تبدو صورة الشباب الأردني اليوم وكأنها مشدودة بين خطَّين متناقضَين: من جهةٍ تضخّم منخفض نسبيًا يخفّف من الضغط على القدرة الشرائية، ومن جهة أخرى بطالة خانقة تكاد تتحوّل إلى قدرٍ اجتماعي دائم. وحسب تقرير البنك الدولي لعام 2024، وصلت بطالة الشباب (15–24 سنة) إلى نحو 41.7% من القوة العاملة الشابة، فيما أظهرت بيانات دائرة الإحصاءات العامة للربع الأول 2025 أن البطالة الكلية استقرت عند 21.3%. هذه الأرقام ليست مجرد نسبٍ جافة، بل مؤشرات على إخفاق حكومي متراكم في إدارة ملف العمل، حيث تتغيّر الخطط والشعارات لكن جوهر المشكلة يبقى على حاله. ويُضاف إلى ذلك أنّ نسبة كبيرة من الشباب أصلًا خارج سوق العمل تمامًا، وهو ما يكشف عمق المأزق. المفارقة أنّ التضخم في الأردن بقي معتدلًا. فقد سجل، وفق أرقام دائرة الإحصاءات العامة لشهر تموز/يوليو 2025، نحو 1.68% على أساس سنوي، وبمتوسط 1.94% للأشهر السبعة الأولى من العام. هذا يعني أن الأسر الأردنية لم تواجه تضخّمًا خانقًا كتلك التي تعانيها مجتمعات أخرى، ومع ذلك فإن استقرار الأسعار لم ينعكس على حياة الشباب، لأن التحدي الأكبر ليس الغلاء بل انعدام الدخل أساسًا. إن بقاء نصف الشباب تقريبًا خارج سوق العمل يفضح حقيقة قصور السياسات الحكومية التي لم تستطع تحويل الاستقرار النقدي إلى نمو حقيقي في الوظائف. وما يفاقم الصورة أنّ نسبة الشباب المصنّفين في خانة الـNEET (خارج التعليم والعمل والتدريب) بلغت نحو 26.3% في عام 2023، أي ما يقارب 600 ألف شاب وشابة من إجمالي الفئة العمرية (15–24 سنة) البالغ عددها حوالي 2.3 مليون. هذه ليست مجرد أرقام بل انعكاس لعجز مؤسسي في رسم سياسات تعليم وتدريب قادرة على الاندماج في الاقتصاد. لعقودٍ طويلة اكتفت الحكومات بوعود إعادة هيكلة التعليم العالي أو تطوير التدريب المهني، لكن النتائج على الأرض بقيت هزيلة، وغالبًا ما تحوّلت تلك الاستراتيجيات إلى ملفات حبيسة الأدراج. الجغرافيا بدورها تكشف خللًا آخر. ففي حين تتكدّس الفرص النسبيّة في العاصمة والزرقاء، تعاني المحافظات الأخرى من معدلات بطالة أعلى بكثير من المتوسط الوطني، بحسب تقارير البنك المركزي الأردني لعام 2024. ومع أنّ الحكومات روّجت لمشاريع 'الفروع الإنتاجية' كأداة لخلق وظائف في الأطراف، فإن أثرها ظل محدودًا، وكثير منها يفتقر للاستدامة أو يتوقف بمجرد انتهاء الدعم. هذه السياسات الجزئية تكشف نزعة قصيرة الأمد: إدارة المشكلة لا حلّها. أما النساء الشابات، فقصتهنّ مع البطالة مضاعفة. إذ لا تتجاوز مشاركتهن في سوق العمل 15% تقريبًا بحسب بيانات دائرة الإحصاءات العامة لعام 2024. وبدل أن تُعالج الحكومات جذور هذا التهميش عبر توفير خدمات النقل والحضانات أو عبر تشريعات عمل مرنة، اكتفت بخطابات عن 'تمكين المرأة' بقيت بلا ترجمة حقيقية. النتيجة أنّ نصف طاقات البلد تظل معطلة، في وقتٍ يحتاج فيه الاقتصاد إلى كل يد عاملة وكل عقل منتج.
