ليست الغارة الإسرائيلية التي استهدفت منشآت نطنز وأصفهان وفوردو فجر الرابع عشر من يونيو 2025 مجرّد تصعيد عسكري متكرر في سجلّ نزاع طويل، بل لحظة تحوّل حادّ تقطع مع ما سبقها. أكثر من 150 طلعة جوية، مدعومة بعمليات ميدانية نوعية، أعادت تعريف الممكن في قواعد الاشتباك الإقليمي، وأسقطت الوهم بأنّ الصراع سيظلّ محتجزًا في مربّعات غزة وجنوب لبنان. الردّ الإيراني الفوري والمكثّف أكد، بالمقابل، أن طهران لم تعد تُراكم الردع فقط، بل صارت تمارسه تحت ضغط الضرورة.
المعادلة التقليدية التي حكمت أمن المنطقة منذ مطلع القرن، والتي قامت على إدارة الحافة دون تجاوزها، تفكّكت فجأة.
الضربات الإسرائيلية دمّرت أبنية سطحية في مجمّعات التخصيب، لكن الصور اللاحقة أظهرت أن النوى الأكثر تحصينًا صمدت، ما أبقى الشكوك الغربية قائمة حيال قدرة إيران على رفع التخصيب إلى مستويات عسكرية، إذا توفّر القرار السياسي.
على الجهة المقابلة، كشف تساقط الشظايا فوق تل أبيب ورحوفوت والجليلين عن هشاشة غير معهودة في منظومة الدفاع المتعددة الطبقات، حيث تعمل 'القبة الحديدية' و'مقلاع داوود' بأقصى طاقتهما، بينما تُستنزف كلفة الاعتراض بملايين الدولارات يوميًا.
الأخطر أن دخول بطاريات 'ثاد' و'باتريوت' الأميركية إلى خط الدفاع رفع منسوب التشابك الأميركي–الإيراني إلى ما دون المواجهة المباشرة وما فوق الحياد السياسي، وهو تطور لم يغب عن طهران، التي سارعت لتأطيره كعدوان دولي مركّب يبرر الرد خارج المسرح الثنائي.
في خضم هذا المشهد المعقد، برزت صورة الفاعلين الإقليميين بوضوح، حيث رغم التصعيد والضجيج الكبير في جبهات الشمال، كان لافتًا أن 'حزب الله' لم يفتح النار، مكتفيًا بخطاب الرد المهيأ فقط، وهو يدرك جيدًا أن لبنان يعاني من أزمة مالية غير مسبوقة وانهيار مؤسساتي حادّ، يجعل من أي حرب شاملة كارثة لا يحتملها.
أما حماس، فمرهقة بعد ثمانية أشهر من قتال مستنزف، تواجه استنزافًا عميقًا يضعف من قدرتها على خوض جولات جديدة من المواجهات، بينما تتأرجح الميليشيات العراقية بين رغبة في استعراض الولاء لإيران وخوف من تبعات العقوبات الأميركية، ما يحدّ من تحركاتها ويجعلها أكثر حذرًا. وفي المقابل، يبقى الحوثيون وحدهم يحتفظون بالجاهزية الهجومية، محافظة على موقعهم كـ'ورقة احتياط' في معادلة باب المندب، يراقبون المشهد بعناية دون الانجرار إلى مواجهات مباشرة، مستفيدين من حالة التوازن الهش في المنطقة. هذه الصورة تؤكد أن إيران، على الرغم من الضغوط والتهديدات المتزايدة، لا تزال تملك أوراق قوة استراتيجية وتمتلك القدرة على تحريك 'الأزرار' متى شاءت، حتى وإن لم تستطع تفعيل كل قدراتها دفعة واحدة. هذا يجعلها لاعبًا إقليميًا لا يمكن تجاهله، وقوة محورية في صياغة مسارات الصراع والتفاوض في المستقبل القريب. لم