يواجه القطاع العام الأردني تحديات كبيرة تتعلق بتحقيق الكفاءة والفاعلية في تقديم الخدمات العامة ضمن بيئة اقتصادية ومالية معقدة. فمع محدودية الموارد المالية وارتفاع سقف تطلعات المواطنين، أصبح لزاماً على مؤسسات الدولة البحث عن أساليب إدارة أكثر ابتكاراً وموضوعية. وفي هذا الإطار، تبرز الإدارة المستندة إلى الأدلة (Evidence-Based Management) كأحد أهم النماذج الحديثة التي يمكن أن تسهم في تحسين الأداء الحكومي بشكل ملموس، كونها تركز على اتخاذ القرارات بالاستناد إلى بيانات دقيقة ونتائج علمية مثبتة، بدلاً من القرارات المبنية على الانطباعات الشخصية أو الاعتبارات السياسية قصيرة المدى.
والإدارة المستندة إلى الأدلة هي منهج إداري يقوم على جمع وتحليل أفضل المعلومات المتاحة من مصادر موثوقة، واستخدامها كأساس لصياغة القرارات والسياسات العامة. ولا يعتمد هذا النهج فقط على البيانات الرقمية، بل يشمل كذلك الأبحاث العلمية، والخبرات السابقة، وتجارب الدول الأخرى، وآراء الخبراء. ويتمحور حول عدة خطوات رئيسية تتمثل في: (1) جمع البيانات بشكل منهجي من مصادر رسمية وغير رسمية (2) تحليل المعلومات باستخدام أدوات علمية دقيقة مثل التحليل الإحصائي والنمذجة التنبؤية (3) تقييم البدائل المتاحة واختيار الأنسب منها بناءً على مؤشرات موضوعية (4) التنفيذ والمتابعة من خلال قياس الأداء بشكل دوري (5) التعلم المؤسسي عبر الاستفادة من النجاحات والإخفاقات لتطوير السياسات المستقبلية.
تتضاعف أهمية الإدارة المستندة إلى الأدلة في الأردن بالنظر إلى حجم التحديات الاقتصادية والإدارية التي تواجهها الدولة. إذ يمكن لهذا النهج أن يسهم في: (1) تحسين جودة القرارات الحكومية عبر تقليل التدخلات غير الموضوعية والحد من القرارات الارتجالية (2) رفع كفاءة استخدام الموارد العامة من خلال توجيه الإنفاق نحو البرامج والسياسات الأكثر فاعلية (3) تعزيز الشفافية والمساءلة لأن القرارات تكون قائمة على أسس علمية واضحة يمكن تتبعها وتقييمها (4) زيادة ثقة المواطنين وذلك بفضل وضوح الأسس التي تُبنى عليها السياسات العامة وجودة الخدمات الناتجة عنها. هناك العديد من الفوائد التي يمكن أن يحققها تبني الإدارة المستندة إلى الأدلة في القطاع العام الأردني منها: (1) تحقيق نتائج ملموسة للسياسات العامة حيث يسهل التمييز بين البرامج الناجحة وغير الفاعلة (2) ترشيد الموارد المالية من خلال التخلص من الهدر في المشروعات التي لا تحقق العائد المتوقع (3) دعم الابتكار الحكومي لأن التحليل المستمر للبيانات يكشف عن فرص جديدة لتحسين الخدمات العامة (4) تعزيز ثقافة التقييم مما يدفع المؤسسات الحكومية إلى مراجعة أدائها باستمرار (5) رفع مستوى رضا المواطنين نتيجة جودة الخدمات وملاءمتها لاحتياجاتهم الحقيقية.
