية ووسائل التغلغل الاقتصادي في مشروع أمريكي – إسرائيلي قد يُبقي غزة تحت الهيمنة الأجنبية لسنوات طويلة
إذا كانت بريطانيا في حقبة الانتداب الأول قد فرضت سيطرتها من خلال وعد بلفور المشؤوم فإن مشروع الوصاية الجديد يُعيد إنتاج نفس الذهنية الاستعمارية ولكن دون وعد بل بفرض الأمر الواقع فالانتداب القديم انطلق من مقولة ' أرض بلا شعب لشعب بلا أرض ' أما المشروع الحالي فيقوم على صيغة أكثر خطورة ' شعب بلا دولة تحت إدارة بلا سيادة ' إنه انتداب بلا اعتراف ووعد بلا أفق ووضع انتقالي بلا نهاية تُغلف فيه الهيمنة تحت شعارات الإعمار وتُدفن فيه قضية التحرر تحت ركام الحلول الأمنية والإنسانية المعلّبة
بلير المعروف بعلاقاته الوثيقة مع دوائر القرار الغربية والعواصم الخليجية لا يحمل لدى الفلسطينيين سوى الذكريات المُرّة فقد شغل منصب مبعوث اللجنة الرباعية لسنوات طويلة دون أن يقدّم شيئًا ملموسًا للقضية بل يُنظر إليه كشريك في تمرير سياسات الاحتلال وعرقلة أي مسار سياسي حقيقي نحو الدولة وان إعادة طرحه اليوم كوجه لإدارة غزة لا يعكس فقط انعدام الثقة بقدرة الفلسطينيين على إدارة شؤونهم بل يمثل تكريسًا لفكرة الوصاية السياسية وتحويل غزة إلى حقل تجربة دولي في إدارة ما بعد الحروب
التمثيل الفلسطيني ضمن الخطة لا يتجاوز شخصًا واحدًا ربما رجل أعمال أو مسؤولًا أمنيًا سابقًا في مؤشر صارخ على تهميش القرار الوطني الفلسطيني وخلق طبقة وظيفية تعمل كديكور لإضفاء الشرعية الشكلية على المشروع والأخطر من ذلك هو ارتباط الخطة بمؤسسات مشبوهة مثل ' مؤسسة غزة الإنسانية ' التي رُفضت عربيًا لدورها في تبييض سياسات الاحتلال ما يثير مزيدًا من الريبة والشك حول طبيعة النفوذ الإسرائيلي غير المباشر داخل هذه التركيبة
هذا المشروع لا يتوافق مع إعلان نيويورك الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخرًا والذي نصّ على تشكيل إدارة فلسطينية تكنوقراطية مؤقتة لمدة عام واحد فقط تنتقل بعدها السلطة إلى قيادة منتخبة وفق دستور معدّل الفارق الزمني والهيكلي بين المقترحين يكشف أن واشنطن لا تسعى لحل بل لصناعة واقع سياسي يخدم أمن إسرائيل ويمنع عودة وحدة القرار الفلسطيني من خلال سلطة دولية تُعيد إنتاج الاحتلال بلغة أكثر دبلوماسية وأدوات أكثر نُعومة
رغم أن الموقف العربي المعلن حتى الآن يرفض هذا النموذج ويتمسّك بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية إلا أن الكواليس تكشف عن محاولات تسويق المشروع في لقاءات عُقدت بنيويورك التي جمعت ترامب بقيادات خليجية وتركية وأردنية وإندونيسية وسط محاولات فرنسية لدمج مقترح بلير ضمن إعلان نيويورك في ما يبدو وكأنه عملية ' تدوير ناعم ' للفكرة الاستعمارية ذاتها
الرهان الإسرائيلي على ضعف الذاكرة الفلسطينية سقط منذ زمن بعيد وعودة 'المندوب السامي' في ثوب توني بلير لن تغيّر من جوهر المشروع شيئًا فالمحتوى واحد وإن تبدّل الغلاف المشروع الى وصاية وإن تغيّرت أدواته والمرفوض شعبيًا سيبقى مرفوضًا مهما حاز على دعم العواصم لأن غزة ليست تجربة سياسية عابرة بل هي قلب مشروع وطني أكبر عنوانه التحرر والسيادة لا القبول بإدارة انتقالية أجنبية تُخفي الاحتلال وتُعقّد الحل