الخطط الحكومية الكبرى، من 'الأجندة الوطنية' إلى 'رؤية التحديث الاقتصادي' التي وعدت بمليون فرصة عمل حتى 2033، لم تتجاوز كونها نصوصًا جميلة تُطرح مع كل إدارة جديدة ثم تتعثر في التنفيذ. الواقع الاقتصادي يشي بعكس تلك الوعود: فقد سجل الاقتصاد الأردني نموًا بمعدل 2.5% في 2024، مع توقعات لا تتجاوز 3% في 2025 وفق التقديرات الرسمية، فيما يظل القطاع الخاص هشًا يعتمد على أنشطة منخفضة القيمة المضافة، ويستمر في العزوف عن تشغيل الخريجين حديثي التخرج. المفارقة أنّ ذات السياسات تُعاد إنتاجها كل بضع سنوات تحت مسمّيات جديدة، لكن من دون إصلاح جذري لسوق العمل أو معالجة بنيوية لفجوة المهارات. وسط هذا المشهد القاتم، يبرز الدور الإيجابي لولي العهد الأمير الحسين بن عبد الله الثاني، الذي جعل ملف الشباب أولوية شخصية. فقد دفع في أكثر من مناسبة نحو الاستثمار في التكنولوجيا والريادة، وأطلق مبادرات لتعزيز المهارات الرقمية وتوسيع فرص العمل الحر عبر الاقتصاد الرقمي. هذا الانخراط المباشر يرسل رسالة واضحة للشباب بأن قضاياهم ليست خارج جدول الاهتمام الأعلى في الدولة. لكن يظل التحدي الحقيقي في ترجمة هذا التوجّه الملكي إلى سياسات حكومية ملموسة، فالمبادرات الملكية مهما كانت مهمة لا يمكن أن تُعوِّض قصور الأجهزة التنفيذية إن لم تتبنَّ نهجًا مختلفًا يقوم على المساءلة والالتزام. النقد هنا ليس من باب جلد الذات، بل من باب الاعتراف بحجم الفجوة بين ما يُطرح وما يُنجز. فمن الضروري أن يتحوّل الدعم الحكومي من مجرّد إعانات قصيرة الأجل إلى أدوات لتمكين الشباب عبر التدريب المأجور، وربط الجامعات بسوق العمل، وتقديم حوافز للشركات التي تلتزم بتوظيف حديثي التخرج على نحوٍ مستدام. النقد موجّه بالدرجة الأولى إلى غياب الإرادة السياسية الجادّة لدى الحكومات المتعاقبة. فبدل أن تُوجَّه الموارد إلى خلق بيئة عمل منتجة، بقيت معظم السياسات حبيسة عقلية الدعم المؤقت والمشاريع التجريبية. المطلوب اليوم ليس مبادرات دعائية، بل برامج مرتبطة بعقود توظيف فعلية، ومساءلة حكومية علنية عن نتائج كل خطة. الشفافية في نشر الأرقام الدقيقة وربطها بمدى تحقيق الأهداف يجب أن تكون جزءًا من النهج، لا مجرد ديكور. خارطة الطريق للخروج من هذا المأزق واضحة: إعادة توجيه الإنفاق العام لدعم التدريب العملي المأجور وربط الجامعات بسوق العمل بشكل إجباري، بحيث لا يتخرج طالب من دون خبرة عملية. إلزام الشركات الكبرى بتخصيص نسبة من وظائفها لتشغيل الخريجين الجدد مقابل حوافز ضريبية. الاستثمار الجدي في الاقتصاد الرقمي والعمل الحر