د. هيثم علي حجازي*
يشكّل سوق العمل في أي دولة من الدول العمود الفقري للاقتصاد الوطني، إذ أنه يعكس مدى قدرة النظام التعليمي والتدريبي على إنتاج قوى عاملة مؤهلة، كما يعكس مدى قدرة الاقتصاد على استيعابها في وظائف منتجة. وفي الأردن، تتسم هذه المعادلة بتعقيد خاص، نتيجة تداخل عوامل اقتصادية وديموغرافية واجتماعية، مما أدى إلى بروز فجوة المهارات كأحد أبرز التحديات التنموية.
وفجوة المهارات، ببساطة، هي المسافة الفاصلة بين المهارات التي يمتلكها الأفراد وبين تلك المهارات التي يبحث عنها أصحاب العمل. وقد تكون هذه الفجوة نوعية، أي أن نوع المهارات غير مناسب، أو كمية، أي أن العدد المطلوب من أصحاب المهارات لا يكفي، أو حتى فجوة استخدام، عندما توجد المهارات لكن لا تُستغل لأسباب أخرى.
في الأردن، الأمر يتجاوز هذه التعريفات السابقة المبسطة، إذ أننا أمام ظاهرة هيكلية متجذرة في طريقة عمل الاقتصاد، وفي طبيعة سوق العمل، وفي السياسات التعليمية والتدريبية. لذلك، فإن معالجتها تتطلب فهما شاملا للواقع، واستراتيجية متكاملة تتوزع على مستويات قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى.
فالفجوة النوعية تظهر في الاردن عندما يتخرج الطلبة بمهارات لا يحتاجها السوق، أو لا تكفي وحدها لأداء الوظائف المطلوبة. وكمثال على ذلك: تزايد أعداد خريجي تخصصات مثل إدارة الأعمال أو علم الاجتماع، مقابل نقص في خريجي تخصصات تقنية كالأمن السيبراني، أو المهن الصناعية مثل صيانة المعدات أو تصميم الأنظمة الميكانيكية. يضاف إلى ذلك أن تفضيل المجتمع للمسارات الأكاديمية النظرية جعل التعليم المهني والتقني أقل جاذبية، رغم أن الطلب على هذا النوع من الكفاءات آخذ بالتزايد. والنتيجة التي وصلنا إليها: آلاف الخريجين لا يجدون وظائف مناسبة، بينما يعاني القطاع الخاص كثيرا لملء شواغره في مجالات معينة.
وفيما يتعلق بالفجوة الكمية، فإنه حتى عندما تكون المهارات المطلوبة متوافرة، فإن حجم المعروض منها في السوق يكون أقل من المطلوب. فشركات قطاع تكنولوجيا المعلومات في الاردن، تبحث عن مبرمجين ذوي خبرة في لغات حديثة، وعن محللي بيانات قادرين على العمل على منصات متطورة ومحدّثة. لكن عدد المؤهلين بهذه المواصفات محدود، مما يؤدي إلى منافسة شديدة على القلة المتوافرة، وارتفاع رواتبهم، وهجرة بعضهم إلى الخارج.
أما بالنسبة الى فجوة الاستخدام فتحدث عندما يمتلك الأفراد المهارات الصحيحة لكنهم لا يستطيعون استخدامها. وهذه الحالة في الاردن تتجلى في مناطق الأطراف حيث قد يوجد مهندسون أو تقنيون، لكن الفرص في محافظاتهم شبه معدومة، والانتقال الى العاصمة للعمل فيها مكلف أو صعب، أو في حالة النساء اللواتي يمتلكن مؤهلات جيدة، لكنهن يواجهن عقبات مرتبطة برعاية الأطفال أو بيئة العمل غير الملائمة.