ومما يجب الاعتراف به أن هناك بعض قصص النجاح الأردنية في هذا السياق، والتي استطاعت أن تحقق نجاحا ملموسا أدى إلى تحسين مستوى الخدمات المقدمة الى المواطنين، وإنْ كانت تلك النجاحات محدودة. ومن ذلك برنامج التحول الرقمي في دائرة الأحوال المدنية والجوازات. فمن خلال الاعتماد على بيانات دقيقة لقياس حجم المراجعين واحتياجاتهم، تمكنت الدائرة في الآونة الأخيرة من أتمتة العديد من خدماتها وتقليل فترة إنجاز المعاملات بنسبة تجاوزت أكثر من 60% مما انعكس على رضا المواطنين. وهناك مثال آخر تمثل في وزارة الصحة الأردنية وبرنامج 'حصاد البيانات' أثناء جائحة كورونا. فقد استطاعت الوزارة خلال عامي 2020-2021 الاعتماد على نظم إلكترونية متكاملة لتتبع أعداد الإصابات، ومعدلات إشغال المستشفيات، وحاجات المحافظات من الموارد الطبية. وقد مكّن هذا النهج المستند إلى البيانات الوزارة من توزيع الموارد بشكل عادل وفاعل، وتقليل الضغط على المستشفيات. ومقابل هذين النجاحين، أخفقت بعض برامج التشغيل الوطني للشباب. فقد فشلت بعض المبادرات في تحقيق أهدافها بسبب غياب قاعدة بيانات شاملة عن سوق العمل واحتياجات القطاعات الاقتصادية، مما أدى إلى برامج توظيف قصيرة الأمد لا تستند إلى أدلة دقيقة.
ولعل النظر الى التجربة البريطانية في هيئة الخدمات الصحية الوطنية (NHS) يقدم مثالا آخر على أهمية الإدارة المستندة الى الأدلة. فقد اعتمدت الهيئة على قاعدة بيانات متقدمة لتحسين جدولة العمليات الجراحية، وتقليل أوقات الانتظار في المستشفيات بنسبة ملحوظة. وفي سنغافورة طبقت الحكومة منظومة بيانات متكاملة تربط جميع مؤسسات الدولة، مما مكنها من اتخاذ قرارات تنموية دقيقة، مثل توجيه الاستثمارات في البنية التحتية بناءً على تحليلات سكانية واقتصادية دقيقة.
رغم نجاح بعض التجارب في الأردن، فإن التوسع في تطبيقها ما يزال يواجه تحديات متعددة تتمثل في: (1) ضعف البنية التحتية للبيانات. فالعديد العديد من المؤسسات الحكومية ما تزال تفتقر إلى قواعد بيانات شاملة ومحدثة (2) محدودية القدرات البشرية المؤهلة، حيث يوجد نقص في الخبراء القادرين على تحليل البيانات بشكل احترافي (3) مقاومة التغيير، فبعض القيادات الإدارية قد ترى في هذا النهج تهديداً لنفوذها التقليدي (4) التكاليف المادية والزمنية، فتطبيق الإدارة المستندة الى الأدلة وبناء أنظمة متطورة لجمع وتحليل البيانات ينطلب استثمارات مالية وجهداً زمنياً كبيراً (5) خطر الاعتماد المفرط على الأرقام، إذ تؤدي المقاييس الكمية إلى إغفال الأبعاد الاجتماعية والثقافية التي لا يمكن قياسها بسهولة.
سبل تعزيز الإدارة المستندة إلى الأدلة في الأردن لتجاوز التحديات السابقة، يمكن تبني مجموعة من الإجراءات العملية، منها (1) إنشاء قاعدة بيانات وطنية شاملة ومحدثة تتيح الوصول إلى المعلومات بشكل فوري ودقيق (2) بناء القدرات المؤسسية والبشرية عبر تدريب الموظفين الحكوميين وصنّاع القرار على مهارات تحليل البيانات (3) تعزيز التعاون مع الجامعات ومراكز البحث العلمي لتوفير الدراسات التي تدعم القرارات الحكومية (4) سن تشريعات تنظيمية تفرض الالتزام بهذا النهج عند إعداد وتنفيذ السياسات العامة (5) تبني ثقافة التقييم المستمر لضمان التحسين الدائم في الأداء المؤسسي والخدمات المقدمة للمواطنين.