عبر منصات عالمية، بدعم وتوسيع المبادرات الملكية في هذا المجال. وأخيرًا، لامركزية التنمية الاقتصادية بما يجعل المحافظات بيئات إنتاج حقيقية لا مجرد مناطق مهمّشة. إن البطالة بين الشباب ليست مجرد رقم اقتصادي، بل أزمة وطنية تحمل في طياتها أسئلة عن الاستقرار الاجتماعي والسياسي. التضخم المنخفض قد يمنح صبرًا مؤقتًا، لكن غياب الوظائف سيظل برميل بارود إذا لم يتحوّل إلى أولوية قصوى في كل خطط التنمية. التحدي الحقيقي للأردن اليوم ليس كيف يحافظ على استقرار الأسعار، بل كيف يحافظ على أمل شبابه. فبين تضخمٍ متواضع لا يرهق الجيوب، وبطالةٍ خانقة تُفرغ الحياة من معناها، يقف الشباب الأردني على حافة سؤال مصيري: هل ينتظرون وظائف لن تأتي، أم يصنعون مستقبلًا بيدهم إن توافرت لهم السياسات الشجاعة؟ فالأردن لن يواجه أزمة مالية بقدر ما سيواجه أزمة أمل إذا لم تُفتح أبواب العمل أمام شبابه.
الدكتور ليث عبدالله القهيوي
تبدو صورة الشباب الأردني اليوم وكأنها مشدودة بين خطَّين متناقضَين: من جهةٍ تضخّم منخفض نسبيًا يخفّف من الضغط على القدرة الشرائية، ومن جهة أخرى بطالة خانقة تكاد تتحوّل إلى قدرٍ اجتماعي دائم. وحسب تقرير البنك الدولي لعام 2024، وصلت بطالة الشباب (15–24 سنة) إلى نحو 41.7% من القوة العاملة الشابة، فيما أظهرت بيانات دائرة الإحصاءات العامة للربع الأول 2025 أن البطالة الكلية استقرت عند 21.3%. هذه الأرقام ليست مجرد نسبٍ جافة، بل مؤشرات على إخفاق حكومي متراكم في إدارة ملف العمل، حيث تتغيّر الخطط والشعارات لكن جوهر المشكلة يبقى على حاله. ويُضاف إلى ذلك أنّ نسبة كبيرة من الشباب أصلًا خارج سوق العمل تمامًا، وهو ما يكشف عمق المأزق. المفارقة أنّ التضخم في الأردن بقي معتدلًا. فقد سجل، وفق أرقام دائرة الإحصاءات العامة لشهر تموز/يوليو 2025، نحو 1.68% على أساس سنوي، وبمتوسط 1.94% للأشهر السبعة الأولى من العام. هذا يعني أن الأسر الأردنية لم تواجه تضخّمًا خانقًا كتلك التي تعانيها مجتمعات أخرى، ومع ذلك فإن استقرار الأسعار لم ينعكس على حياة الشباب، لأن التحدي الأكبر ليس الغلاء بل انعدام الدخل أساسًا. إن بقاء نصف الشباب تقريبًا خارج سوق العمل يفضح حقيقة قصور السياسات الحكومية التي لم تستطع تحويل الاستقرار النقدي إلى نمو حقيقي في الوظائف. وما يفاقم الصورة أنّ نسبة الشباب المصنّفين في خانة الـNEET (خارج التعليم والعمل والتدريب) بلغت نحو 26.3% في عام 2023، أي ما يقارب 600 ألف شاب وشابة من إجمالي الفئة العمرية (15–24 سنة) البالغ عددها حوالي 2.3 مليون. هذه ليست مجرد