وبهدف فهم جذور فجوة المهارات، يجب النظر إلى بنية سوق العمل نفسه من الزوايا التالية:
(1) ازدواجية القطاعين العام والخاص: فالقطاع العام في الأردن كان لسنوات طويلة الوجهة المفضلة للباحثين عن عمل، لما يوفره من استقرار وضمانات اجتماعية. وهذا الأمر جعل الكثير من الشباب يؤجلون أو يرفضون فرصا للعمل في القطاع الخاص، منتظرين 'فرصة حكومية'. وكانت النتيجة: فائض عرض على الوظائف الحكومية، وانخفاض في الإقبال على وظائف خاصة قد تكون أكثر إنتاجية.
(2) اتساع القطاع غير المنظم: فالقطاع غير المنظم يشمل الأعمال التي لا تُسَجَل رسميا ولا توفر عقودا أو ضمانات اجتماعية. ويشكل هذا القطاع في الأردن نسبة ملحوظة من الاقتصاد، خاصة في مجالات مثل المشروعات الفردية الصغيرة، والخدمات الشخصية، والتجارة الالكترونية، والعمالة اليومية. وهذا القطاع يفتقر إلى التدريب الرسمي، مما يعيق تطوير المهارات على المدى البعيد.
(3) التوزيع الجغرافي غير المتكافئ: يتركز أكثر من نصف الأنشطة الاقتصادية عالية القيمة في عمّان. في حين ان المحافظات الأخرى، رغم غناها بالموارد البشرية، تفتقر إلى الاستثمارات والبنية التحتية التي تخلق وظائف نوعية. ويفاقم هذا التركز فجوة المهارات، لأن أصحاب المهارات في الأطراف لا يجدون وظائف تناسبهم، بينما أصحاب العمل في العاصمة لا يجدون الكفاءات المحلية.
(4) هيمنة قطاع الخدمات: يشكل قطاع الخدمات العمود الفقري للاقتصاد الأردني، مع حضور قوي للسياحة، والتعليم، والصحة، وتكنولوجيا المعلومات. لكن العديد من هذه المجالات يتطلب مزيجا من المهارات التقنية والمهارات الناعمة والتي غالبا تكون غير متوافرة لدى خريجي النظام التعليمي الحالي.
(5) فجوة التعليم المهني والتقني: ما يزال التعليم المهني والتقني دون المستوى المطلوب من حيث الجودة والانتشار. فكثير من مراكزه تفتقر إلى المعدات الحديثة أو المدربين المؤهلين، والاعتمادية من قبل مؤسسات دولية، مما يقلل من قدرته على سد فجوة المهارات.
(6) الديناميات الديموغرافية والهجرة: الأردن بلد شاب، حيث يشكل من هم دون سن الثلاثين نسبة كبيرة من السكان. ومع ذلك، فإن معدل مشاركة النساء في سوق العمل لا يتجاوز ربع المعدل العالمي تقريبا. كما أن وجود أعداد كبيرة من اللاجئين والعمال المهاجرين يؤثر على هيكل الأجور والمنافسة في بعض القطاعات.
إن فجوة المهارات في الاردن ليست وليدة الصدفة، بل تشكلت نتيجة وجود أسباب عديدة، منها: (1) اختلال المواءمة بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل بسبب وجود فجوة بين المناهج وواقع السوق (2) ضعف التدريب العملي في معظم المسارات التعليمية (3) غياب نظم الاعتماد (4) ضعف المعلومات السوقية التي تساعد على اتخاذ القرارات (5) قلة الحوافز للتدريب لدى الشركات الصغيرة والمتوسطة (6) عوائق غير مهارية تمنع استغلال المهارات المتوفرة.
مما لا شك فيه، فإن فجوة المهارات تؤثر بشكل سلبي على (1) الشباب، فمعدل البطالة بينهم من بين المعدلات الأعلى في المنطقة (2) النساء، إذ أن وجودهن في القطاعات عالية الأجر ما يزال ضعيفا (3) خريجي الجامعات، إذ توجد فجوة بين التخصصات المطروحة والطلب الفعلي (4) العمال ذوي المستوى المتدني من المهارة الذين يعملون في وظائف منخفضة الإنتاجية (5) اللاجئين الذين ما يزالون يمتلكون مهارات غير معترف بها رسميا (6) أصحاب الأعمال الصغيرة الذين يعانون من عدم القدرة على اجتذاب الكفاءات المؤهلة و / او الاحتفاظ بها (7) ذوي الإعاقة الذين يواجهون حواجز مادية وثقافية تمنع الاندماج.