انعكاسات النهج على المستقبل يمكن أن يشكل تبني الإدارة المستندة إلى الأدلة نقطة تحول في مسيرة القطاع العام الأردني. إذ سيسهم في بناء مؤسسات حكومية أكثر كفاءة ومرونة، وتكون قادرة على الاستجابة لتحديات التنمية الاقتصادية والاجتماعية بشكل أفضل. كما سيوفر بيئة أكثر شفافية ومساءلة، الأمر الذي يعزز ثقة المواطن بالدولة، ويزيد من رضا المجتمع عن الخدمات المقدمة.
أخيرا، يجب التأكيد أنه في ظل التحديات التي يواجهها الأردن على المستويات الاقتصادية والاجتماعية، تبرز الإدارة المستندة إلى الأدلة كخيار استراتيجي لا غنى عنه لتطوير أداء القطاع العام. وتثبت الأمثلة المحلية والدولية أن هذا النهج قادر على تحقيق تحولات ملموسة إذا ما تم تطبيقه بشكل منهجي ومدروس. وعلى الرغم من وجود عقبات تتعلق بالبنية التحتية والموارد البشرية، فإن الاستثمار في هذا النهج سيؤدي على المدى الطويل إلى تحقيق كفاءة أكبر في استخدام الموارد وتحسين جودة الخدمات العامة. إن اعتماد هذا النموذج يمثل خطوة نحو قطاع عام أكثر استدامة وفاعلية، ويكون قادرا على مواكبة المتغيرات وتلبية احتياجات المواطنين بكفاءة عالية.
د. هيثم علي حجازي
يواجه القطاع العام الأردني تحديات كبيرة تتعلق بتحقيق الكفاءة والفاعلية في تقديم الخدمات العامة ضمن بيئة اقتصادية ومالية معقدة. فمع محدودية الموارد المالية وارتفاع سقف تطلعات المواطنين، أصبح لزاماً على مؤسسات الدولة البحث عن أساليب إدارة أكثر ابتكاراً وموضوعية. وفي هذا الإطار، تبرز الإدارة المستندة إلى الأدلة (Evidence-Based Management) كأحد أهم النماذج الحديثة التي يمكن أن تسهم في تحسين الأداء الحكومي بشكل ملموس، كونها تركز على اتخاذ القرارات بالاستناد إلى بيانات دقيقة ونتائج علمية مثبتة، بدلاً من القرارات المبنية على الانطباعات الشخصية أو الاعتبارات السياسية قصيرة المدى.
والإدارة المستندة إلى الأدلة هي منهج إداري يقوم على جمع وتحليل أفضل المعلومات المتاحة من مصادر موثوقة، واستخدامها كأساس لصياغة القرارات والسياسات العامة. ولا يعتمد هذا النهج فقط على البيانات الرقمية، بل يشمل كذلك الأبحاث العلمية، والخبرات السابقة، وتجارب الدول الأخرى، وآراء الخبراء. ويتمحور حول عدة خطوات رئيسية تتمثل في: (1) جمع البيانات بشكل منهجي من مصادر رسمية وغير رسمية (2) تحليل المعلومات باستخدام أدوات علمية دقيقة مثل التحليل الإحصائي والنمذجة التنبؤية (3) تقييم البدائل المتاحة واختيار الأنسب منها بناءً على مؤشرات موضوعية (4) التنفيذ والمتابعة من خلال قياس الأداء بشكل دوري (5) التعلم المؤسسي عبر الاستفادة من النجاحات والإخفاقات لتطوير السياسات المستقبلية.
