*بقلم د احمد عويدي العبادي ( أبو البشر ونمي )
هذه ليست جملةً إنشائيّة، بل خلاصةُ سردٍ متّصل يصنعه المكانُ نفسُه: جبالٌ وأوديةٌ أردنيّةٌ أنجبت مدينةً من صخرها، وربّتها قبائلُها جيلاً بعد جيل، فحملت أسماءها المحليّة وطقوسها وروحها، ولم تكن يومًا شجرةً اجتُثّت وجيءَ بها من وراء البحر.
من أقدم الطبقات التي تسبق التاريخَ المكتوب بزمنٍ طويل يلوح حوضُ البتراء جزءًا حيًّا من جغرافيا تعرف كيف تُسكن الصخر وتستدرج الماء. شواهد الاستيطان تمتد—بحسب قراءة المجال الوطني—إلى ما يزيد على أربعين ألف سنة قبل الميلاد، وتتضح معالمُ القرى الزراعية–الرعوية في العصر الحجري الحديث قبل الفخار (نحو 7200–6500 ق.م) في البيضاء وبَعْجة وبَسطة.
نحن إذن أمام استمراريةٍ سكنيّةٍ أقدم بألوف السنين من ظهور الجماعات الإسرائيلية التاريخيّة، تُؤسِّس لحقّ المكان بأهله الأردنيين لا لنصٍّ لاحقٍ يُسقط عليه قراءةً مؤوّلة.
وفي صدر هذه الاستمراريّة يطفو الاسمُ الحوريّ بوصفه أولَ عنوانٍ للقداسة والمعنى: «جبل حورون/حَوْرَن»—القمّة البيضاء جنوب غرب البتراء—كعبةُ الحوريين ومهوى طقوسهم وأيمانهم. لم يكن الاسمُ زخرفًا لفظيًّا، بل إعلانَ قداسةٍ أصيلةٍ تُثبّت نسبَ الجبل إلى أهله الأوائل.
ومع تعاقب الدول وتبدّل السلطات جاء العصرُ المملوكي، فشُيّدت قبّةٌ على الذروة ووُضِعت تسميةٌ وافدة من تراثهم الديني: «جبل هارون». لم تكن عودةً إلى اسمٍ قديم، بل إحلالَ تسميةٍ لاحقةٍ محلّ «حورون»، دالّةً على جهلٍ بتاريخ الموضع وطبقاتِ قداسته؛ إذ بقيت روحُ المكان أقدمَ من الاسم الجديد وأرسخ.
ثمّ انعقدت الحياةُ السياسيّة في جنوب الأردن من جديد على يد الأردنيين الأدوميين—وفق قراءة السلسلة الوطنيّة—منذ الألف الرابع قبل الميلاد؛ فبرزت بُصيرَا عاصمةً حصينة، وتجاورها «السِّلِع/السِّلا» موضعًا صخريًّا متقدّمًا، وتسامقت القلاعُ الشاهدة كقمة أمّ البيّارة حيث الصهاريجُ وحافاتُ الدفاع تنطق بخبرة جبلٍ يعرف أنّ البقاء يبدأ من قطرة ماءٍ مصونة.
في هذا المسرح كانت البتراء ملجأً أمينًا، خرائطُ أوديتها ومضائقُها لا تُفضي إلى قلبها إلا عبر دروبٍ متشعّبة موحشة لا يهتدي إليها إلا أهلُها، فلا يدخلها غريبٌ إلا بإذنٍ أو بحلفٍ أو بدلالةٍ محليّة.
على هذا، ظلّت البتراء خارج متناول كل طامع، وفي مقدّمتهم الإسرائيليون/اليهود. إنّ التيه وقع في سيناء أربعين سنة—﴿ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ (المائدة: 26)—ومحطّاته معلومة. وحين بلغ بنو إسرائيل حدودَ إدوم خاطب موسى—من قادش—ملكَ إدوم (حَدَد بن بَدَد في السلسلة الملكية)، ملتمسًا الإذنَ: «دعنا نمرُّ في أرضك… لا نميل إلى حقلٍ ولا كرمٍ ولا نشرب ماءَ بئر» . فجاء الادومي الجوابُ حاسمًا: «لا تمرّ بي»، مرفودًا بتهديد الردع «بشعبٍ كثير وبيدٍ شديدة»؛ فمال بنو إسرائيل عن الحدّ ولم يدخلوا أرضَ إدوم، ثم ارتحلوا «لِيَدُورُوا أَرْضَ أَدُوم»، أي التفافًا حول الإقليم لا عبورًا في داخله، وتعاملًا على التخوم بـ«شراء الطعام والماء بالنقود».
