بعد عشر سنوات من ترجّل الفارس...الأمير زيد بن شاكر (1-6)
رم- الاردن اليوم
هل يمكن العثورعلى سياسي أردني واحد لديه الجرأة أو المزاج أو قدرة التحكّم بلسانه بحيث يكتفي بالحديث «بعيداً عن السياسة»وفي هذا الوقت بالذات؟ نقصد في فصل (الربيع العربي) الذي أصبح فيه كل شيء سياسة، وسياسة تعوم في فائض الشك ونكهات الريبة ومحفزات رفع الصوت.
في السنوات الماضية وحتى فترة غير بعيدة ،كان الحديث (بعيداً عن السياسة) مغرياً وممتعاً للسياسيين المحترفين. فما يعرفونه ويجهله الشارع، هو أكثر بكثير مما يودّون الخوض فيه. الآن تغير الوضع واختلطت بعض الاشارات الحمراء بالصفراء بالخضراء.. حديث السياسي «بعيداً فعلاً عن السياسة» بات وكأنه تهمة بالغياب عن الصورة أو انعدام الموقف أو شبهة بجفاف الذاكرة .
ذوات سبق وتحدثوا «بعيداً عن السياسة « وكانوا ممتعين في سردهم الهادئ، اختلفت نبرة الكثيرين منهم هذه المرّة. حديثهم أضحى أكثر إثارة بالمواقف وأثرى بالتفاصيل التي وإن كان عمرها أكثر من خمسين سنة إلا أنها تأتي موصولة بالذي نراه الآن ويفاجئنا .
الحكي «هذه المرة « له ميزة أخرى. فهو يكشف أن العديد من رجالات الدولة الذين لم نكن نرى منهم سوى صفحة التجهم واليباس، هم بعد التقاعد أصحاب بديهة رائقة وتسعفهم النكتة عندما تحرجهم الأسئلة.
ملك التل
دَعْك من الشكليات والمظاهر والانطباعات العارضة. فالإنسان عندما يجمع بين طيب المنشأ وثراء التربية مع العقل المنفتح والطبع السمح فإنه يكون أقوى من تقلبات الحياة وأقدر على كتمانها في قلبه بدون أن يظهرها للناس. وحتى عندما تكون الآلام الشخصية عميقة، فإن إحساسه بالمسؤولية يبقى مرتفعاً تجاه نفسه وتجاه الآخرين. هو التفاؤل العقلاني الذي يجعل سيدة من سوّية أم شاكر، نوزت الساطي قرينة الراحل الأمير زيد بن شاكر تتعامل مع الحياة بمنطق الشكر الدائم لله رغم عمق الغربة النفسية التي خلفها الرحيل المفاجئ لشريك حياتها. ثقافتها الواسعة التي حصلتها في مدرسة «الفرندس» وفي الجامعة والاغتراب القصير مع أبي شاكر في الولايات المتحدة، أثرى نفسيتها وعقليتها وعزز إيمانها بأن الله منحها في سنوات الرفقة مع أبي شاكر ما يكفي لمواجهة الصعوبات مهما عظمت، والفراغ مهما كان يابساً. فكيف إذا كان الله قد حباها بأبناء وأحفاد يملأون معظم حياتها؟! والباقي تتولاه هي بالقراءة المستديمة وبالتمتع بجماليات الفنون ومستجدات الثقافة والتواصل الاجتماعي.
أم شاكر تعزف بطبعها عن الحديث في القضايا السياسية ولكنها وهي خريجة العلوم الاجتماعية من الجامعة، تمتلك من الرؤى والخبرة ما تستطيع أن تفصل معه بين الأبيض والأسود. عند الحديث عن الديمقراطية تستذكر أم شاكر أن البداية الذهبية لاستعادة الحياة الديمقراطية التعددية في الأردن كانت مع حكومة أبو شاكر التي عقد فيها تنسيقاً نموذجياً مع الدكتور عبد اللطيف عربيات الذي جاء لرئاسة البرلمان في انتخابات مشهود لها بالنزاهة تولاها أبو شاكر.