ونتيجة ذلك كله، فإن هناك جوانب سلبية تترك أثرها على الاقتصاد الكلي وتتمثل في: (1) انخفاض مستوى الانتاجية (2) تفاوت الأجور واتساع الفجوة بين ذوي المهارات العالية والمنخفضة (3) تباطؤ عملية التحول الرقمي (4) ضعف القدرة التنافسية للاستثمار.
ومن أجل ردم هذه الفجوة، فإنه يوصى ب: (1) حوكمة المهارات من خلال إنشاء مجالس مهارات قطاعية فاعلة (الصناعة، الإنشاءات، السياحة، المالية... الخ) تضم ممثلي الشركات، ومزوّدي التدريب/الجامعات، والجهات الحكومية، لتحديد المعايير المهنية وتحديثها وربطها بالبرامج التعليمية (2) إصلاح التعليم والتدريب (3) تعزيز المشاركة الاقتصادية بين القطاعين العام والخاص (4) تفعيل نظام معلومات سوق العمل (5) تحفيز القطاع الخاص.
*رئيس ديوان الخدمة المدنية الأسبق / أمين عام رئاسة الوزراء الأسبق
د. هيثم علي حجازي*
يشكّل سوق العمل في أي دولة من الدول العمود الفقري للاقتصاد الوطني، إذ أنه يعكس مدى قدرة النظام التعليمي والتدريبي على إنتاج قوى عاملة مؤهلة، كما يعكس مدى قدرة الاقتصاد على استيعابها في وظائف منتجة. وفي الأردن، تتسم هذه المعادلة بتعقيد خاص، نتيجة تداخل عوامل اقتصادية وديموغرافية واجتماعية، مما أدى إلى بروز فجوة المهارات كأحد أبرز التحديات التنموية.
وفجوة المهارات، ببساطة، هي المسافة الفاصلة بين المهارات التي يمتلكها الأفراد وبين تلك المهارات التي يبحث عنها أصحاب العمل. وقد تكون هذه الفجوة نوعية، أي أن نوع المهارات غير مناسب، أو كمية، أي أن العدد المطلوب من أصحاب المهارات لا يكفي، أو حتى فجوة استخدام، عندما توجد المهارات لكن لا تُستغل لأسباب أخرى.
في الأردن، الأمر يتجاوز هذه التعريفات السابقة المبسطة، إذ أننا أمام ظاهرة هيكلية متجذرة في طريقة عمل الاقتصاد، وفي طبيعة سوق العمل، وفي السياسات التعليمية والتدريبية. لذلك، فإن معالجتها تتطلب فهما شاملا للواقع، واستراتيجية متكاملة تتوزع على مستويات قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى.
فالفجوة النوعية تظهر في الاردن عندما يتخرج الطلبة بمهارات لا يحتاجها السوق، أو لا تكفي وحدها لأداء الوظائف المطلوبة. وكمثال على ذلك: تزايد أعداد خريجي تخصصات مثل إدارة الأعمال أو علم الاجتماع، مقابل نقص في خريجي تخصصات تقنية كالأمن السيبراني، أو المهن الصناعية مثل صيانة المعدات أو تصميم الأنظمة الميكانيكية. يضاف إلى ذلك أن تفضيل المجتمع للمسارات الأكاديمية النظرية جعل التعليم المهني والتقني أقل جاذبية، رغم أن الطلب على هذا النوع من الكفاءات آخذ بالتزايد. والنتيجة التي وصلنا إليها: آلاف الخريجين لا يجدون وظائف مناسبة، بينما يعاني القطاع الخاص كثيرا لملء شواغره في مجالات معينة.