هذه النصوص تُجمع على أمرين: رُفضَ المرور صراحةً، وسلك القومُ التفافًا خارج المدن؛ فكيف يُقال إنهم بلغوا البتراء، وهي أبعدُ وأخفى وملاذٌ صخريٌّ سرّيٌّ لا يَنفذ إليه إلا ابنُ موضعه أو من دخل بعهدٍ نافذٍ ودليلٍ من أهله؟
وعلى خطٍّ موازٍ تظلّ «سِلا/السَّلَع»—وهي في أصلها «الشَّقُّ في الصخر»—اسمًا جارياً في اللسان الدينيّ التوراتيّ والجغرافيّ للدلالة على مواضع صخريةٍ عدّة في مملكة الأدوميين، وهي الأرض التي كانت من قبلُ مملكة الحوريين. وأقربُ مطابقةٍ ميدانيّةٍ لهذا الاسم هي «السِّلا» الملاصقة لبُصيرَا في لواء الطفيلة اليوم— وليس البتراء. ولا يزال اسمُها الحيّ إلى الآن «السِّلِع» (أي الشقُّ في الصخر/الصخرُ المُشقَّق، والمعنى واحد).
ولأنّ اللغات الأعجميّة لا تنطق العين، استُبدلت بالهمزة أو الألف الممدودة، فقيل «السَّلا» بدل «السَّلَع» على المكان نفسه. وقد رسّخت ترجماتٌ لاحقةٌ خلطًا بين «سِلا» بوصفها «الصخر» وبين «Petra» بوصفها «الصخرة» باليونانية، فتحوّلت الدلالةُ العامة إلى تحديدٍ مُصطنَع. أمّا الواقعُ التاريخيّ والطبوغرافيّ فصريح: «السِّلا» صخرٌ إدوميّ مجاورٌ لعاصمة إدوم—قرب بُصيرَا—بينما البتراء مجالٌ أوسعُ وأبعد، لا تُطابق أحداثَ تلك النصوص ولا كانت ساحةَ سيادةٍ لغير أهلها.
ثم جاءت ساعةُ الأنباط الأردنيين العرب (من القرن السادس/الخامس قبل الميلاد حتى 106م) فصنعوا في البتراء مدينةً تتكلّم لغةَ عصرها وتفكّر بعقل جبالها. استوعبوا قاموسَ الزخرفة الكلاسيكية—تيجانًا وإفاريزَ وأروقة—لكنهم صاغوه على ميزان الماء والظلّ والطريق:
قنواتٌ صخريّةٌ مغطّاة تقلّل الفاقد، صهاريجُ وسدودٌ صغيرةٌ تضبط السيل، شوارعُ ذاتُ أعمدةٍ تتبع خطَّ الوادي لا نسقًا مستورَدًا، وقدسُ أقداسٍ مشرقيُّ الروح يحفظ قلبَ العبادة من ضجيج الواجهة. إنّها هندسةٌ عربيّةٌ أردنيّةٌ ثموديّةُ الجذر في فضاء شمال الجزيرة وبلاد الشام، تُظهر تواصُلًا ثقافيًّا عميقًا لا ينقطع بتبدّل الأسماء والولاءات.
ولئن أعلنت الواجهاتُ انفتاحًا على عالم البحر المتوسّط، فإنّ جوفَ المدينة ظلَّ وفيًّا لهويّةٍ صاغتها الحوريّةُ الأولى، ثم رسّختها الإدوميةُ الحصينة، وبلغت ذروتَها النبطية.