تتضاعف أهمية الإدارة المستندة إلى الأدلة في الأردن بالنظر إلى حجم التحديات الاقتصادية والإدارية التي تواجهها الدولة. إذ يمكن لهذا النهج أن يسهم في: (1) تحسين جودة القرارات الحكومية عبر تقليل التدخلات غير الموضوعية والحد من القرارات الارتجالية (2) رفع كفاءة استخدام الموارد العامة من خلال توجيه الإنفاق نحو البرامج والسياسات الأكثر فاعلية (3) تعزيز الشفافية والمساءلة لأن القرارات تكون قائمة على أسس علمية واضحة يمكن تتبعها وتقييمها (4) زيادة ثقة المواطنين وذلك بفضل وضوح الأسس التي تُبنى عليها السياسات العامة وجودة الخدمات الناتجة عنها. هناك العديد من الفوائد التي يمكن أن يحققها تبني الإدارة المستندة إلى الأدلة في القطاع العام الأردني منها: (1) تحقيق نتائج ملموسة للسياسات العامة حيث يسهل التمييز بين البرامج الناجحة وغير الفاعلة (2) ترشيد الموارد المالية من خلال التخلص من الهدر في المشروعات التي لا تحقق العائد المتوقع (3) دعم الابتكار الحكومي لأن التحليل المستمر للبيانات يكشف عن فرص جديدة لتحسين الخدمات العامة (4) تعزيز ثقافة التقييم مما يدفع المؤسسات الحكومية إلى مراجعة أدائها باستمرار (5) رفع مستوى رضا المواطنين نتيجة جودة الخدمات وملاءمتها لاحتياجاتهم الحقيقية.
ومما يجب الاعتراف به أن هناك بعض قصص النجاح الأردنية في هذا السياق، والتي استطاعت أن تحقق نجاحا ملموسا أدى إلى تحسين مستوى الخدمات المقدمة الى المواطنين، وإنْ كانت تلك النجاحات محدودة. ومن ذلك برنامج التحول الرقمي في دائرة الأحوال المدنية والجوازات. فمن خلال الاعتماد على بيانات دقيقة لقياس حجم المراجعين واحتياجاتهم، تمكنت الدائرة في الآونة الأخيرة من أتمتة العديد من خدماتها وتقليل فترة إنجاز المعاملات بنسبة تجاوزت أكثر من 60% مما انعكس على رضا المواطنين. وهناك مثال آخر تمثل في وزارة الصحة الأردنية وبرنامج 'حصاد البيانات' أثناء جائحة كورونا. فقد استطاعت الوزارة خلال عامي 2020-2021 الاعتماد على نظم إلكترونية متكاملة لتتبع أعداد الإصابات، ومعدلات إشغال المستشفيات، وحاجات المحافظات من الموارد الطبية. وقد مكّن هذا النهج المستند إلى البيانات الوزارة من توزيع الموارد بشكل عادل وفاعل، وتقليل الضغط على المستشفيات. ومقابل هذين النجاحين، أخفقت بعض برامج التشغيل الوطني للشباب. فقد فشلت بعض المبادرات في تحقيق أهدافها بسبب غياب قاعدة بيانات شاملة عن سوق العمل واحتياجات القطاعات الاقتصادية، مما أدى إلى برامج توظيف قصيرة الأمد لا تستند إلى أدلة دقيقة.
ولعل النظر الى التجربة البريطانية في هيئة الخدمات الصحية الوطنية (NHS) يقدم مثالا آخر على أهمية الإدارة المستندة الى الأدلة. فقد اعتمدت الهيئة على قاعدة بيانات متقدمة لتحسين جدولة العمليات الجراحية، وتقليل أوقات الانتظار في المستشفيات بنسبة ملحوظة. وفي سنغافورة طبقت الحكومة منظومة بيانات متكاملة تربط جميع مؤسسات الدولة، مما مكنها من اتخاذ قرارات تنموية دقيقة، مثل توجيه الاستثمارات في البنية التحتية بناءً على تحليلات سكانية واقتصادية دقيقة.
رغم نجاح بعض التجارب في الأردن، فإن التوسع في تطبيقها ما يزال يواجه تحديات متعددة تتمثل في: (1) ضعف البنية التحتية للبيانات. فالعديد العديد من المؤسسات الحكومية ما تزال تفتقر إلى قواعد بيانات شاملة ومحدثة (2) محدودية القدرات البشرية المؤهلة، حيث يوجد نقص في الخبراء القادرين على تحليل البيانات بشكل احترافي (3) مقاومة التغيير، فبعض القيادات الإدارية قد ترى في هذا النهج تهديداً لنفوذها التقليدي (4) التكاليف المادية والزمنية، فتطبيق الإدارة المستندة الى الأدلة وبناء أنظمة متطورة لجمع وتحليل البيانات ينطلب استثمارات مالية وجهداً زمنياً كبيراً (5) خطر الاعتماد المفرط على الأرقام، إذ تؤدي المقاييس الكمية إلى إغفال الأبعاد الاجتماعية والثقافية التي لا يمكن قياسها بسهولة.