وفيما يتعلق بالفجوة الكمية، فإنه حتى عندما تكون المهارات المطلوبة متوافرة، فإن حجم المعروض منها في السوق يكون أقل من المطلوب. فشركات قطاع تكنولوجيا المعلومات في الاردن، تبحث عن مبرمجين ذوي خبرة في لغات حديثة، وعن محللي بيانات قادرين على العمل على منصات متطورة ومحدّثة. لكن عدد المؤهلين بهذه المواصفات محدود، مما يؤدي إلى منافسة شديدة على القلة المتوافرة، وارتفاع رواتبهم، وهجرة بعضهم إلى الخارج.
أما بالنسبة الى فجوة الاستخدام فتحدث عندما يمتلك الأفراد المهارات الصحيحة لكنهم لا يستطيعون استخدامها. وهذه الحالة في الاردن تتجلى في مناطق الأطراف حيث قد يوجد مهندسون أو تقنيون، لكن الفرص في محافظاتهم شبه معدومة، والانتقال الى العاصمة للعمل فيها مكلف أو صعب، أو في حالة النساء اللواتي يمتلكن مؤهلات جيدة، لكنهن يواجهن عقبات مرتبطة برعاية الأطفال أو بيئة العمل غير الملائمة.
وبهدف فهم جذور فجوة المهارات، يجب النظر إلى بنية سوق العمل نفسه من الزوايا التالية:
(1) ازدواجية القطاعين العام والخاص: فالقطاع العام في الأردن كان لسنوات طويلة الوجهة المفضلة للباحثين عن عمل، لما يوفره من استقرار وضمانات اجتماعية. وهذا الأمر جعل الكثير من الشباب يؤجلون أو يرفضون فرصا للعمل في القطاع الخاص، منتظرين 'فرصة حكومية'. وكانت النتيجة: فائض عرض على الوظائف الحكومية، وانخفاض في الإقبال على وظائف خاصة قد تكون أكثر إنتاجية.
(2) اتساع القطاع غير المنظم: فالقطاع غير المنظم يشمل الأعمال التي لا تُسَجَل رسميا ولا توفر عقودا أو ضمانات اجتماعية. ويشكل هذا القطاع في الأردن نسبة ملحوظة من الاقتصاد، خاصة في مجالات مثل المشروعات الفردية الصغيرة، والخدمات الشخصية، والتجارة الالكترونية، والعمالة اليومية. وهذا القطاع يفتقر إلى التدريب الرسمي، مما يعيق تطوير المهارات على المدى البعيد.
(3) التوزيع الجغرافي غير المتكافئ: يتركز أكثر من نصف الأنشطة الاقتصادية عالية القيمة في عمّان. في حين ان المحافظات الأخرى، رغم غناها بالموارد البشرية، تفتقر إلى الاستثمارات والبنية التحتية التي تخلق وظائف نوعية. ويفاقم هذا التركز فجوة المهارات، لأن أصحاب المهارات في الأطراف لا يجدون وظائف تناسبهم، بينما أصحاب العمل في العاصمة لا يجدون الكفاءات المحلية.
(4) هيمنة قطاع الخدمات: يشكل قطاع الخدمات العمود الفقري للاقتصاد الأردني، مع حضور قوي للسياحة، والتعليم، والصحة، وتكنولوجيا المعلومات. لكن العديد من هذه المجالات يتطلب مزيجا من المهارات التقنية والمهارات الناعمة والتي غالبا تكون غير متوافرة لدى خريجي النظام التعليمي الحالي.
(5) فجوة التعليم المهني والتقني: ما يزال التعليم المهني والتقني دون المستوى المطلوب من حيث الجودة والانتشار. فكثير من مراكزه تفتقر إلى المعدات الحديثة أو المدربين المؤهلين، والاعتمادية من قبل مؤسسات دولية، مما يقلل من قدرته على سد فجوة المهارات.
(6) الديناميات الديموغرافية والهجرة: الأردن بلد شاب، حيث يشكل من هم دون سن الثلاثين نسبة كبيرة من السكان. ومع ذلك، فإن معدل مشاركة النساء في سوق العمل لا يتجاوز ربع المعدل العالمي تقريبا. كما أن وجود أعداد كبيرة من اللاجئين والعمال المهاجرين يؤثر على هيكل الأجور والمنافسة في بعض القطاعات.