وتزداد الحجّةُ إحكامًا إذا ما وُضعت نصوصُ «سِلا/السَّلَع» التوراتية في مواضعها الطبيعية: فـ «سِلا» في العبرية «الصخر/الجرف» على الإطلاق، واستُخدمت اسمَ مكانٍ لأكثر من موضعٍ صخريٍّ في إدوم، وحين تروي الأسفار أسرَ «سِلا» وتسميتها «يوقتئيل»، أو تقول «أرسلوا الخراف من سِلا…»، أو تخاطب «ساكني محاجئ الصخر»، فهي تتحرّك داخل نطاقٍ إدوميّ جبليّ شمال وادي عربة وعلى امتداد طريق الملك ،وليس في حوض البتراء النبطيّ اللاحق زمنًا ومكانًا. يزيد البيانَ وضوحًا أن «سِلا» في قضاة 1: 36 حدٌّ طبوغرافيّ («من عقبة العقارب إلى سِلا فصاعدًا») وليس اسمَ مدينةٍ بعينها، وأن «سِلاه» في المزامير إشارةٌ ٌ موسيقية لا موضعٌ جغرافيّ. وعليه، فأيُّ ربطٍ مباشرٍ بين «سِلا» الكتابية والبتراء إنما هو أثرُ ترجمةٍ حرفيّة لكلمة «الصخرة»، لا نتيجةُ تحقيقٍ علميٍّ للجغرافيا والتاريخ.
هكذا يكتمل الخيط من أوّل الاسم الحوريّ إلى الحصانة الإدومية إلى الذروة النبطية العربية: حوريون يضعون الاسم والقداسة، أدوميون يشيدون الحصون ويجعلون المكان ملاذًا لا يُنال، أنباطٌ عربٌ يرفعون العمارة إلى ذروةٍ تليق بملكة الطريق.
أمّا دعوى قربى دينيّة تُحاول احتكار البتراء باسم أسفارٍ مؤوّلة، فتسقط أمام بيّنة المكان: استيطانٌ ممتدّ—من أربعين ألف سنة قبل الميلاد حتى قرى النيوليت—وسلطانٌ إدوميّ واضح، وعاصمةٌ نبطيةٌ عربية صاغت اسم البتراء في ذاكرة العالم. وأمّا «جبل هارون» فاسمٌ مملوكيّ متأخّر أُلصق بقِمّةٍ كان اسمُها الأسبق «جبل حورون/حَوْرَن»، حيث أقام الحوريون كعبتَهم المحليّة؛ بقيت قداسةُ الموضع تصعد من طبقةٍ إلى طبقة فيما الأسماء تتبدّل بتبدّل الدول.
الخلاصة التي يطمئنّ إليها العلمُ والتاريخُ واللغةُ معًا: البتراء هويّةٌ أردنيّةٌ ثموديّةٌ عربيةٌ ضاربةٌ في عمق الزمن؛ لم يدخلها اليهود في أيّة مرحلةٍ قديمة، لأن الجغرافيا والسيادة والمنطق والنصوص كلَّها تدفع بالعكس. ومن رام أن يُلبس البتراء نصًّا غريبًا عنها، قالت له الجبال: إنّ الهوية تُصنع حيث سال الماءُ الأوّل، وحيث عُرفت الدروب، وحيث بقيت المدينةُ ملاذًا لا يبلغه إلا أهلُه.
*صفحة من كتابي مملكة الانباط الأردنية
*بقلم د احمد عويدي العبادي ( أبو البشر ونمي )
هذه ليست جملةً إنشائيّة، بل خلاصةُ سردٍ متّصل يصنعه المكانُ نفسُه: جبالٌ وأوديةٌ أردنيّةٌ أنجبت مدينةً من صخرها، وربّتها قبائلُها جيلاً بعد جيل، فحملت أسماءها المحليّة وطقوسها وروحها، ولم تكن يومًا شجرةً اجتُثّت وجيءَ بها من وراء البحر.
من أقدم الطبقات التي تسبق التاريخَ المكتوب بزمنٍ طويل يلوح حوضُ البتراء جزءًا حيًّا من جغرافيا تعرف كيف تُسكن الصخر وتستدرج الماء. شواهد الاستيطان تمتد—بحسب قراءة المجال الوطني—إلى ما يزيد على أربعين ألف سنة قبل الميلاد، وتتضح معالمُ القرى الزراعية–الرعوية في العصر الحجري الحديث قبل الفخار (نحو 7200–6500 ق.م) في البيضاء وبَعْجة وبَسطة.
نحن إذن أمام استمراريةٍ سكنيّةٍ أقدم بألوف السنين من ظهور الجماعات الإسرائيلية التاريخيّة، تُؤسِّس لحقّ المكان بأهله الأردنيين لا لنصٍّ لاحقٍ يُسقط عليه قراءةً مؤوّلة.
