كتب د.منذر حوارات

زامنت الصين طفولة البشرية منذ انبثاقها الأول، وأسهمت في إطلاق بواكير الحضارة، واستطاعت أن تبقى دولة ذات جغرافيا متواصلة عبر أربعة آلاف عام، ولهذا يعتز الصينيون بكل حرف من تاريخهم الممتد، باستثناء قرن الإذلال(1840–1949) الذي شهد تفكك أسرة كينغ والاحتلال الياباني، وفرض الاتفاقيات غير المتكافئة، اليوم، يعتبر قادة الحزب الشيوعي أنفسهم الامتداد الأخير لتلك الحضارة، ويصوّرون أنفسهم كسلالة جديدة ضمن سلسلة من خمسٍ وعشرين سلالة حكمت الصين، ليؤكدوا أن دولتهم امتداد حضاري لا انقطاع سياسي، ومن هنا يتولد شعور قومي بأن النهضة ليست خياراً، بل استعادة لمجد مؤجل، وفي هذا السياق، تحاول جمهورية الصين الشعبية وروسيا إعادة تشكيل السرد العالمي حول الحرب العالمية الثانية، لتأطير نفسيهما منتصرين حاسمين وتحدي السرديات 'المركزية للغرب” وإسقاطها، بعد أن هيمنت طوال العقود الماضية بعد الحرب العالمية الثانية.

هذا الإرث التاريخي يمنح العرض العسكري الأخير في ساحة تيانانمن، بمناسبة الذكرى الثمانين للنصر، قيمة مضاعفة، فهو ليس استعراضا للقوة فحسب، بل إعلان صريح بأن بكين دخلت مرحلة جديدة من تاريخها، لقد بدأت الصين لعبة الحضارة الحديثة منذ عقود، مكّنتها من الحضور التدريجي على المسرح الاقتصادي كقوة صانعة وموثوقة، ثم تحولت إلى لاعب سياسي مؤثر في القضايا الدولية، واليوم، بعد هذا العرض المهيب، تثبت أنها لم تعد 'ورشة العالم”، بل قوة عسكرية واثقة تحمي اقتصادها الهائل وتفرض حضورها على المسرح العالمي.


لكن القوة الصينية ليست حلماً رومانسياً يراود نخبتها الحاكمة، بل حاجة استراتيجية ومصلحة وطنية، فبكين تسعى لتأمين الموارد الأولية والمعادن النادرة من إفريقيا، والسيطرة على موانئ آمنة توصلها إلى الخليج وإيران، بهذا المعنى يصبح بحر الصين الجنوبي 'الخليج العربي الصيني”، الممر الإلزامي لمشروع الصين الكبرى، وتبقى الولايات المتحدة العقبة الكبرى أمام هذا المشروع.


قد يتبادر السؤال: هل وجود بوتين ومودي إلى جانب شي جينبينغ يعكس رغبة الصين في بناء تحالف استراتيجي بمواجهة واشنطن؟ الإجابة: لا، فالعلاقات الصينية–الروسية مشحونة بالشكوك والتنافس في الشرق الأقصى، ما يدفع موسكو إلى الحذر وربما إلى تسويات أسرع مع الغرب، أما الهند، فالتاريخ الحدودي المتوتر والمخاوف من التوسع الصيني في المحيط الهندي يجعلانها شريكاً متردداً لا ركناً في محور مضاد للغرب، لذلك، يبقى هذا الحضور أقرب إلى تكتيك ظرفي منه إلى تحالف صلب، وهو ما يؤكد أن الصين تُعد نفسها لمواجهة الهيمنة الغربية بشكل مفرد، لكنها تحييد الآخرين الكبار عن هذا الهدف.


ويبقى ملف تايوان الأكثر حساسية في معادلة الصراع القادم، فالصينيون يعدّونها جزءاً لا يتجزأ من الوطن، ونقطة انطلاق للهيمنة على ممر تايوان وبحر الصين الجنوبي والمحيطين الهادئ والهندي، بينما يراها الأميركيون 'أهم حاملة طائرات لا يمكن إغراقها”، فاستعادة الجزيرة من قبل بكين تعني عملياً ميلاد عالم متعدد الأقطاب، فيما أي تراجع أميركي عن الدفاع عنها سيمزق شبكة تحالفاتها في آسيا، من اليابان إلى كوريا الجنوبية والفلبين وأستراليا، ويدفع حلفاءها إلى أحضان الصين، مكرهين لا محبين.