تكن الأسواق بعيدة عن المشهد، مع الإعلان عن الضربة، قفز سعر خام برنت بنسبة 7%، وتجاوز لاحقًا 13% مع اتضاح أبعاد الهجوم، القلق لم يكن محصورًا في الحصة الإنتاجية الإيرانية، بل في احتمالية تعطيل خُمس تجارة النفط العالمية عبر مضيق هرمز. وقد حذّرت بيوت المال العالمية من أنّ مجرد التلويح الرسمي بإغلاق المضيق قد يدفع الأسعار إلى أعتاب 150 دولارًا للبرميل، ويزيد كلفة التأمين البحري خمسة أضعاف. ان القراءات الاستراتيجية داخل غرف القرار تتوزع اليوم على ثلاث فرضيات: تصعيد شامل: يشمل ضربات إسرائيلية أعمق، وردًا إيرانيًا قد يطول ، يُقدّر هذا المسار بفرصة وقوع تبلغ 40%. احتواء تكتيكي: يقوم على وقف مؤقت لإطلاق النار مقابل تجميد التخصيب فوق 60%، وضمانات أمنية خليجية وأممية، فرصة النجاح لا تتجاوز 35%، وتتناقص مع كل خسارة مدنية جديدة. هندسة أمنية جديدة: تطرح معادلة 'أمن المضائق مقابل برنامج نووي مقيد'، مع رقابة دولية صارمة وضوابط تكنولوجية، غير أن تصلّب الأجنحة المتشددة في طهران وتل أبيب يخفض فرص تحقيق هذا السيناريو إلى أقل من 25%. في خضم هذه التحولات، يبرز الأردن كركيزة أساسية في استقرار المنطقة، موقعه الجغرافي الحساس، ومرونته السياسية، وعلاقاته المتوازنة مع الأطراف الإقليمية والدولية، تجعله لاعبًا رئيسيًا لا يمكن تجاوزه في أية صياغة مستقبلية للأمن الإقليمي. لذلك، لا بد من دعم الأردن لتعزيز قدراته الأمنية والاقتصادية، وتوسيع دوره كوسيط بناء للحوار بين الأطراف المتصارعة، بما يضمن استقرار الحدود وتعزيز التعاون الإقليمي.
إذا تمكنت القوى الفاعلة من تبني استراتيجية واقعية توازن بين الرغبة في الردع والضغوط الاقتصادية والسياسية، فسيصبح الشرق الأوسط مركزاً للنمو الاقتصادي والابتكار التقني، مرتبطاً بشبكات أمنية إقليمية ودولية جديدة، أما في حال فشل المساعي، فسيشهد العالم منطقة مفككة مزيداً من الحروب بالوكالة والتدخلات الدولية، تفتح المجال لصراعات أعمق وأشد تعقيداً.
في هذا الإطار، تتبدى أهمية بناء نماذج أمنية متجددة تستند إلى الحوار الشامل، والمرونة السياسية، والتعاون متعدد المستويات، مع إدراك أن زمن الصراعات الكبرى التقليدية في المنطقة قد أضحى من الماضي، وأن المستقبل يحتم الابتكار في طرق حل النزاعات، وإدارة الأزمات.
ما بعد يونيو 2025 ليس كما قبله. الشرق الأوسط عاد ليكون مركز الجاذبية الجيوسياسية العالمي، لا من باب النفط وحده، بل من بوابة التفكك الأمني العالمي.
الحرب لم تنفجر بكاملها، لكنها تحرّكت خطوات إلى الأمام، وكل تأخير في احتوائها سيحوّلها من أزمة طارئة إلى نقطة انعطاف هيكلية في النظام الدولي.
الرهان الآن ليس على من يربح الجولة، بل على من ينجح في صياغة معادلة تضمن ألّا تتحول الجولة القادمة إلى حرب لن يربحها أحد.