وفي صدر هذه الاستمراريّة يطفو الاسمُ الحوريّ بوصفه أولَ عنوانٍ للقداسة والمعنى: «جبل حورون/حَوْرَن»—القمّة البيضاء جنوب غرب البتراء—كعبةُ الحوريين ومهوى طقوسهم وأيمانهم. لم يكن الاسمُ زخرفًا لفظيًّا، بل إعلانَ قداسةٍ أصيلةٍ تُثبّت نسبَ الجبل إلى أهله الأوائل.
ومع تعاقب الدول وتبدّل السلطات جاء العصرُ المملوكي، فشُيّدت قبّةٌ على الذروة ووُضِعت تسميةٌ وافدة من تراثهم الديني: «جبل هارون». لم تكن عودةً إلى اسمٍ قديم، بل إحلالَ تسميةٍ لاحقةٍ محلّ «حورون»، دالّةً على جهلٍ بتاريخ الموضع وطبقاتِ قداسته؛ إذ بقيت روحُ المكان أقدمَ من الاسم الجديد وأرسخ.
ثمّ انعقدت الحياةُ السياسيّة في جنوب الأردن من جديد على يد الأردنيين الأدوميين—وفق قراءة السلسلة الوطنيّة—منذ الألف الرابع قبل الميلاد؛ فبرزت بُصيرَا عاصمةً حصينة، وتجاورها «السِّلِع/السِّلا» موضعًا صخريًّا متقدّمًا، وتسامقت القلاعُ الشاهدة كقمة أمّ البيّارة حيث الصهاريجُ وحافاتُ الدفاع تنطق بخبرة جبلٍ يعرف أنّ البقاء يبدأ من قطرة ماءٍ مصونة.
في هذا المسرح كانت البتراء ملجأً أمينًا، خرائطُ أوديتها ومضائقُها لا تُفضي إلى قلبها إلا عبر دروبٍ متشعّبة موحشة لا يهتدي إليها إلا أهلُها، فلا يدخلها غريبٌ إلا بإذنٍ أو بحلفٍ أو بدلالةٍ محليّة.
على هذا، ظلّت البتراء خارج متناول كل طامع، وفي مقدّمتهم الإسرائيليون/اليهود. إنّ التيه وقع في سيناء أربعين سنة—﴿ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ (المائدة: 26)—ومحطّاته معلومة. وحين بلغ بنو إسرائيل حدودَ إدوم خاطب موسى—من قادش—ملكَ إدوم (حَدَد بن بَدَد في السلسلة الملكية)، ملتمسًا الإذنَ: «دعنا نمرُّ في أرضك… لا نميل إلى حقلٍ ولا كرمٍ ولا نشرب ماءَ بئر» . فجاء الادومي الجوابُ حاسمًا: «لا تمرّ بي»، مرفودًا بتهديد الردع «بشعبٍ كثير وبيدٍ شديدة»؛ فمال بنو إسرائيل عن الحدّ ولم يدخلوا أرضَ إدوم، ثم ارتحلوا «لِيَدُورُوا أَرْضَ أَدُوم»، أي التفافًا حول الإقليم لا عبورًا في داخله، وتعاملًا على التخوم بـ«شراء الطعام والماء بالنقود».
هذه النصوص تُجمع على أمرين: رُفضَ المرور صراحةً، وسلك القومُ التفافًا خارج المدن؛ فكيف يُقال إنهم بلغوا البتراء، وهي أبعدُ وأخفى وملاذٌ صخريٌّ سرّيٌّ لا يَنفذ إليه إلا ابنُ موضعه أو من دخل بعهدٍ نافذٍ ودليلٍ من أهله؟
وعلى خطٍّ موازٍ تظلّ «سِلا/السَّلَع»—وهي في أصلها «الشَّقُّ في الصخر»—اسمًا جارياً في اللسان الدينيّ التوراتيّ والجغرافيّ للدلالة على مواضع صخريةٍ عدّة في مملكة الأدوميين، وهي الأرض التي كانت من قبلُ مملكة الحوريين. وأقربُ مطابقةٍ ميدانيّةٍ لهذا الاسم هي «السِّلا» الملاصقة لبُصيرَا في لواء الطفيلة اليوم— وليس البتراء. ولا يزال اسمُها الحيّ إلى الآن «السِّلِع» (أي الشقُّ في الصخر/الصخرُ المُشقَّق، والمعنى واحد).