نجحت الصين وبهدوء في بناء ثالوث نووي، وقوة جوية معتبرة، وأهم من ذلك قوة بحرية عابرة للمحيطات قادرة على حماية خطوطها البحرية نحو الشرق الأوسط، وهي بذلك لم تعد قوة برية قارية فقط، بل قوة بحرية عالمية، صحيح أن هذا التوازن يجعل فكرة المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة أقل منطقية، لكنه لا يلغي احتمالية التصعيد عند نقاط التماس الكبرى في بحر الصين الجنوبي وتايوان.


أما واشنطن، بصفتها القوة المهيمنة على نصف العالم الغربي، فلن تقبل أن تترك للصين فرصة الهيمنة على نصفه الشرقي، وهنا تكمن دراما العقود القادمة: مواجهة بين قوة قائمة تسعى للحفاظ على تفوقها، وقوة صاعدة تستعيد أمجادها، إنها نسخة معاصرة من صراع 'أسبرطة وأثينا” الذي يصفه المؤرخون بأنه جوهر السياسة الدولية.


من هنا، لم يكن عرض بكين مجرد صواريخ وطائرات وغواصات، بل سردية متكاملة تجمع بين الحضارة والجغرافيا والاقتصاد والعسكر، لقد أعلنت الصين عن نفسها كقوة عظمى، لكن يبقى السؤال مفتوحاً: هل ستكتفي بتثبيت مكانتها عبر الردع والتمدد الاقتصادي، أم أننا أمام صدام كوني سيحدد ملامح القرن الحالي وربما القرن الذي يليه؟ تبقى الإجابة مرهونة بطبيعة الرد الأميركي، فيما إذا كانت ستقبل بالصين قوة ندية ؟ أم ستحاول التصدي لصعودها الصاروخي؟ أم أنها ستقبل التراجع خطوة إلى الوراء؟ تبقى الإجابات على هذه الأسئلة محمولة على أجنحة المستقبل وتطوراته.

كتب د.منذر حوارات

زامنت الصين طفولة البشرية منذ انبثاقها الأول، وأسهمت في إطلاق بواكير الحضارة، واستطاعت أن تبقى دولة ذات جغرافيا متواصلة عبر أربعة آلاف عام، ولهذا يعتز الصينيون بكل حرف من تاريخهم الممتد، باستثناء قرن الإذلال(1840–1949) الذي شهد تفكك أسرة كينغ والاحتلال الياباني، وفرض الاتفاقيات غير المتكافئة، اليوم، يعتبر قادة الحزب الشيوعي أنفسهم الامتداد الأخير لتلك الحضارة، ويصوّرون أنفسهم كسلالة جديدة ضمن سلسلة من خمسٍ وعشرين سلالة حكمت الصين، ليؤكدوا أن دولتهم امتداد حضاري لا انقطاع سياسي، ومن هنا يتولد شعور قومي بأن النهضة ليست خياراً، بل استعادة لمجد مؤجل، وفي هذا السياق، تحاول جمهورية الصين الشعبية وروسيا إعادة تشكيل السرد العالمي حول الحرب العالمية الثانية، لتأطير نفسيهما منتصرين حاسمين وتحدي السرديات 'المركزية للغرب” وإسقاطها، بعد أن هيمنت طوال العقود الماضية بعد الحرب العالمية الثانية.

هذا الإرث التاريخي يمنح العرض العسكري الأخير في ساحة تيانانمن، بمناسبة الذكرى الثمانين للنصر، قيمة مضاعفة، فهو ليس استعراضا للقوة فحسب، بل إعلان صريح بأن بكين دخلت مرحلة جديدة من تاريخها، لقد بدأت الصين لعبة الحضارة الحديثة منذ عقود، مكّنتها من الحضور التدريجي على المسرح الاقتصادي كقوة صانعة وموثوقة، ثم تحولت إلى لاعب سياسي مؤثر في القضايا الدولية، واليوم، بعد هذا العرض المهيب، تثبت أنها لم تعد 'ورشة العالم”، بل قوة عسكرية واثقة تحمي اقتصادها الهائل وتفرض حضورها على المسرح العالمي.