سبل تعزيز الإدارة المستندة إلى الأدلة في الأردن لتجاوز التحديات السابقة، يمكن تبني مجموعة من الإجراءات العملية، منها (1) إنشاء قاعدة بيانات وطنية شاملة ومحدثة تتيح الوصول إلى المعلومات بشكل فوري ودقيق (2) بناء القدرات المؤسسية والبشرية عبر تدريب الموظفين الحكوميين وصنّاع القرار على مهارات تحليل البيانات (3) تعزيز التعاون مع الجامعات ومراكز البحث العلمي لتوفير الدراسات التي تدعم القرارات الحكومية (4) سن تشريعات تنظيمية تفرض الالتزام بهذا النهج عند إعداد وتنفيذ السياسات العامة (5) تبني ثقافة التقييم المستمر لضمان التحسين الدائم في الأداء المؤسسي والخدمات المقدمة للمواطنين.
انعكاسات النهج على المستقبل يمكن أن يشكل تبني الإدارة المستندة إلى الأدلة نقطة تحول في مسيرة القطاع العام الأردني. إذ سيسهم في بناء مؤسسات حكومية أكثر كفاءة ومرونة، وتكون قادرة على الاستجابة لتحديات التنمية الاقتصادية والاجتماعية بشكل أفضل. كما سيوفر بيئة أكثر شفافية ومساءلة، الأمر الذي يعزز ثقة المواطن بالدولة، ويزيد من رضا المجتمع عن الخدمات المقدمة.
أخيرا، يجب التأكيد أنه في ظل التحديات التي يواجهها الأردن على المستويات الاقتصادية والاجتماعية، تبرز الإدارة المستندة إلى الأدلة كخيار استراتيجي لا غنى عنه لتطوير أداء القطاع العام. وتثبت الأمثلة المحلية والدولية أن هذا النهج قادر على تحقيق تحولات ملموسة إذا ما تم تطبيقه بشكل منهجي ومدروس. وعلى الرغم من وجود عقبات تتعلق بالبنية التحتية والموارد البشرية، فإن الاستثمار في هذا النهج سيؤدي على المدى الطويل إلى تحقيق كفاءة أكبر في استخدام الموارد وتحسين جودة الخدمات العامة. إن اعتماد هذا النموذج يمثل خطوة نحو قطاع عام أكثر استدامة وفاعلية، ويكون قادرا على مواكبة المتغيرات وتلبية احتياجات المواطنين بكفاءة عالية.
د. هيثم علي حجازي
يواجه القطاع العام الأردني تحديات كبيرة تتعلق بتحقيق الكفاءة والفاعلية في تقديم الخدمات العامة ضمن بيئة اقتصادية ومالية معقدة. فمع محدودية الموارد المالية وارتفاع سقف تطلعات المواطنين، أصبح لزاماً على مؤسسات الدولة البحث عن أساليب إدارة أكثر ابتكاراً وموضوعية. وفي هذا الإطار، تبرز الإدارة المستندة إلى الأدلة (Evidence-Based Management) كأحد أهم النماذج الحديثة التي يمكن أن تسهم في تحسين الأداء الحكومي بشكل ملموس، كونها تركز على اتخاذ القرارات بالاستناد إلى بيانات دقيقة ونتائج علمية مثبتة، بدلاً من القرارات المبنية على الانطباعات الشخصية أو الاعتبارات السياسية قصيرة المدى.
والإدارة المستندة إلى الأدلة هي منهج إداري يقوم على جمع وتحليل أفضل المعلومات المتاحة من مصادر موثوقة، واستخدامها كأساس لصياغة القرارات والسياسات العامة. ولا يعتمد هذا النهج فقط على البيانات الرقمية، بل يشمل كذلك الأبحاث العلمية، والخبرات السابقة، وتجارب الدول الأخرى، وآراء الخبراء. ويتمحور حول عدة خطوات رئيسية تتمثل في: (1) جمع البيانات بشكل منهجي من مصادر رسمية وغير رسمية (2) تحليل المعلومات باستخدام أدوات علمية دقيقة مثل التحليل الإحصائي والنمذجة التنبؤية (3) تقييم البدائل المتاحة واختيار الأنسب منها بناءً على مؤشرات موضوعية (4) التنفيذ والمتابعة من خلال قياس الأداء بشكل دوري (5) التعلم المؤسسي عبر الاستفادة من النجاحات والإخفاقات لتطوير السياسات المستقبلية.