ولأنّ اللغات الأعجميّة لا تنطق العين، استُبدلت بالهمزة أو الألف الممدودة، فقيل «السَّلا» بدل «السَّلَع» على المكان نفسه. وقد رسّخت ترجماتٌ لاحقةٌ خلطًا بين «سِلا» بوصفها «الصخر» وبين «Petra» بوصفها «الصخرة» باليونانية، فتحوّلت الدلالةُ العامة إلى تحديدٍ مُصطنَع. أمّا الواقعُ التاريخيّ والطبوغرافيّ فصريح: «السِّلا» صخرٌ إدوميّ مجاورٌ لعاصمة إدوم—قرب بُصيرَا—بينما البتراء مجالٌ أوسعُ وأبعد، لا تُطابق أحداثَ تلك النصوص ولا كانت ساحةَ سيادةٍ لغير أهلها.
ثم جاءت ساعةُ الأنباط الأردنيين العرب (من القرن السادس/الخامس قبل الميلاد حتى 106م) فصنعوا في البتراء مدينةً تتكلّم لغةَ عصرها وتفكّر بعقل جبالها. استوعبوا قاموسَ الزخرفة الكلاسيكية—تيجانًا وإفاريزَ وأروقة—لكنهم صاغوه على ميزان الماء والظلّ والطريق:
قنواتٌ صخريّةٌ مغطّاة تقلّل الفاقد، صهاريجُ وسدودٌ صغيرةٌ تضبط السيل، شوارعُ ذاتُ أعمدةٍ تتبع خطَّ الوادي لا نسقًا مستورَدًا، وقدسُ أقداسٍ مشرقيُّ الروح يحفظ قلبَ العبادة من ضجيج الواجهة. إنّها هندسةٌ عربيّةٌ أردنيّةٌ ثموديّةُ الجذر في فضاء شمال الجزيرة وبلاد الشام، تُظهر تواصُلًا ثقافيًّا عميقًا لا ينقطع بتبدّل الأسماء والولاءات.
ولئن أعلنت الواجهاتُ انفتاحًا على عالم البحر المتوسّط، فإنّ جوفَ المدينة ظلَّ وفيًّا لهويّةٍ صاغتها الحوريّةُ الأولى، ثم رسّختها الإدوميةُ الحصينة، وبلغت ذروتَها النبطية.
وتزداد الحجّةُ إحكامًا إذا ما وُضعت نصوصُ «سِلا/السَّلَع» التوراتية في مواضعها الطبيعية: فـ «سِلا» في العبرية «الصخر/الجرف» على الإطلاق، واستُخدمت اسمَ مكانٍ لأكثر من موضعٍ صخريٍّ في إدوم، وحين تروي الأسفار أسرَ «سِلا» وتسميتها «يوقتئيل»، أو تقول «أرسلوا الخراف من سِلا…»، أو تخاطب «ساكني محاجئ الصخر»، فهي تتحرّك داخل نطاقٍ إدوميّ جبليّ شمال وادي عربة وعلى امتداد طريق الملك ،وليس في حوض البتراء النبطيّ اللاحق زمنًا ومكانًا. يزيد البيانَ وضوحًا أن «سِلا» في قضاة 1: 36 حدٌّ طبوغرافيّ («من عقبة العقارب إلى سِلا فصاعدًا») وليس اسمَ مدينةٍ بعينها، وأن «سِلاه» في المزامير إشارةٌ ٌ موسيقية لا موضعٌ جغرافيّ. وعليه، فأيُّ ربطٍ مباشرٍ بين «سِلا» الكتابية والبتراء إنما هو أثرُ ترجمةٍ حرفيّة لكلمة «الصخرة»، لا نتيجةُ تحقيقٍ علميٍّ للجغرافيا والتاريخ.
هكذا يكتمل الخيط من أوّل الاسم الحوريّ إلى الحصانة الإدومية إلى الذروة النبطية العربية: حوريون يضعون الاسم والقداسة، أدوميون يشيدون الحصون ويجعلون المكان ملاذًا لا يُنال، أنباطٌ عربٌ يرفعون العمارة إلى ذروةٍ تليق بملكة الطريق.