حديث ترامب عن منطقة اقتصادية خاصة وفرص استثمارية هو أشبه بمحاولة تسويق أوهام رخاء اقتصادي للتغطية على حقيقة أن غزة ستبقى خاضعة للرقابة والهيمنة وبدل أن تكون التنمية وسيلة للتحرر ستُحوَّل إلى أداة لتطويع الفلسطينيين وقبولهم بالواقع المفروض عليهم وفي المحصلة ترامب لم يطرح حلًا للصراع بقدر ما طرح آلية جديدة لتثبيت الاحتلال بصيغة دولية مع منحه شخصيًا دور الوصي الأعلى على غزة وما يحدث ليس سلامًا بل هو شكل آخر من أشكال الاحتلال حيث تتحول غزة إلى مختبر للتجارب الدولية يديره رئيس أمريكي عبر مندوب سامي جديد اسمه طوني بلير في بداية لمرحلة أشد خطورة اساسها وأد القضية الفلسطينية وتحويلها إلى ملف إداري دولي
ختاما : قد تظن الإدارة الأمريكية أن الفلسطينيين أنهكهم الحصار وأرهقتهم الحروب وسيرضخون لمشاريع ( ترامب بلير كشنر ) كما رضخوا سابقًا لوعود فارغة لكن ما لم تفهمه واشنطن أو تتغافل عنه أن هذا الشعب قدم ما يكفي من الدماء ليُميز متى تكون التضحية طريقًا للتحرر ومتى تكون فخًا لشرعنة استعمار جديد ومهما أُغرق المشروع بالتفويضات والتمويلات والواجهات الدولية سيبقى مرفوضًا على الأرض لأن من لم يفقد إرادته لا يُنتدَب عليه ولأن غزة بكل ما نزفت لن تقبل أن تتحول إلى حقل تجارب لمشاريع استعمارية مغلّفة بالدبلوماسية والإنسانية وشعارات التنمية والاستقرار الكاذبة لإعادة صياغة المشهد الفلسطيني بما يلائم أمن إسرائيل ومصالح أمريكا
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]
مهدي مبارك عبد الله
غزة من جديد على مائدة الوصاية الدولية ولكن هذه المرة بغطاء إنساني وتفويض ناعم يقوده السياسي البريطاني توني بلير في مشهد يعيد إلى الأذهان صورة المندوب السامي البريطاني الذي حكم فلسطين بسلطة استعمارية مطلقة قبل نكبة عام 1948 ليؤكد ان ما يجري اليوم ليس إعادة تدوير لشخصيات دولية بل محاولة مريبة لإعادة إنتاج عقلية الانتداب والهيمنة تحت مسميات خادعة حيث يعود بلير إلى المشهد لا كمبعوث محايد بل كجزء من هندسة سياسية تستهدف السيطرة على غزة دون احتلال مباشر بل عبر ما يُسمى بالسلطة الدولية الانتقالية وما بين التاريخ والحاضر تتكرّر أدوات النفوذ وتتبدل الوجوه لكن جوهر المشروع يظل واحدًا إقصاء الفلسطينيين عن قرارهم الوطني واستبدال التحرير بالوصاية والدولة بالمساعدات، والاحتلال بالتفويض الدولي
الجزء الأكثر خطورة في المشروع يتمثل في مقترح إنشاء “هيئة انتقالية دولية” باسم مجلس السلام” ويرأسه ترامب نفسه ويضم شخصيات غربية مثل توني بلير وآخرين لتكون هي الجهة المشرفة على إدارة غزة وتمويلها وإعادة إعمارها وهو أشبه بالوصاية أو الانتداب حيث يتحكم الخارج في كل التفاصيل من الأمن إلى الاقتصاد وتجريد الفلسطينيين من أي سيادة على أرضهم
ربما لم يكن مرور أكثر من قرن (1920 – 1948) على انتداب بريطانيا لفلسطين كان كافيًا لطيّ صفحة الاستعمار إذ تعود اليوم غزة إلى واجهة مشروع وصاية دولية تقوده واشنطن سياسيًا باسم القانون الدولي ويمثله هذه المرة توني بلير في محاولة لإعادة إنتاج الهيمنة على الأرض الفلسطينية ورغم أن بلير لا يحمل تفويضًا رسميًا من لندن إلا أن رمزية الدور الذي يُطرح له تُشبه من حيث الجوهر دور المندوب السامي الذي منحته عصبة الأمم سلطة شبه استعمارية على أراضي الدولة العثمانية السابقة وجعلت من غزة جزءًا من انتداب فلسطين الذي مهّد لتقسيم الأرض وولادة المشروع الصهيوني