تتضاعف أهمية الإدارة المستندة إلى الأدلة في الأردن بالنظر إلى حجم التحديات الاقتصادية والإدارية التي تواجهها الدولة. إذ يمكن لهذا النهج أن يسهم في: (1) تحسين جودة القرارات الحكومية عبر تقليل التدخلات غير الموضوعية والحد من القرارات الارتجالية (2) رفع كفاءة استخدام الموارد العامة من خلال توجيه الإنفاق نحو البرامج والسياسات الأكثر فاعلية (3) تعزيز الشفافية والمساءلة لأن القرارات تكون قائمة على أسس علمية واضحة يمكن تتبعها وتقييمها (4) زيادة ثقة المواطنين وذلك بفضل وضوح الأسس التي تُبنى عليها السياسات العامة وجودة الخدمات الناتجة عنها. هناك العديد من الفوائد التي يمكن أن يحققها تبني الإدارة المستندة إلى الأدلة في القطاع العام الأردني منها: (1) تحقيق نتائج ملموسة للسياسات العامة حيث يسهل التمييز بين البرامج الناجحة وغير الفاعلة (2) ترشيد الموارد المالية من خلال التخلص من الهدر في المشروعات التي لا تحقق العائد المتوقع (3) دعم الابتكار الحكومي لأن التحليل المستمر للبيانات يكشف عن فرص جديدة لتحسين الخدمات العامة (4) تعزيز ثقافة التقييم مما يدفع المؤسسات الحكومية إلى مراجعة أدائها باستمرار (5) رفع مستوى رضا المواطنين نتيجة جودة الخدمات وملاءمتها لاحتياجاتهم الحقيقية.
ومما يجب الاعتراف به أن هناك بعض قصص النجاح الأردنية في هذا السياق، والتي استطاعت أن تحقق نجاحا ملموسا أدى إلى تحسين مستوى الخدمات المقدمة الى المواطنين، وإنْ كانت تلك النجاحات محدودة. ومن ذلك برنامج التحول الرقمي في دائرة الأحوال المدنية والجوازات. فمن خلال الاعتماد على بيانات دقيقة لقياس حجم المراجعين واحتياجاتهم، تمكنت الدائرة في الآونة الأخيرة من أتمتة العديد من خدماتها وتقليل فترة إنجاز المعاملات بنسبة تجاوزت أكثر من 60% مما انعكس على رضا المواطنين. وهناك مثال آخر تمثل في وزارة الصحة الأردنية وبرنامج 'حصاد البيانات' أثناء جائحة كورونا. فقد استطاعت الوزارة خلال عامي 2020-2021 الاعتماد على نظم إلكترونية متكاملة لتتبع أعداد الإصابات، ومعدلات إشغال المستشفيات، وحاجات المحافظات من الموارد الطبية. وقد مكّن هذا النهج المستند إلى البيانات الوزارة من توزيع الموارد بشكل عادل وفاعل، وتقليل الضغط على المستشفيات. ومقابل هذين النجاحين، أخفقت بعض برامج التشغيل الوطني للشباب. فقد فشلت بعض المبادرات في تحقيق أهدافها بسبب غياب قاعدة بيانات شاملة عن سوق العمل واحتياجات القطاعات الاقتصادية، مما أدى إلى برامج توظيف قصيرة الأمد لا تستند إلى أدلة دقيقة.