في الحديث المطول مع السيدة التي تنقلت في حياتها من منشأ اسطنبولي إلى ولادة في دمشق إلى حياة مديدة توزعت بين مختلف مدن الأردن، فإن أم شاكر تحتفظ بذاكرة مشرقة وبلباقة آسرة في النأي عن الخوض بالقضايا السياسية المتحركة. ومع ذلك تحدثت في موضوعات النظم الملكية والجمهورية وفي الربيع العربي والفساد وفي الإعلام والشفافية...لكنها دوماً كانت السيدة التي تجد نفسها في الحياة الاجتماعية الهادئة وفي ذكريات زميلات الدراسة التي ما زالت تتواصل معهن وكأن خمسينيات القرن الماضي حصلت يوم أمس.
وهي تعيد تقليب بعضا من صفحات حياتها التي قدّر الله لها ان تكون فيها قريبة من المفاصل والمحطات الانتقالية في تاريخ الأردن بالنصف الثاني من القرن الماضي، فإن السيدة نوزت الساطي قرينة الراحل الأمير زيد بن شاكر تسعفها ذاكرة فوتوغرافية مدهشة. وبالثقافة المؤسسة على تخصص علوم الاجتماع، مع التواضع واللياقات والنأي العفوي عن الخوض في القضايا الخلافية، فتسلسل الأمور والذكريات بالنهج الطبيعي من البدايات .
تقول: ولدتُ في مدينة دمشق، لكن والدي كان يعمل في الأردن طبيبا مسجلا بشهادة وظيفيه في وزارة الصحة منذعام 1923وكان قد خرج وعائلته من اسطنبول عام 1921. والده كان من الضباط العرب الذين خدموا في الجيش العثماني، وكذلك كان والد والدتي.عاشوا طفولتهم وشبابهم في مدينة اسطنبول التي كانت تسمى في تلك الأيام الاستانة (كوستنتينوبل)،ولديهم أوراق رسمية رأيتها وقت طفولتي وعليها اسطنبول بذاك الاسم: كوستنتينوبل (القسطنطينية).
بعد عامين من تخرج والدي من كلية الطب وبرفقته عمي الدكتور شوكت الساطي جائا الى الاردن بدعوة من صديقهما في جامعة اسطنبول توفيق أبو الهدى، حيث أرسل لهما برسالة اعلمهما فيها بأن الأردن أصبحت من البلاد العربية التي تحررت من الأتراك ودعاهما للعمل هنا.
عندما غادر أهلي اسطنبول كانت الثورة العربية قد أثرت على وجودهم كعرب في الامبراطورية العثمانية آنذاك، وبدأت معاملة الأتراك تختلف مع من في الدولة من أصول عربية. لم يسيئوا لهم لكن بدأوا يشكون بهم وبولائهم، فاختلفت طبيعة التواصل معهم، لذلك قرروا المغادرة وعادت العائلة إلى دمشق لكن اثنين من أفرادها وهما والدي وعمي ذهبا إلى بيروت عاماً واحداً ومارسا مهنتهما كأطباء وبعدها جاءا للأردن بنصيحة زميلهما في الجامعة توفيق أبو الهدى. والدي وعمي أحبا البلد جداً وكان قد سبق مجئ والدي قبل زواجه من والدتي بعشر سنوات. عمل الوالد وعمي في معان والكرك ومادبا والطفيلة واربد كطبيبين.. وفيما بعد أصبح عمي الطبيب الخاص لجلالة الملك عبدالله طيب الله ثراه، فيما استمر والدي طبيباً بوزارة الصحة، ثم طبيباً في القطاع الخاص وكنا نتنقل معه في عدة مدن بالمملكة حتى تقاعد. وبعدها اختار أن يعيش عند أهله وبقية أفراد العائلة في دمشق، وهناك عمل طبيباً متطوعاً في الهلال الأحمر. لم يكن يرحمه الله يحب الفراغ والجلوس بدون عمل.