أرقام بل انعكاس لعجز مؤسسي في رسم سياسات تعليم وتدريب قادرة على الاندماج في الاقتصاد. لعقودٍ طويلة اكتفت الحكومات بوعود إعادة هيكلة التعليم العالي أو تطوير التدريب المهني، لكن النتائج على الأرض بقيت هزيلة، وغالبًا ما تحوّلت تلك الاستراتيجيات إلى ملفات حبيسة الأدراج. الجغرافيا بدورها تكشف خللًا آخر. ففي حين تتكدّس الفرص النسبيّة في العاصمة والزرقاء، تعاني المحافظات الأخرى من معدلات بطالة أعلى بكثير من المتوسط الوطني، بحسب تقارير البنك المركزي الأردني لعام 2024. ومع أنّ الحكومات روّجت لمشاريع 'الفروع الإنتاجية' كأداة لخلق وظائف في الأطراف، فإن أثرها ظل محدودًا، وكثير منها يفتقر للاستدامة أو يتوقف بمجرد انتهاء الدعم. هذه السياسات الجزئية تكشف نزعة قصيرة الأمد: إدارة المشكلة لا حلّها. أما النساء الشابات، فقصتهنّ مع البطالة مضاعفة. إذ لا تتجاوز مشاركتهن في سوق العمل 15% تقريبًا بحسب بيانات دائرة الإحصاءات العامة لعام 2024. وبدل أن تُعالج الحكومات جذور هذا التهميش عبر توفير خدمات النقل والحضانات أو عبر تشريعات عمل مرنة، اكتفت بخطابات عن 'تمكين المرأة' بقيت بلا ترجمة حقيقية. النتيجة أنّ نصف طاقات البلد تظل معطلة، في وقتٍ يحتاج فيه الاقتصاد إلى كل يد عاملة وكل عقل منتج.
الخطط الحكومية الكبرى، من 'الأجندة الوطنية' إلى 'رؤية التحديث الاقتصادي' التي وعدت بمليون فرصة عمل حتى 2033، لم تتجاوز كونها نصوصًا جميلة تُطرح مع كل إدارة جديدة ثم تتعثر في التنفيذ. الواقع الاقتصادي يشي بعكس تلك الوعود: فقد سجل الاقتصاد الأردني نموًا بمعدل 2.5% في 2024، مع توقعات لا تتجاوز 3% في 2025 وفق التقديرات الرسمية، فيما يظل القطاع الخاص هشًا يعتمد على أنشطة منخفضة القيمة المضافة، ويستمر في العزوف عن تشغيل الخريجين حديثي التخرج. المفارقة أنّ ذات السياسات تُعاد إنتاجها كل بضع سنوات تحت مسمّيات جديدة، لكن من دون إصلاح جذري لسوق العمل أو معالجة بنيوية لفجوة المهارات. وسط هذا المشهد القاتم، يبرز الدور الإيجابي لولي العهد الأمير الحسين بن عبد الله الثاني، الذي جعل ملف الشباب أولوية شخصية. فقد دفع في أكثر من مناسبة نحو الاستثمار في التكنولوجيا والريادة، وأطلق مبادرات لتعزيز المهارات الرقمية وتوسيع فرص العمل الحر عبر الاقتصاد الرقمي. هذا الانخراط المباشر يرسل رسالة واضحة للشباب بأن قضاياهم ليست خارج جدول الاهتمام الأعلى في الدولة. لكن يظل التحدي الحقيقي في ترجمة هذا التوجّه الملكي إلى سياسات حكومية ملموسة، فالمبادرات الملكية مهما كانت مهمة لا يمكن أن تُعوِّض