ولعل النظر الى التجربة البريطانية في هيئة الخدمات الصحية الوطنية (NHS) يقدم مثالا آخر على أهمية الإدارة المستندة الى الأدلة. فقد اعتمدت الهيئة على قاعدة بيانات متقدمة لتحسين جدولة العمليات الجراحية، وتقليل أوقات الانتظار في المستشفيات بنسبة ملحوظة. وفي سنغافورة طبقت الحكومة منظومة بيانات متكاملة تربط جميع مؤسسات الدولة، مما مكنها من اتخاذ قرارات تنموية دقيقة، مثل توجيه الاستثمارات في البنية التحتية بناءً على تحليلات سكانية واقتصادية دقيقة.
رغم نجاح بعض التجارب في الأردن، فإن التوسع في تطبيقها ما يزال يواجه تحديات متعددة تتمثل في: (1) ضعف البنية التحتية للبيانات. فالعديد العديد من المؤسسات الحكومية ما تزال تفتقر إلى قواعد بيانات شاملة ومحدثة (2) محدودية القدرات البشرية المؤهلة، حيث يوجد نقص في الخبراء القادرين على تحليل البيانات بشكل احترافي (3) مقاومة التغيير، فبعض القيادات الإدارية قد ترى في هذا النهج تهديداً لنفوذها التقليدي (4) التكاليف المادية والزمنية، فتطبيق الإدارة المستندة الى الأدلة وبناء أنظمة متطورة لجمع وتحليل البيانات ينطلب استثمارات مالية وجهداً زمنياً كبيراً (5) خطر الاعتماد المفرط على الأرقام، إذ تؤدي المقاييس الكمية إلى إغفال الأبعاد الاجتماعية والثقافية التي لا يمكن قياسها بسهولة.
سبل تعزيز الإدارة المستندة إلى الأدلة في الأردن لتجاوز التحديات السابقة، يمكن تبني مجموعة من الإجراءات العملية، منها (1) إنشاء قاعدة بيانات وطنية شاملة ومحدثة تتيح الوصول إلى المعلومات بشكل فوري ودقيق (2) بناء القدرات المؤسسية والبشرية عبر تدريب الموظفين الحكوميين وصنّاع القرار على مهارات تحليل البيانات (3) تعزيز التعاون مع الجامعات ومراكز البحث العلمي لتوفير الدراسات التي تدعم القرارات الحكومية (4) سن تشريعات تنظيمية تفرض الالتزام بهذا النهج عند إعداد وتنفيذ السياسات العامة (5) تبني ثقافة التقييم المستمر لضمان التحسين الدائم في الأداء المؤسسي والخدمات المقدمة للمواطنين.
انعكاسات النهج على المستقبل يمكن أن يشكل تبني الإدارة المستندة إلى الأدلة نقطة تحول في مسيرة القطاع العام الأردني. إذ سيسهم في بناء مؤسسات حكومية أكثر كفاءة ومرونة، وتكون قادرة على الاستجابة لتحديات التنمية الاقتصادية والاجتماعية بشكل أفضل. كما سيوفر بيئة أكثر شفافية ومساءلة، الأمر الذي يعزز ثقة المواطن بالدولة، ويزيد من رضا المجتمع عن الخدمات المقدمة.
أخيرا، يجب التأكيد أنه في ظل التحديات التي يواجهها الأردن على المستويات الاقتصادية والاجتماعية، تبرز الإدارة المستندة إلى الأدلة كخيار استراتيجي لا غنى عنه لتطوير أداء القطاع العام. وتثبت الأمثلة المحلية والدولية أن هذا النهج قادر على تحقيق تحولات ملموسة إذا ما تم تطبيقه بشكل منهجي ومدروس. وعلى الرغم من وجود عقبات تتعلق بالبنية التحتية والموارد البشرية، فإن الاستثمار في هذا النهج سيؤدي على المدى الطويل إلى تحقيق كفاءة أكبر في استخدام الموارد وتحسين جودة الخدمات العامة. إن اعتماد هذا النموذج يمثل خطوة نحو قطاع عام أكثر استدامة وفاعلية، ويكون قادرا على مواكبة المتغيرات وتلبية احتياجات المواطنين بكفاءة عالية.
التعليقات
دور الإدارة المستندة إلى الأدلة في تحسين أداء القطاع العام في الأردن
التعليقات