الدكتور ليث عبدالله القهيوي
ليست الغارة الإسرائيلية التي استهدفت منشآت نطنز وأصفهان وفوردو فجر الرابع عشر من يونيو 2025 مجرّد تصعيد عسكري متكرر في سجلّ نزاع طويل، بل لحظة تحوّل حادّ تقطع مع ما سبقها. أكثر من 150 طلعة جوية، مدعومة بعمليات ميدانية نوعية، أعادت تعريف الممكن في قواعد الاشتباك الإقليمي، وأسقطت الوهم بأنّ الصراع سيظلّ محتجزًا في مربّعات غزة وجنوب لبنان. الردّ الإيراني الفوري والمكثّف أكد، بالمقابل، أن طهران لم تعد تُراكم الردع فقط، بل صارت تمارسه تحت ضغط الضرورة.
المعادلة التقليدية التي حكمت أمن المنطقة منذ مطلع القرن، والتي قامت على إدارة الحافة دون تجاوزها، تفكّكت فجأة.
الضربات الإسرائيلية دمّرت أبنية سطحية في مجمّعات التخصيب، لكن الصور اللاحقة أظهرت أن النوى الأكثر تحصينًا صمدت، ما أبقى الشكوك الغربية قائمة حيال قدرة إيران على رفع التخصيب إلى مستويات عسكرية، إذا توفّر القرار السياسي.
على الجهة المقابلة، كشف تساقط الشظايا فوق تل أبيب ورحوفوت والجليلين عن هشاشة غير معهودة في منظومة الدفاع المتعددة الطبقات، حيث تعمل 'القبة الحديدية' و'مقلاع داوود' بأقصى طاقتهما، بينما تُستنزف كلفة الاعتراض بملايين الدولارات يوميًا.
الأخطر أن دخول بطاريات 'ثاد' و'باتريوت' الأميركية إلى خط الدفاع رفع منسوب التشابك الأميركي–الإيراني إلى ما دون المواجهة المباشرة وما فوق الحياد السياسي، وهو تطور لم يغب عن طهران، التي سارعت لتأطيره كعدوان دولي مركّب يبرر الرد خارج المسرح الثنائي.
في خضم هذا المشهد المعقد، برزت صورة الفاعلين الإقليميين بوضوح، حيث رغم التصعيد والضجيج الكبير في جبهات الشمال، كان لافتًا أن 'حزب الله' لم يفتح النار، مكتفيًا بخطاب الرد المهيأ فقط، وهو يدرك جيدًا أن لبنان يعاني من أزمة مالية غير مسبوقة وانهيار مؤسساتي حادّ، يجعل من أي حرب شاملة كارثة لا يحتملها.
أما حماس، فمرهقة بعد ثمانية أشهر من قتال مستنزف، تواجه استنزافًا عميقًا يضعف من قدرتها على خوض جولات جديدة من المواجهات، بينما تتأرجح الميليشيات العراقية بين رغبة في استعراض الولاء لإيران وخوف من تبعات العقوبات الأميركية، ما يحدّ من تحركاتها ويجعلها أكثر حذرًا. وفي المقابل، يبقى الحوثيون وحدهم يحتفظون بالجاهزية الهجومية، محافظة على موقعهم كـ'ورقة احتياط' في معادلة باب المندب، يراقبون المشهد بعناية دون الانجرار إلى مواجهات مباشرة، مستفيدين من حالة التوازن الهش في المنطقة. هذه الصورة تؤكد أن إيران، على الرغم من الضغوط والتهديدات المتزايدة، لا تزال تملك أوراق قوة استراتيجية وتمتلك القدرة على تحريك 'الأزرار' متى شاءت، حتى وإن لم تستطع تفعيل كل قدراتها دفعة واحدة. هذا يجعلها لاعبًا إقليميًا لا يمكن تجاهله، وقوة محورية في صياغة مسارات الصراع والتفاوض في