أمّا دعوى قربى دينيّة تُحاول احتكار البتراء باسم أسفارٍ مؤوّلة، فتسقط أمام بيّنة المكان: استيطانٌ ممتدّ—من أربعين ألف سنة قبل الميلاد حتى قرى النيوليت—وسلطانٌ إدوميّ واضح، وعاصمةٌ نبطيةٌ عربية صاغت اسم البتراء في ذاكرة العالم. وأمّا «جبل هارون» فاسمٌ مملوكيّ متأخّر أُلصق بقِمّةٍ كان اسمُها الأسبق «جبل حورون/حَوْرَن»، حيث أقام الحوريون كعبتَهم المحليّة؛ بقيت قداسةُ الموضع تصعد من طبقةٍ إلى طبقة فيما الأسماء تتبدّل بتبدّل الدول.
الخلاصة التي يطمئنّ إليها العلمُ والتاريخُ واللغةُ معًا: البتراء هويّةٌ أردنيّةٌ ثموديّةٌ عربيةٌ ضاربةٌ في عمق الزمن؛ لم يدخلها اليهود في أيّة مرحلةٍ قديمة، لأن الجغرافيا والسيادة والمنطق والنصوص كلَّها تدفع بالعكس. ومن رام أن يُلبس البتراء نصًّا غريبًا عنها، قالت له الجبال: إنّ الهوية تُصنع حيث سال الماءُ الأوّل، وحيث عُرفت الدروب، وحيث بقيت المدينةُ ملاذًا لا يبلغه إلا أهلُه.
*صفحة من كتابي مملكة الانباط الأردنية
*بقلم د احمد عويدي العبادي ( أبو البشر ونمي )
هذه ليست جملةً إنشائيّة، بل خلاصةُ سردٍ متّصل يصنعه المكانُ نفسُه: جبالٌ وأوديةٌ أردنيّةٌ أنجبت مدينةً من صخرها، وربّتها قبائلُها جيلاً بعد جيل، فحملت أسماءها المحليّة وطقوسها وروحها، ولم تكن يومًا شجرةً اجتُثّت وجيءَ بها من وراء البحر.
من أقدم الطبقات التي تسبق التاريخَ المكتوب بزمنٍ طويل يلوح حوضُ البتراء جزءًا حيًّا من جغرافيا تعرف كيف تُسكن الصخر وتستدرج الماء. شواهد الاستيطان تمتد—بحسب قراءة المجال الوطني—إلى ما يزيد على أربعين ألف سنة قبل الميلاد، وتتضح معالمُ القرى الزراعية–الرعوية في العصر الحجري الحديث قبل الفخار (نحو 7200–6500 ق.م) في البيضاء وبَعْجة وبَسطة.
نحن إذن أمام استمراريةٍ سكنيّةٍ أقدم بألوف السنين من ظهور الجماعات الإسرائيلية التاريخيّة، تُؤسِّس لحقّ المكان بأهله الأردنيين لا لنصٍّ لاحقٍ يُسقط عليه قراءةً مؤوّلة.
وفي صدر هذه الاستمراريّة يطفو الاسمُ الحوريّ بوصفه أولَ عنوانٍ للقداسة والمعنى: «جبل حورون/حَوْرَن»—القمّة البيضاء جنوب غرب البتراء—كعبةُ الحوريين ومهوى طقوسهم وأيمانهم. لم يكن الاسمُ زخرفًا لفظيًّا، بل إعلانَ قداسةٍ أصيلةٍ تُثبّت نسبَ الجبل إلى أهله الأوائل.
ومع تعاقب الدول وتبدّل السلطات جاء العصرُ المملوكي، فشُيّدت قبّةٌ على الذروة ووُضِعت تسميةٌ وافدة من تراثهم الديني: «جبل هارون». لم تكن عودةً إلى اسمٍ قديم، بل إحلالَ تسميةٍ لاحقةٍ محلّ «حورون»، دالّةً على جهلٍ بتاريخ الموضع وطبقاتِ قداسته؛ إذ بقيت روحُ المكان أقدمَ من الاسم الجديد وأرسخ.
ثمّ انعقدت الحياةُ السياسيّة في جنوب الأردن من جديد على يد الأردنيين الأدوميين—وفق قراءة السلسلة الوطنيّة—منذ الألف الرابع قبل الميلاد؛ فبرزت بُصيرَا عاصمةً حصينة، وتجاورها «السِّلِع/السِّلا» موضعًا صخريًّا متقدّمًا، وتسامقت القلاعُ الشاهدة كقمة أمّ البيّارة حيث الصهاريجُ وحافاتُ الدفاع تنطق بخبرة جبلٍ يعرف أنّ البقاء يبدأ من قطرة ماءٍ مصونة.