إن فجوة المهارات في الاردن ليست وليدة الصدفة، بل تشكلت نتيجة وجود أسباب عديدة، منها: (1) اختلال المواءمة بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل بسبب وجود فجوة بين المناهج وواقع السوق (2) ضعف التدريب العملي في معظم المسارات التعليمية (3) غياب نظم الاعتماد (4) ضعف المعلومات السوقية التي تساعد على اتخاذ القرارات (5) قلة الحوافز للتدريب لدى الشركات الصغيرة والمتوسطة (6) عوائق غير مهارية تمنع استغلال المهارات المتوفرة.
مما لا شك فيه، فإن فجوة المهارات تؤثر بشكل سلبي على (1) الشباب، فمعدل البطالة بينهم من بين المعدلات الأعلى في المنطقة (2) النساء، إذ أن وجودهن في القطاعات عالية الأجر ما يزال ضعيفا (3) خريجي الجامعات، إذ توجد فجوة بين التخصصات المطروحة والطلب الفعلي (4) العمال ذوي المستوى المتدني من المهارة الذين يعملون في وظائف منخفضة الإنتاجية (5) اللاجئين الذين ما يزالون يمتلكون مهارات غير معترف بها رسميا (6) أصحاب الأعمال الصغيرة الذين يعانون من عدم القدرة على اجتذاب الكفاءات المؤهلة و / او الاحتفاظ بها (7) ذوي الإعاقة الذين يواجهون حواجز مادية وثقافية تمنع الاندماج.
ونتيجة ذلك كله، فإن هناك جوانب سلبية تترك أثرها على الاقتصاد الكلي وتتمثل في: (1) انخفاض مستوى الانتاجية (2) تفاوت الأجور واتساع الفجوة بين ذوي المهارات العالية والمنخفضة (3) تباطؤ عملية التحول الرقمي (4) ضعف القدرة التنافسية للاستثمار.
ومن أجل ردم هذه الفجوة، فإنه يوصى ب: (1) حوكمة المهارات من خلال إنشاء مجالس مهارات قطاعية فاعلة (الصناعة، الإنشاءات، السياحة، المالية... الخ) تضم ممثلي الشركات، ومزوّدي التدريب/الجامعات، والجهات الحكومية، لتحديد المعايير المهنية وتحديثها وربطها بالبرامج التعليمية (2) إصلاح التعليم والتدريب (3) تعزيز المشاركة الاقتصادية بين القطاعين العام والخاص (4) تفعيل نظام معلومات سوق العمل (5) تحفيز القطاع الخاص.
*رئيس ديوان الخدمة المدنية الأسبق / أمين عام رئاسة الوزراء الأسبق
د. هيثم علي حجازي*
يشكّل سوق العمل في أي دولة من الدول العمود الفقري للاقتصاد الوطني، إذ أنه يعكس مدى قدرة النظام التعليمي والتدريبي على إنتاج قوى عاملة مؤهلة، كما يعكس مدى قدرة الاقتصاد على استيعابها في وظائف منتجة. وفي الأردن، تتسم هذه المعادلة بتعقيد خاص، نتيجة تداخل عوامل اقتصادية وديموغرافية واجتماعية، مما أدى إلى بروز فجوة المهارات كأحد أبرز التحديات التنموية.
وفجوة المهارات، ببساطة، هي المسافة الفاصلة بين المهارات التي يمتلكها الأفراد وبين تلك المهارات التي يبحث عنها أصحاب العمل. وقد تكون هذه الفجوة نوعية، أي أن نوع المهارات غير مناسب، أو كمية، أي أن العدد المطلوب من أصحاب المهارات لا يكفي، أو حتى فجوة استخدام، عندما توجد المهارات لكن لا تُستغل لأسباب أخرى.
في الأردن، الأمر يتجاوز هذه التعريفات السابقة المبسطة، إذ أننا أمام ظاهرة هيكلية متجذرة في طريقة عمل الاقتصاد، وفي طبيعة سوق العمل، وفي السياسات التعليمية والتدريبية. لذلك، فإن معالجتها تتطلب فهما شاملا للواقع، واستراتيجية متكاملة تتوزع على مستويات قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى.