قصور الأجهزة التنفيذية إن لم تتبنَّ نهجًا مختلفًا يقوم على المساءلة والالتزام. النقد هنا ليس من باب جلد الذات، بل من باب الاعتراف بحجم الفجوة بين ما يُطرح وما يُنجز. فمن الضروري أن يتحوّل الدعم الحكومي من مجرّد إعانات قصيرة الأجل إلى أدوات لتمكين الشباب عبر التدريب المأجور، وربط الجامعات بسوق العمل، وتقديم حوافز للشركات التي تلتزم بتوظيف حديثي التخرج على نحوٍ مستدام. النقد موجّه بالدرجة الأولى إلى غياب الإرادة السياسية الجادّة لدى الحكومات المتعاقبة. فبدل أن تُوجَّه الموارد إلى خلق بيئة عمل منتجة، بقيت معظم السياسات حبيسة عقلية الدعم المؤقت والمشاريع التجريبية. المطلوب اليوم ليس مبادرات دعائية، بل برامج مرتبطة بعقود توظيف فعلية، ومساءلة حكومية علنية عن نتائج كل خطة. الشفافية في نشر الأرقام الدقيقة وربطها بمدى تحقيق الأهداف يجب أن تكون جزءًا من النهج، لا مجرد ديكور. خارطة الطريق للخروج من هذا المأزق واضحة: إعادة توجيه الإنفاق العام لدعم التدريب العملي المأجور وربط الجامعات بسوق العمل بشكل إجباري، بحيث لا يتخرج طالب من دون خبرة عملية. إلزام الشركات الكبرى بتخصيص نسبة من وظائفها لتشغيل الخريجين الجدد مقابل حوافز ضريبية. الاستثمار الجدي في الاقتصاد الرقمي والعمل الحر عبر منصات عالمية، بدعم وتوسيع المبادرات الملكية في هذا المجال. وأخيرًا، لامركزية التنمية الاقتصادية بما يجعل المحافظات بيئات إنتاج حقيقية لا مجرد مناطق مهمّشة. إن البطالة بين الشباب ليست مجرد رقم اقتصادي، بل أزمة وطنية تحمل في طياتها أسئلة عن الاستقرار الاجتماعي والسياسي. التضخم المنخفض قد يمنح صبرًا مؤقتًا، لكن غياب الوظائف سيظل برميل بارود إذا لم يتحوّل إلى أولوية قصوى في كل خطط التنمية. التحدي الحقيقي للأردن اليوم ليس كيف يحافظ على استقرار الأسعار، بل كيف يحافظ على أمل شبابه. فبين تضخمٍ متواضع لا يرهق الجيوب، وبطالةٍ خانقة تُفرغ الحياة من معناها، يقف الشباب الأردني على حافة سؤال مصيري: هل ينتظرون وظائف لن تأتي، أم يصنعون مستقبلًا بيدهم إن توافرت لهم السياسات الشجاعة؟ فالأردن لن يواجه أزمة مالية بقدر ما سيواجه أزمة أمل إذا لم تُفتح أبواب العمل أمام شبابه.
الدكتور ليث عبدالله القهيوي