في هذا المسرح كانت البتراء ملجأً أمينًا، خرائطُ أوديتها ومضائقُها لا تُفضي إلى قلبها إلا عبر دروبٍ متشعّبة موحشة لا يهتدي إليها إلا أهلُها، فلا يدخلها غريبٌ إلا بإذنٍ أو بحلفٍ أو بدلالةٍ محليّة.
على هذا، ظلّت البتراء خارج متناول كل طامع، وفي مقدّمتهم الإسرائيليون/اليهود. إنّ التيه وقع في سيناء أربعين سنة—﴿ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ (المائدة: 26)—ومحطّاته معلومة. وحين بلغ بنو إسرائيل حدودَ إدوم خاطب موسى—من قادش—ملكَ إدوم (حَدَد بن بَدَد في السلسلة الملكية)، ملتمسًا الإذنَ: «دعنا نمرُّ في أرضك… لا نميل إلى حقلٍ ولا كرمٍ ولا نشرب ماءَ بئر» . فجاء الادومي الجوابُ حاسمًا: «لا تمرّ بي»، مرفودًا بتهديد الردع «بشعبٍ كثير وبيدٍ شديدة»؛ فمال بنو إسرائيل عن الحدّ ولم يدخلوا أرضَ إدوم، ثم ارتحلوا «لِيَدُورُوا أَرْضَ أَدُوم»، أي التفافًا حول الإقليم لا عبورًا في داخله، وتعاملًا على التخوم بـ«شراء الطعام والماء بالنقود».
هذه النصوص تُجمع على أمرين: رُفضَ المرور صراحةً، وسلك القومُ التفافًا خارج المدن؛ فكيف يُقال إنهم بلغوا البتراء، وهي أبعدُ وأخفى وملاذٌ صخريٌّ سرّيٌّ لا يَنفذ إليه إلا ابنُ موضعه أو من دخل بعهدٍ نافذٍ ودليلٍ من أهله؟
وعلى خطٍّ موازٍ تظلّ «سِلا/السَّلَع»—وهي في أصلها «الشَّقُّ في الصخر»—اسمًا جارياً في اللسان الدينيّ التوراتيّ والجغرافيّ للدلالة على مواضع صخريةٍ عدّة في مملكة الأدوميين، وهي الأرض التي كانت من قبلُ مملكة الحوريين. وأقربُ مطابقةٍ ميدانيّةٍ لهذا الاسم هي «السِّلا» الملاصقة لبُصيرَا في لواء الطفيلة اليوم— وليس البتراء. ولا يزال اسمُها الحيّ إلى الآن «السِّلِع» (أي الشقُّ في الصخر/الصخرُ المُشقَّق، والمعنى واحد).
ولأنّ اللغات الأعجميّة لا تنطق العين، استُبدلت بالهمزة أو الألف الممدودة، فقيل «السَّلا» بدل «السَّلَع» على المكان نفسه. وقد رسّخت ترجماتٌ لاحقةٌ خلطًا بين «سِلا» بوصفها «الصخر» وبين «Petra» بوصفها «الصخرة» باليونانية، فتحوّلت الدلالةُ العامة إلى تحديدٍ مُصطنَع. أمّا الواقعُ التاريخيّ والطبوغرافيّ فصريح: «السِّلا» صخرٌ إدوميّ مجاورٌ لعاصمة إدوم—قرب بُصيرَا—بينما البتراء مجالٌ أوسعُ وأبعد، لا تُطابق أحداثَ تلك النصوص ولا كانت ساحةَ سيادةٍ لغير أهلها.