فالفجوة النوعية تظهر في الاردن عندما يتخرج الطلبة بمهارات لا يحتاجها السوق، أو لا تكفي وحدها لأداء الوظائف المطلوبة. وكمثال على ذلك: تزايد أعداد خريجي تخصصات مثل إدارة الأعمال أو علم الاجتماع، مقابل نقص في خريجي تخصصات تقنية كالأمن السيبراني، أو المهن الصناعية مثل صيانة المعدات أو تصميم الأنظمة الميكانيكية. يضاف إلى ذلك أن تفضيل المجتمع للمسارات الأكاديمية النظرية جعل التعليم المهني والتقني أقل جاذبية، رغم أن الطلب على هذا النوع من الكفاءات آخذ بالتزايد. والنتيجة التي وصلنا إليها: آلاف الخريجين لا يجدون وظائف مناسبة، بينما يعاني القطاع الخاص كثيرا لملء شواغره في مجالات معينة.
وفيما يتعلق بالفجوة الكمية، فإنه حتى عندما تكون المهارات المطلوبة متوافرة، فإن حجم المعروض منها في السوق يكون أقل من المطلوب. فشركات قطاع تكنولوجيا المعلومات في الاردن، تبحث عن مبرمجين ذوي خبرة في لغات حديثة، وعن محللي بيانات قادرين على العمل على منصات متطورة ومحدّثة. لكن عدد المؤهلين بهذه المواصفات محدود، مما يؤدي إلى منافسة شديدة على القلة المتوافرة، وارتفاع رواتبهم، وهجرة بعضهم إلى الخارج.
أما بالنسبة الى فجوة الاستخدام فتحدث عندما يمتلك الأفراد المهارات الصحيحة لكنهم لا يستطيعون استخدامها. وهذه الحالة في الاردن تتجلى في مناطق الأطراف حيث قد يوجد مهندسون أو تقنيون، لكن الفرص في محافظاتهم شبه معدومة، والانتقال الى العاصمة للعمل فيها مكلف أو صعب، أو في حالة النساء اللواتي يمتلكن مؤهلات جيدة، لكنهن يواجهن عقبات مرتبطة برعاية الأطفال أو بيئة العمل غير الملائمة.
وبهدف فهم جذور فجوة المهارات، يجب النظر إلى بنية سوق العمل نفسه من الزوايا التالية:
(1) ازدواجية القطاعين العام والخاص: فالقطاع العام في الأردن كان لسنوات طويلة الوجهة المفضلة للباحثين عن عمل، لما يوفره من استقرار وضمانات اجتماعية. وهذا الأمر جعل الكثير من الشباب يؤجلون أو يرفضون فرصا للعمل في القطاع الخاص، منتظرين 'فرصة حكومية'. وكانت النتيجة: فائض عرض على الوظائف الحكومية، وانخفاض في الإقبال على وظائف خاصة قد تكون أكثر إنتاجية.
(2) اتساع القطاع غير المنظم: فالقطاع غير المنظم يشمل الأعمال التي لا تُسَجَل رسميا ولا توفر عقودا أو ضمانات اجتماعية. ويشكل هذا القطاع في الأردن نسبة ملحوظة من الاقتصاد، خاصة في مجالات مثل المشروعات الفردية الصغيرة، والخدمات الشخصية، والتجارة الالكترونية، والعمالة اليومية. وهذا القطاع يفتقر إلى التدريب الرسمي، مما يعيق تطوير المهارات على المدى البعيد.
(3) التوزيع الجغرافي غير المتكافئ: يتركز أكثر من نصف الأنشطة الاقتصادية عالية القيمة في عمّان. في حين ان المحافظات الأخرى، رغم غناها بالموارد البشرية، تفتقر إلى الاستثمارات والبنية التحتية التي تخلق وظائف نوعية. ويفاقم هذا التركز فجوة المهارات، لأن أصحاب المهارات في الأطراف لا يجدون وظائف تناسبهم، بينما أصحاب العمل في العاصمة لا يجدون الكفاءات المحلية.