تبدو صورة الشباب الأردني اليوم وكأنها مشدودة بين خطَّين متناقضَين: من جهةٍ تضخّم منخفض نسبيًا يخفّف من الضغط على القدرة الشرائية، ومن جهة أخرى بطالة خانقة تكاد تتحوّل إلى قدرٍ اجتماعي دائم. وحسب تقرير البنك الدولي لعام 2024، وصلت بطالة الشباب (15–24 سنة) إلى نحو 41.7% من القوة العاملة الشابة، فيما أظهرت بيانات دائرة الإحصاءات العامة للربع الأول 2025 أن البطالة الكلية استقرت عند 21.3%. هذه الأرقام ليست مجرد نسبٍ جافة، بل مؤشرات على إخفاق حكومي متراكم في إدارة ملف العمل، حيث تتغيّر الخطط والشعارات لكن جوهر المشكلة يبقى على حاله. ويُضاف إلى ذلك أنّ نسبة كبيرة من الشباب أصلًا خارج سوق العمل تمامًا، وهو ما يكشف عمق المأزق. المفارقة أنّ التضخم في الأردن بقي معتدلًا. فقد سجل، وفق أرقام دائرة الإحصاءات العامة لشهر تموز/يوليو 2025، نحو 1.68% على أساس سنوي، وبمتوسط 1.94% للأشهر السبعة الأولى من العام. هذا يعني أن الأسر الأردنية لم تواجه تضخّمًا خانقًا كتلك التي تعانيها مجتمعات أخرى، ومع ذلك فإن استقرار الأسعار لم ينعكس على حياة الشباب، لأن التحدي الأكبر ليس الغلاء بل انعدام الدخل أساسًا. إن بقاء نصف الشباب تقريبًا خارج سوق العمل يفضح حقيقة قصور السياسات الحكومية التي لم تستطع تحويل الاستقرار النقدي إلى نمو حقيقي في الوظائف. وما يفاقم الصورة أنّ نسبة الشباب المصنّفين في خانة الـNEET (خارج التعليم والعمل والتدريب) بلغت نحو 26.3% في عام 2023، أي ما يقارب 600 ألف شاب وشابة من إجمالي الفئة العمرية (15–24 سنة) البالغ عددها حوالي 2.3 مليون. هذه ليست مجرد أرقام بل انعكاس لعجز مؤسسي في رسم سياسات تعليم وتدريب قادرة على الاندماج في الاقتصاد. لعقودٍ طويلة اكتفت الحكومات بوعود إعادة هيكلة التعليم العالي أو تطوير التدريب المهني، لكن النتائج على الأرض بقيت هزيلة، وغالبًا ما تحوّلت تلك الاستراتيجيات إلى ملفات حبيسة الأدراج. الجغرافيا بدورها تكشف خللًا آخر. ففي حين تتكدّس الفرص النسبيّة في العاصمة والزرقاء، تعاني المحافظات الأخرى من معدلات بطالة أعلى بكثير من المتوسط الوطني، بحسب تقارير البنك المركزي الأردني لعام 2024. ومع أنّ الحكومات روّجت لمشاريع 'الفروع الإنتاجية' كأداة لخلق وظائف في الأطراف، فإن أثرها ظل محدودًا، وكثير منها يفتقر للاستدامة أو يتوقف بمجرد انتهاء الدعم. هذه السياسات الجزئية تكشف نزعة قصيرة الأمد: إدارة المشكلة لا حلّها. أما النساء الشابات، فقصتهنّ مع البطالة مضاعفة. إذ لا تتجاوز مشاركتهن في سوق العمل 15% تقريبًا بحسب بيانات دائرة الإحصاءات العامة لعام 2024. وبدل أن تُعالج الحكومات جذور هذا التهميش عبر توفير خدمات النقل والحضانات أو عبر تشريعات عمل مرنة، اكتفت بخطابات عن 'تمكين المرأة' بقيت بلا ترجمة حقيقية. النتيجة أنّ نصف طاقات البلد تظل معطلة، في وقتٍ يحتاج فيه الاقتصاد إلى كل يد عاملة وكل عقل منتج.