ثم جاءت ساعةُ الأنباط الأردنيين العرب (من القرن السادس/الخامس قبل الميلاد حتى 106م) فصنعوا في البتراء مدينةً تتكلّم لغةَ عصرها وتفكّر بعقل جبالها. استوعبوا قاموسَ الزخرفة الكلاسيكية—تيجانًا وإفاريزَ وأروقة—لكنهم صاغوه على ميزان الماء والظلّ والطريق:
قنواتٌ صخريّةٌ مغطّاة تقلّل الفاقد، صهاريجُ وسدودٌ صغيرةٌ تضبط السيل، شوارعُ ذاتُ أعمدةٍ تتبع خطَّ الوادي لا نسقًا مستورَدًا، وقدسُ أقداسٍ مشرقيُّ الروح يحفظ قلبَ العبادة من ضجيج الواجهة. إنّها هندسةٌ عربيّةٌ أردنيّةٌ ثموديّةُ الجذر في فضاء شمال الجزيرة وبلاد الشام، تُظهر تواصُلًا ثقافيًّا عميقًا لا ينقطع بتبدّل الأسماء والولاءات.
ولئن أعلنت الواجهاتُ انفتاحًا على عالم البحر المتوسّط، فإنّ جوفَ المدينة ظلَّ وفيًّا لهويّةٍ صاغتها الحوريّةُ الأولى، ثم رسّختها الإدوميةُ الحصينة، وبلغت ذروتَها النبطية.
وتزداد الحجّةُ إحكامًا إذا ما وُضعت نصوصُ «سِلا/السَّلَع» التوراتية في مواضعها الطبيعية: فـ «سِلا» في العبرية «الصخر/الجرف» على الإطلاق، واستُخدمت اسمَ مكانٍ لأكثر من موضعٍ صخريٍّ في إدوم، وحين تروي الأسفار أسرَ «سِلا» وتسميتها «يوقتئيل»، أو تقول «أرسلوا الخراف من سِلا…»، أو تخاطب «ساكني محاجئ الصخر»، فهي تتحرّك داخل نطاقٍ إدوميّ جبليّ شمال وادي عربة وعلى امتداد طريق الملك ،وليس في حوض البتراء النبطيّ اللاحق زمنًا ومكانًا. يزيد البيانَ وضوحًا أن «سِلا» في قضاة 1: 36 حدٌّ طبوغرافيّ («من عقبة العقارب إلى سِلا فصاعدًا») وليس اسمَ مدينةٍ بعينها، وأن «سِلاه» في المزامير إشارةٌ ٌ موسيقية لا موضعٌ جغرافيّ. وعليه، فأيُّ ربطٍ مباشرٍ بين «سِلا» الكتابية والبتراء إنما هو أثرُ ترجمةٍ حرفيّة لكلمة «الصخرة»، لا نتيجةُ تحقيقٍ علميٍّ للجغرافيا والتاريخ.
هكذا يكتمل الخيط من أوّل الاسم الحوريّ إلى الحصانة الإدومية إلى الذروة النبطية العربية: حوريون يضعون الاسم والقداسة، أدوميون يشيدون الحصون ويجعلون المكان ملاذًا لا يُنال، أنباطٌ عربٌ يرفعون العمارة إلى ذروةٍ تليق بملكة الطريق.
أمّا دعوى قربى دينيّة تُحاول احتكار البتراء باسم أسفارٍ مؤوّلة، فتسقط أمام بيّنة المكان: استيطانٌ ممتدّ—من أربعين ألف سنة قبل الميلاد حتى قرى النيوليت—وسلطانٌ إدوميّ واضح، وعاصمةٌ نبطيةٌ عربية صاغت اسم البتراء في ذاكرة العالم. وأمّا «جبل هارون» فاسمٌ مملوكيّ متأخّر أُلصق بقِمّةٍ كان اسمُها الأسبق «جبل حورون/حَوْرَن»، حيث أقام الحوريون كعبتَهم المحليّة؛ بقيت قداسةُ الموضع تصعد من طبقةٍ إلى طبقة فيما الأسماء تتبدّل بتبدّل الدول.
الخلاصة التي يطمئنّ إليها العلمُ والتاريخُ واللغةُ معًا: البتراء هويّةٌ أردنيّةٌ ثموديّةٌ عربيةٌ ضاربةٌ في عمق الزمن؛ لم يدخلها اليهود في أيّة مرحلةٍ قديمة، لأن الجغرافيا والسيادة والمنطق والنصوص كلَّها تدفع بالعكس. ومن رام أن يُلبس البتراء نصًّا غريبًا عنها، قالت له الجبال: إنّ الهوية تُصنع حيث سال الماءُ الأوّل، وحيث عُرفت الدروب، وحيث بقيت المدينةُ ملاذًا لا يبلغه إلا أهلُه.
*صفحة من كتابي مملكة الانباط الأردنية
التعليقات