(4) هيمنة قطاع الخدمات: يشكل قطاع الخدمات العمود الفقري للاقتصاد الأردني، مع حضور قوي للسياحة، والتعليم، والصحة، وتكنولوجيا المعلومات. لكن العديد من هذه المجالات يتطلب مزيجا من المهارات التقنية والمهارات الناعمة والتي غالبا تكون غير متوافرة لدى خريجي النظام التعليمي الحالي.
(5) فجوة التعليم المهني والتقني: ما يزال التعليم المهني والتقني دون المستوى المطلوب من حيث الجودة والانتشار. فكثير من مراكزه تفتقر إلى المعدات الحديثة أو المدربين المؤهلين، والاعتمادية من قبل مؤسسات دولية، مما يقلل من قدرته على سد فجوة المهارات.
(6) الديناميات الديموغرافية والهجرة: الأردن بلد شاب، حيث يشكل من هم دون سن الثلاثين نسبة كبيرة من السكان. ومع ذلك، فإن معدل مشاركة النساء في سوق العمل لا يتجاوز ربع المعدل العالمي تقريبا. كما أن وجود أعداد كبيرة من اللاجئين والعمال المهاجرين يؤثر على هيكل الأجور والمنافسة في بعض القطاعات.
إن فجوة المهارات في الاردن ليست وليدة الصدفة، بل تشكلت نتيجة وجود أسباب عديدة، منها: (1) اختلال المواءمة بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل بسبب وجود فجوة بين المناهج وواقع السوق (2) ضعف التدريب العملي في معظم المسارات التعليمية (3) غياب نظم الاعتماد (4) ضعف المعلومات السوقية التي تساعد على اتخاذ القرارات (5) قلة الحوافز للتدريب لدى الشركات الصغيرة والمتوسطة (6) عوائق غير مهارية تمنع استغلال المهارات المتوفرة.
مما لا شك فيه، فإن فجوة المهارات تؤثر بشكل سلبي على (1) الشباب، فمعدل البطالة بينهم من بين المعدلات الأعلى في المنطقة (2) النساء، إذ أن وجودهن في القطاعات عالية الأجر ما يزال ضعيفا (3) خريجي الجامعات، إذ توجد فجوة بين التخصصات المطروحة والطلب الفعلي (4) العمال ذوي المستوى المتدني من المهارة الذين يعملون في وظائف منخفضة الإنتاجية (5) اللاجئين الذين ما يزالون يمتلكون مهارات غير معترف بها رسميا (6) أصحاب الأعمال الصغيرة الذين يعانون من عدم القدرة على اجتذاب الكفاءات المؤهلة و / او الاحتفاظ بها (7) ذوي الإعاقة الذين يواجهون حواجز مادية وثقافية تمنع الاندماج.
ونتيجة ذلك كله، فإن هناك جوانب سلبية تترك أثرها على الاقتصاد الكلي وتتمثل في: (1) انخفاض مستوى الانتاجية (2) تفاوت الأجور واتساع الفجوة بين ذوي المهارات العالية والمنخفضة (3) تباطؤ عملية التحول الرقمي (4) ضعف القدرة التنافسية للاستثمار.
ومن أجل ردم هذه الفجوة، فإنه يوصى ب: (1) حوكمة المهارات من خلال إنشاء مجالس مهارات قطاعية فاعلة (الصناعة، الإنشاءات، السياحة، المالية... الخ) تضم ممثلي الشركات، ومزوّدي التدريب/الجامعات، والجهات الحكومية، لتحديد المعايير المهنية وتحديثها وربطها بالبرامج التعليمية (2) إصلاح التعليم والتدريب (3) تعزيز المشاركة الاقتصادية بين القطاعين العام والخاص (4) تفعيل نظام معلومات سوق العمل (5) تحفيز القطاع الخاص.
*رئيس ديوان الخدمة المدنية الأسبق / أمين عام رئاسة الوزراء الأسبق
التعليقات