اليوم وبعد حرب دامية على غزة تسوق الإدارة الأمريكية مشروعًا لإدارة القطاع عبر كيان هجين يحمل اسم 'السلطة الدولية الانتقالية (GITA) ' يُقترح أن يترأسه بلير في خطة لا تخفي طابعها الاستعماري رغم تغليفها بشعارات إعادة الإعمار ووقف الحرب وتحسين الأوضاع الإنسانية وهذه الخطة التي كشفت تفاصيلها مصادر إسرائيلية تتجاوز التصورات الأمريكية السابقة لما يسمى بـ 'اليوم التالي' في غزة إذ لا تهدف فقط إلى إدارة مؤقتة بل إلى وصاية طويلة الأمد قد تمتد إلى خمس سنوات تُسند فيها الصلاحيات السياسية والقانونية العليا إلى شخصية غير فلسطينية وخارج أي شرعية تمثيلية وطنية أو عربية في تجاوز صارخ لمبدأ تقرير المصير الذي يُعد ركيزة أساسية في القانون الدولي
تنطلق الخطة من مدينة العريش المصرية حيث يُفترض أن تُقام مقرات مؤقتة للسلطة الجديدة قبل أن تنتقل تدريجيًا إلى القطاع برفقة قوة متعددة الجنسيات ذات طابع عربي شكلي وتفويض أممي واسع وهذه الإدارة المقترحة ستُمنح سلطات شاملة تشمل الإعمار والتشريعات والأمن والتنسيق مع السلطة الفلسطينية في مزيج يقترب من نموذج الانتداب العسكري والإدارة المدنية تمامًا كما كانت الحال تحت حكم المندوب السامي البريطاني قبل النكبة
المشهد بكل تفاصيله يعيد إنتاج التاريخ لا كمأساة فقط بل كمهزلة أيضًا حيث توني بلير يُقدَّم اليوم كبديل عصري للمندوب السامي الأخير السير' آلان كننغهام ' الذي غادر فلسطين عام 1948 مع نهاية الانتداب البريطاني لكن الفارق أن بلير لا يعود على متن بارجة حربية إلى ميناء حيفا بل يدخل من بوابة دولية ذات طابع إنساني زائف وشرعية مفروضة وبينما كان كننغهام يمثل الاستعمار المباشر يأتي بلير الآن مندوبًا ساميًا من نوع مختلف يخلط فيه بين أدوات السيطرة السياسية ووسائل التغلغل الاقتصادي في مشروع أمريكي – إسرائيلي قد يُبقي غزة تحت الهيمنة الأجنبية لسنوات طويلة
إذا كانت بريطانيا في حقبة الانتداب الأول قد فرضت سيطرتها من خلال وعد بلفور المشؤوم فإن مشروع الوصاية الجديد يُعيد إنتاج نفس الذهنية الاستعمارية ولكن دون وعد بل بفرض الأمر الواقع فالانتداب القديم انطلق من مقولة ' أرض بلا شعب لشعب بلا أرض ' أما المشروع الحالي فيقوم على صيغة أكثر خطورة ' شعب بلا دولة تحت إدارة بلا سيادة ' إنه انتداب بلا اعتراف ووعد بلا أفق ووضع انتقالي بلا نهاية تُغلف فيه الهيمنة تحت شعارات الإعمار وتُدفن فيه قضية التحرر تحت ركام الحلول الأمنية والإنسانية المعلّبة
بلير المعروف بعلاقاته الوثيقة مع دوائر القرار الغربية والعواصم الخليجية لا يحمل لدى الفلسطينيين سوى الذكريات المُرّة فقد شغل منصب مبعوث اللجنة الرباعية لسنوات طويلة دون أن يقدّم شيئًا ملموسًا للقضية بل يُنظر إليه كشريك في تمرير سياسات الاحتلال وعرقلة أي مسار سياسي حقيقي نحو الدولة وان إعادة طرحه اليوم كوجه لإدارة غزة لا يعكس فقط انعدام الثقة بقدرة الفلسطينيين على إدارة شؤونهم بل يمثل تكريسًا لفكرة الوصاية السياسية وتحويل غزة إلى حقل تجربة دولي في إدارة ما بعد الحروب