الخطط الحكومية الكبرى، من 'الأجندة الوطنية' إلى 'رؤية التحديث الاقتصادي' التي وعدت بمليون فرصة عمل حتى 2033، لم تتجاوز كونها نصوصًا جميلة تُطرح مع كل إدارة جديدة ثم تتعثر في التنفيذ. الواقع الاقتصادي يشي بعكس تلك الوعود: فقد سجل الاقتصاد الأردني نموًا بمعدل 2.5% في 2024، مع توقعات لا تتجاوز 3% في 2025 وفق التقديرات الرسمية، فيما يظل القطاع الخاص هشًا يعتمد على أنشطة منخفضة القيمة المضافة، ويستمر في العزوف عن تشغيل الخريجين حديثي التخرج. المفارقة أنّ ذات السياسات تُعاد إنتاجها كل بضع سنوات تحت مسمّيات جديدة، لكن من دون إصلاح جذري لسوق العمل أو معالجة بنيوية لفجوة المهارات. وسط هذا المشهد القاتم، يبرز الدور الإيجابي لولي العهد الأمير الحسين بن عبد الله الثاني، الذي جعل ملف الشباب أولوية شخصية. فقد دفع في أكثر من مناسبة نحو الاستثمار في التكنولوجيا والريادة، وأطلق مبادرات لتعزيز المهارات الرقمية وتوسيع فرص العمل الحر عبر الاقتصاد الرقمي. هذا الانخراط المباشر يرسل رسالة واضحة للشباب بأن قضاياهم ليست خارج جدول الاهتمام الأعلى في الدولة. لكن يظل التحدي الحقيقي في ترجمة هذا التوجّه الملكي إلى سياسات حكومية ملموسة، فالمبادرات الملكية مهما كانت مهمة لا يمكن أن تُعوِّض قصور الأجهزة التنفيذية إن لم تتبنَّ نهجًا مختلفًا يقوم على المساءلة والالتزام. النقد هنا ليس من باب جلد الذات، بل من باب الاعتراف بحجم الفجوة بين ما يُطرح وما يُنجز. فمن الضروري أن يتحوّل الدعم الحكومي من مجرّد إعانات قصيرة الأجل إلى أدوات لتمكين الشباب عبر التدريب المأجور، وربط الجامعات بسوق العمل، وتقديم حوافز للشركات التي تلتزم بتوظيف حديثي التخرج على نحوٍ مستدام. النقد موجّه بالدرجة الأولى إلى غياب الإرادة السياسية الجادّة لدى الحكومات المتعاقبة. فبدل أن تُوجَّه الموارد إلى خلق بيئة عمل منتجة، بقيت معظم السياسات حبيسة عقلية الدعم المؤقت والمشاريع التجريبية. المطلوب اليوم ليس مبادرات دعائية، بل برامج مرتبطة بعقود توظيف فعلية، ومساءلة حكومية علنية عن نتائج كل خطة. الشفافية في نشر الأرقام الدقيقة وربطها بمدى تحقيق الأهداف يجب أن تكون جزءًا من النهج، لا مجرد ديكور. خارطة الطريق للخروج من هذا المأزق واضحة: إعادة توجيه الإنفاق العام لدعم التدريب العملي المأجور وربط الجامعات بسوق العمل بشكل إجباري، بحيث لا يتخرج طالب من دون خبرة عملية. إلزام الشركات الكبرى بتخصيص نسبة من وظائفها لتشغيل الخريجين الجدد مقابل حوافز ضريبية. الاستثمار الجدي في الاقتصاد الرقمي والعمل الحر عبر منصات عالمية، بدعم وتوسيع المبادرات الملكية في هذا المجال. وأخيرًا، لامركزية التنمية الاقتصادية بما يجعل المحافظات بيئات إنتاج حقيقية لا مجرد مناطق مهمّشة. إن البطالة بين الشباب ليست مجرد رقم اقتصادي، بل أزمة وطنية تحمل في طياتها أسئلة عن الاستقرار الاجتماعي والسياسي. التضخم المنخفض قد يمنح صبرًا مؤقتًا، لكن غياب الوظائف سيظل برميل بارود إذا لم يتحوّل إلى أولوية قصوى في كل خطط التنمية. التحدي الحقيقي للأردن اليوم ليس كيف يحافظ على استقرار الأسعار، بل كيف يحافظ على أمل شبابه. فبين تضخمٍ متواضع لا يرهق الجيوب، وبطالةٍ خانقة تُفرغ الحياة من معناها، يقف الشباب الأردني على حافة سؤال مصيري: هل ينتظرون وظائف لن تأتي، أم يصنعون مستقبلًا بيدهم إن توافرت لهم السياسات الشجاعة؟ فالأردن لن يواجه أزمة مالية بقدر ما سيواجه أزمة أمل إذا لم تُفتح أبواب العمل أمام شبابه.
التعليقات
شباب الأردن بين بطالة مزمنة وتضخم متواضع: أيّ مستقبل يتشكّل؟
التعليقات