المستقبل القريب. لم تكن الأسواق بعيدة عن المشهد، مع الإعلان عن الضربة، قفز سعر خام برنت بنسبة 7%، وتجاوز لاحقًا 13% مع اتضاح أبعاد الهجوم، القلق لم يكن محصورًا في الحصة الإنتاجية الإيرانية، بل في احتمالية تعطيل خُمس تجارة النفط العالمية عبر مضيق هرمز. وقد حذّرت بيوت المال العالمية من أنّ مجرد التلويح الرسمي بإغلاق المضيق قد يدفع الأسعار إلى أعتاب 150 دولارًا للبرميل، ويزيد كلفة التأمين البحري خمسة أضعاف. ان القراءات الاستراتيجية داخل غرف القرار تتوزع اليوم على ثلاث فرضيات: تصعيد شامل: يشمل ضربات إسرائيلية أعمق، وردًا إيرانيًا قد يطول ، يُقدّر هذا المسار بفرصة وقوع تبلغ 40%. احتواء تكتيكي: يقوم على وقف مؤقت لإطلاق النار مقابل تجميد التخصيب فوق 60%، وضمانات أمنية خليجية وأممية، فرصة النجاح لا تتجاوز 35%، وتتناقص مع كل خسارة مدنية جديدة. هندسة أمنية جديدة: تطرح معادلة 'أمن المضائق مقابل برنامج نووي مقيد'، مع رقابة دولية صارمة وضوابط تكنولوجية، غير أن تصلّب الأجنحة المتشددة في طهران وتل أبيب يخفض فرص تحقيق هذا السيناريو إلى أقل من 25%. في خضم هذه التحولات، يبرز الأردن كركيزة أساسية في استقرار المنطقة، موقعه الجغرافي الحساس، ومرونته السياسية، وعلاقاته المتوازنة مع الأطراف الإقليمية والدولية، تجعله لاعبًا رئيسيًا لا يمكن تجاوزه في أية صياغة مستقبلية للأمن الإقليمي. لذلك، لا بد من دعم الأردن لتعزيز قدراته الأمنية والاقتصادية، وتوسيع دوره كوسيط بناء للحوار بين الأطراف المتصارعة، بما يضمن استقرار الحدود وتعزيز التعاون الإقليمي.
إذا تمكنت القوى الفاعلة من تبني استراتيجية واقعية توازن بين الرغبة في الردع والضغوط الاقتصادية والسياسية، فسيصبح الشرق الأوسط مركزاً للنمو الاقتصادي والابتكار التقني، مرتبطاً بشبكات أمنية إقليمية ودولية جديدة، أما في حال فشل المساعي، فسيشهد العالم منطقة مفككة مزيداً من الحروب بالوكالة والتدخلات الدولية، تفتح المجال لصراعات أعمق وأشد تعقيداً.
في هذا الإطار، تتبدى أهمية بناء نماذج أمنية متجددة تستند إلى الحوار الشامل، والمرونة السياسية، والتعاون متعدد المستويات، مع إدراك أن زمن الصراعات الكبرى التقليدية في المنطقة قد أضحى من الماضي، وأن المستقبل يحتم الابتكار في طرق حل النزاعات، وإدارة الأزمات.
ما بعد يونيو 2025 ليس كما قبله. الشرق الأوسط عاد ليكون مركز الجاذبية الجيوسياسية العالمي، لا من باب النفط وحده، بل من بوابة التفكك الأمني العالمي.
الحرب لم تنفجر بكاملها، لكنها تحرّكت خطوات إلى الأمام، وكل تأخير في احتوائها سيحوّلها من أزمة طارئة إلى نقطة انعطاف هيكلية في النظام الدولي.
الرهان الآن ليس على من يربح الجولة، بل على من ينجح في صياغة معادلة تضمن ألّا تتحول الجولة القادمة إلى حرب لن يربحها أحد.