التمثيل الفلسطيني ضمن الخطة لا يتجاوز شخصًا واحدًا ربما رجل أعمال أو مسؤولًا أمنيًا سابقًا في مؤشر صارخ على تهميش القرار الوطني الفلسطيني وخلق طبقة وظيفية تعمل كديكور لإضفاء الشرعية الشكلية على المشروع والأخطر من ذلك هو ارتباط الخطة بمؤسسات مشبوهة مثل ' مؤسسة غزة الإنسانية ' التي رُفضت عربيًا لدورها في تبييض سياسات الاحتلال ما يثير مزيدًا من الريبة والشك حول طبيعة النفوذ الإسرائيلي غير المباشر داخل هذه التركيبة
هذا المشروع لا يتوافق مع إعلان نيويورك الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخرًا والذي نصّ على تشكيل إدارة فلسطينية تكنوقراطية مؤقتة لمدة عام واحد فقط تنتقل بعدها السلطة إلى قيادة منتخبة وفق دستور معدّل الفارق الزمني والهيكلي بين المقترحين يكشف أن واشنطن لا تسعى لحل بل لصناعة واقع سياسي يخدم أمن إسرائيل ويمنع عودة وحدة القرار الفلسطيني من خلال سلطة دولية تُعيد إنتاج الاحتلال بلغة أكثر دبلوماسية وأدوات أكثر نُعومة
رغم أن الموقف العربي المعلن حتى الآن يرفض هذا النموذج ويتمسّك بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية إلا أن الكواليس تكشف عن محاولات تسويق المشروع في لقاءات عُقدت بنيويورك التي جمعت ترامب بقيادات خليجية وتركية وأردنية وإندونيسية وسط محاولات فرنسية لدمج مقترح بلير ضمن إعلان نيويورك في ما يبدو وكأنه عملية ' تدوير ناعم ' للفكرة الاستعمارية ذاتها
الرهان الإسرائيلي على ضعف الذاكرة الفلسطينية سقط منذ زمن بعيد وعودة 'المندوب السامي' في ثوب توني بلير لن تغيّر من جوهر المشروع شيئًا فالمحتوى واحد وإن تبدّل الغلاف المشروع الى وصاية وإن تغيّرت أدواته والمرفوض شعبيًا سيبقى مرفوضًا مهما حاز على دعم العواصم لأن غزة ليست تجربة سياسية عابرة بل هي قلب مشروع وطني أكبر عنوانه التحرر والسيادة لا القبول بإدارة انتقالية أجنبية تُخفي الاحتلال وتُعقّد الحل
حديث ترامب عن منطقة اقتصادية خاصة وفرص استثمارية هو أشبه بمحاولة تسويق أوهام رخاء اقتصادي للتغطية على حقيقة أن غزة ستبقى خاضعة للرقابة والهيمنة وبدل أن تكون التنمية وسيلة للتحرر ستُحوَّل إلى أداة لتطويع الفلسطينيين وقبولهم بالواقع المفروض عليهم وفي المحصلة ترامب لم يطرح حلًا للصراع بقدر ما طرح آلية جديدة لتثبيت الاحتلال بصيغة دولية مع منحه شخصيًا دور الوصي الأعلى على غزة وما يحدث ليس سلامًا بل هو شكل آخر من أشكال الاحتلال حيث تتحول غزة إلى مختبر للتجارب الدولية يديره رئيس أمريكي عبر مندوب سامي جديد اسمه طوني بلير في بداية لمرحلة أشد خطورة اساسها وأد القضية الفلسطينية وتحويلها إلى ملف إداري دولي
ختاما : قد تظن الإدارة الأمريكية أن الفلسطينيين أنهكهم الحصار وأرهقتهم الحروب وسيرضخون لمشاريع ( ترامب بلير كشنر ) كما رضخوا سابقًا لوعود فارغة لكن ما لم تفهمه واشنطن أو تتغافل عنه أن هذا الشعب قدم ما يكفي من الدماء ليُميز متى تكون التضحية طريقًا للتحرر ومتى تكون فخًا لشرعنة استعمار جديد ومهما أُغرق المشروع بالتفويضات والتمويلات والواجهات الدولية سيبقى مرفوضًا على الأرض لأن من لم يفقد إرادته لا يُنتدَب عليه ولأن غزة بكل ما نزفت لن تقبل أن تتحول إلى حقل تجارب لمشاريع استعمارية مغلّفة بالدبلوماسية والإنسانية وشعارات التنمية والاستقرار الكاذبة لإعادة صياغة المشهد الفلسطيني بما يلائم أمن إسرائيل ومصالح أمريكا
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]
التعليقات