لكن القوة الصينية ليست حلماً رومانسياً يراود نخبتها الحاكمة، بل حاجة استراتيجية ومصلحة وطنية، فبكين تسعى لتأمين الموارد الأولية والمعادن النادرة من إفريقيا، والسيطرة على موانئ آمنة توصلها إلى الخليج وإيران، بهذا المعنى يصبح بحر الصين الجنوبي 'الخليج العربي الصيني”، الممر الإلزامي لمشروع الصين الكبرى، وتبقى الولايات المتحدة العقبة الكبرى أمام هذا المشروع.


قد يتبادر السؤال: هل وجود بوتين ومودي إلى جانب شي جينبينغ يعكس رغبة الصين في بناء تحالف استراتيجي بمواجهة واشنطن؟ الإجابة: لا، فالعلاقات الصينية–الروسية مشحونة بالشكوك والتنافس في الشرق الأقصى، ما يدفع موسكو إلى الحذر وربما إلى تسويات أسرع مع الغرب، أما الهند، فالتاريخ الحدودي المتوتر والمخاوف من التوسع الصيني في المحيط الهندي يجعلانها شريكاً متردداً لا ركناً في محور مضاد للغرب، لذلك، يبقى هذا الحضور أقرب إلى تكتيك ظرفي منه إلى تحالف صلب، وهو ما يؤكد أن الصين تُعد نفسها لمواجهة الهيمنة الغربية بشكل مفرد، لكنها تحييد الآخرين الكبار عن هذا الهدف.


ويبقى ملف تايوان الأكثر حساسية في معادلة الصراع القادم، فالصينيون يعدّونها جزءاً لا يتجزأ من الوطن، ونقطة انطلاق للهيمنة على ممر تايوان وبحر الصين الجنوبي والمحيطين الهادئ والهندي، بينما يراها الأميركيون 'أهم حاملة طائرات لا يمكن إغراقها”، فاستعادة الجزيرة من قبل بكين تعني عملياً ميلاد عالم متعدد الأقطاب، فيما أي تراجع أميركي عن الدفاع عنها سيمزق شبكة تحالفاتها في آسيا، من اليابان إلى كوريا الجنوبية والفلبين وأستراليا، ويدفع حلفاءها إلى أحضان الصين، مكرهين لا محبين.


نجحت الصين وبهدوء في بناء ثالوث نووي، وقوة جوية معتبرة، وأهم من ذلك قوة بحرية عابرة للمحيطات قادرة على حماية خطوطها البحرية نحو الشرق الأوسط، وهي بذلك لم تعد قوة برية قارية فقط، بل قوة بحرية عالمية، صحيح أن هذا التوازن يجعل فكرة المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة أقل منطقية، لكنه لا يلغي احتمالية التصعيد عند نقاط التماس الكبرى في بحر الصين الجنوبي وتايوان.


أما واشنطن، بصفتها القوة المهيمنة على نصف العالم الغربي، فلن تقبل أن تترك للصين فرصة الهيمنة على نصفه الشرقي، وهنا تكمن دراما العقود القادمة: مواجهة بين قوة قائمة تسعى للحفاظ على تفوقها، وقوة صاعدة تستعيد أمجادها، إنها نسخة معاصرة من صراع 'أسبرطة وأثينا” الذي يصفه المؤرخون بأنه جوهر السياسة الدولية.


من هنا، لم يكن عرض بكين مجرد صواريخ وطائرات وغواصات، بل سردية متكاملة تجمع بين الحضارة والجغرافيا والاقتصاد والعسكر، لقد أعلنت الصين عن نفسها كقوة عظمى، لكن يبقى السؤال مفتوحاً: هل ستكتفي بتثبيت مكانتها عبر الردع والتمدد الاقتصادي، أم أننا أمام صدام كوني سيحدد ملامح القرن الحالي وربما القرن الذي يليه؟ تبقى الإجابة مرهونة بطبيعة الرد الأميركي، فيما إذا كانت ستقبل بالصين قوة ندية ؟ أم ستحاول التصدي لصعودها الصاروخي؟ أم أنها ستقبل التراجع خطوة إلى الوراء؟ تبقى الإجابات على هذه الأسئلة محمولة على أجنحة المستقبل وتطوراته.