الدكتور ليث عبدالله القهيوي
ليست الغارة الإسرائيلية التي استهدفت منشآت نطنز وأصفهان وفوردو فجر الرابع عشر من يونيو 2025 مجرّد تصعيد عسكري متكرر في سجلّ نزاع طويل، بل لحظة تحوّل حادّ تقطع مع ما سبقها. أكثر من 150 طلعة جوية، مدعومة بعمليات ميدانية نوعية، أعادت تعريف الممكن في قواعد الاشتباك الإقليمي، وأسقطت الوهم بأنّ الصراع سيظلّ محتجزًا في مربّعات غزة وجنوب لبنان. الردّ الإيراني الفوري والمكثّف أكد، بالمقابل، أن طهران لم تعد تُراكم الردع فقط، بل صارت تمارسه تحت ضغط الضرورة.
المعادلة التقليدية التي حكمت أمن المنطقة منذ مطلع القرن، والتي قامت على إدارة الحافة دون تجاوزها، تفكّكت فجأة.
الضربات الإسرائيلية دمّرت أبنية سطحية في مجمّعات التخصيب، لكن الصور اللاحقة أظهرت أن النوى الأكثر تحصينًا صمدت، ما أبقى الشكوك الغربية قائمة حيال قدرة إيران على رفع التخصيب إلى مستويات عسكرية، إذا توفّر القرار السياسي.
على الجهة المقابلة، كشف تساقط الشظايا فوق تل أبيب ورحوفوت والجليلين عن هشاشة غير معهودة في منظومة الدفاع المتعددة الطبقات، حيث تعمل 'القبة الحديدية' و'مقلاع داوود' بأقصى طاقتهما، بينما تُستنزف كلفة الاعتراض بملايين الدولارات يوميًا.
الأخطر أن دخول بطاريات 'ثاد' و'باتريوت' الأميركية إلى خط الدفاع رفع منسوب التشابك الأميركي–الإيراني إلى ما دون المواجهة المباشرة وما فوق الحياد السياسي، وهو تطور لم يغب عن طهران، التي سارعت لتأطيره كعدوان دولي مركّب يبرر الرد خارج المسرح الثنائي.
في خضم هذا المشهد المعقد، برزت صورة الفاعلين الإقليميين بوضوح، حيث رغم التصعيد والضجيج الكبير في جبهات الشمال، كان لافتًا أن 'حزب الله' لم يفتح النار، مكتفيًا بخطاب الرد المهيأ فقط، وهو يدرك جيدًا أن لبنان يعاني من أزمة مالية غير مسبوقة وانهيار مؤسساتي حادّ، يجعل من أي حرب شاملة كارثة لا يحتملها.
أما حماس، فمرهقة بعد ثمانية أشهر من قتال مستنزف، تواجه استنزافًا عميقًا يضعف من قدرتها على خوض جولات جديدة من المواجهات، بينما تتأرجح الميليشيات العراقية بين رغبة في استعراض الولاء لإيران وخوف من تبعات العقوبات الأميركية، ما يحدّ من تحركاتها ويجعلها أكثر حذرًا. وفي المقابل، يبقى الحوثيون وحدهم يحتفظون بالجاهزية الهجومية، محافظة على موقعهم كـ'ورقة احتياط' في معادلة باب المندب، يراقبون المشهد بعناية دون الانجرار إلى مواجهات مباشرة، مستفيدين من حالة التوازن الهش في المنطقة. هذه الصورة تؤكد أن إيران، على الرغم من الضغوط والتهديدات المتزايدة، لا تزال تملك أوراق قوة استراتيجية وتمتلك القدرة على تحريك 'الأزرار' متى شاءت، حتى وإن لم تستطع تفعيل كل قدراتها دفعة واحدة. هذا يجعلها لاعبًا إقليميًا لا يمكن تجاهله، وقوة محورية في صياغة مسارات الصراع والتفاوض في المستقبل القريب. لم تكن الأسواق بعيدة عن المشهد، مع الإعلان عن الضربة، قفز سعر خام برنت بنسبة 7%، وتجاوز لاحقًا 13% مع اتضاح أبعاد الهجوم، القلق لم يكن محصورًا في الحصة الإنتاجية الإيرانية، بل في احتمالية تعطيل خُمس تجارة النفط العالمية عبر مضيق هرمز. وقد حذّرت بيوت المال العالمية من أنّ مجرد التلويح الرسمي بإغلاق المضيق قد يدفع الأسعار إلى أعتاب 150 دولارًا للبرميل، ويزيد كلفة التأمين البحري خمسة أضعاف. ان القراءات الاستراتيجية داخل غرف القرار تتوزع اليوم على ثلاث فرضيات: تصعيد شامل: يشمل ضربات إسرائيلية أعمق، وردًا إيرانيًا قد يطول ، يُقدّر هذا المسار بفرصة وقوع تبلغ 40%. احتواء تكتيكي: يقوم على وقف مؤقت لإطلاق النار مقابل تجميد التخصيب فوق 60%، وضمانات أمنية خليجية وأممية، فرصة النجاح لا تتجاوز 35%، وتتناقص مع كل خسارة مدنية جديدة. هندسة أمنية جديدة: تطرح معادلة 'أمن المضائق مقابل برنامج نووي مقيد'، مع رقابة دولية صارمة وضوابط تكنولوجية، غير أن تصلّب الأجنحة المتشددة في طهران وتل أبيب يخفض فرص تحقيق هذا السيناريو إلى أقل من 25%. في خضم هذه التحولات، يبرز الأردن كركيزة أساسية في استقرار المنطقة، موقعه الجغرافي الحساس، ومرونته السياسية، وعلاقاته المتوازنة مع الأطراف الإقليمية والدولية، تجعله لاعبًا رئيسيًا لا يمكن تجاوزه في أية صياغة مستقبلية للأمن الإقليمي. لذلك، لا بد من دعم الأردن لتعزيز قدراته الأمنية والاقتصادية، وتوسيع دوره كوسيط بناء للحوار بين الأطراف المتصارعة، بما يضمن استقرار الحدود وتعزيز التعاون الإقليمي.
إذا تمكنت القوى الفاعلة من تبني استراتيجية واقعية توازن بين الرغبة في الردع والضغوط الاقتصادية والسياسية، فسيصبح الشرق الأوسط مركزاً للنمو الاقتصادي والابتكار التقني، مرتبطاً بشبكات أمنية إقليمية ودولية جديدة، أما في حال فشل المساعي، فسيشهد العالم منطقة مفككة مزيداً من الحروب بالوكالة والتدخلات الدولية، تفتح المجال لصراعات أعمق وأشد تعقيداً.
في هذا الإطار، تتبدى أهمية بناء نماذج أمنية متجددة تستند إلى الحوار الشامل، والمرونة السياسية، والتعاون متعدد المستويات، مع إدراك أن زمن الصراعات الكبرى التقليدية في المنطقة قد أضحى من الماضي، وأن المستقبل يحتم الابتكار في طرق حل النزاعات، وإدارة الأزمات.
ما بعد يونيو 2025 ليس كما قبله. الشرق الأوسط عاد ليكون مركز الجاذبية الجيوسياسية العالمي، لا من باب النفط وحده، بل من بوابة التفكك الأمني العالمي.
الحرب لم تنفجر بكاملها، لكنها تحرّكت خطوات إلى الأمام، وكل تأخير في احتوائها سيحوّلها من أزمة طارئة إلى نقطة انعطاف هيكلية في النظام الدولي.
الرهان الآن ليس على من يربح الجولة، بل على من ينجح في صياغة معادلة تضمن ألّا تتحول الجولة القادمة إلى حرب لن يربحها أحد.
التعليقات
نزع الغطاء وإعادة الترسيم: التحولات الجيوسياسية والاقتصادية في قلب الشرق الأوسط
التعليقات