أختي شهرزاد الساطي البلبيسي كانت في بداية مرحلتها الدراسية في مدرسة فرنسية بدمشق، ووقت جلاء الفرنسيين وما رافقه من حالات توتر وعداء لكل المخلفات الفرنسية أُقفلت تلك المدرسة وجاءت إلى الأردن لمتابعة دراستها في مدرسة الـ CMS في القسم الداخلي لأنها كانت في مدرسة فرنسية ومن الصعب عليها متابعة دراستها في مدرسة لغتها العربية عالية، فسجلها الوالد في مدرسة الـCMS في القسم الداخلي في الصف السادس الابتدائي وكانت المدرسة تقع في جبل عمان وهذا ما فعله الوالد بالنسبة لي حيث الحقني مع شقيقتي في نفس المدرسة في وقت كنت قد درست حتى الصف الرابع الابتدائي في مدرسة حكومية في إربد تقع على ظهر التل، ولي زميلات أتذكرهن جيداً وما زلت على تواصل معهن، كما أتذكر مدرساتي ومديرتي اسعاف حبال وهي لبنانية الأصل. وكانت من بين مدرساتي فاطمة حشيشو وكنت أحبها كثيراً، كما وأتذكر مدرستي أسمى أبو غنيمة، وقد تزوجت الزعيم عبدالله مجلي الذي كان يعمل في القوات المسلحة.
كما قلت أنا من مواليد دمشق، فعندما كانت تريد والدتي أن تضع مولوداً جديداً تذهب إلى دمشق، ففي تلك الأيام في بداية إمارة شرق الأردن لم تكن بعد المستشفيات الجيدة موجودة كما هي الآن، ولذلك كانت والدتي تضطر للذهاب إلى دمشق للرعاية الأفضل، وهذه من المفارقات التي أود التحدث عنها، وأفتخر بها كيف ان الأردن أصبحت في المستوى الصحي ومستوى الخدمات الطبية أفضل بكثير من المستوى الموجود حالياً في دمشق والعديد من البلدان العربية الأخرى، فمن يوم ولادتي شاهدت إنجازات الأردن على كل الأصعدة، أنا وأهلي وكل جيلنا كنا نعرف البدايات لذلك نقدرالإنجازات.
في إربد ما زالت أتذكر المفتشين الذين كانوا يأتون لزيارة الصفوف وتفقد حالات الطلبة الذي كان لا يتجاوزعددهم الـ 20 طالبة، وأذكر من المفتشين التربويين حمد الفرحان وخليل السالم.
بقيت في مرسة الـCMS لمدة عامين وعندما أقفل القسم الداخلي اضطر أهلي لإرسالنا إلى رام الله في مدرسة داخلية أيضا وهي مدرسة أميركية اسمها «االفرندس» وكان المدرسون فيها يأتون من أميركا لايمانهم برسالة التعليم. الفرندس هو أحد الكويكرز المسيحيين، وكانوا متعصبين جداً ضد التدخين والمشروب، كانوا يؤمنون بالسلام ويركزوا علينا في تعليم هذه المبادىء.
أحببت وشقيقتي جداً التعليم في رام الله وكثيراً ما حلمنا بزيارة المدرسة بعد تخرجنا منها. التعليم في المدرسة كان منفصلاً لكن في النشاطات الرياضة والموسيقى وكذلك نشاطات يوم الأحد كانت مختلطة. فبقيت في هذه المدرسة لحين تخرجي من الثانوية العامة عام 1953، بعدها ذهبت لمتابعة تعليمي الجامعي في BCW في بيروت.
وفي سياق حديثي عن مرحلة الدراسة الأساسية وجدت ان انتقالي من الـCMS إلى مدرسة الفرندس قد وفرعلي عاماً في الجامعة، فعندما جاءت زميلاتي من الـCMS وكنّ أعلى مني صفاً، أصبحن في الجامعة بصفي.
حياة جديدة مختلفة
في الجامعة بدأت ثقافتي الجامعية، وبدأت أتعود على نمط جديد في الحياة الاجتماعية وهي الاختلاط الذي لم نألفه في المدارس الا اثناء النشاطات العامة .. في الجامعة كانت الأجواء اشمل واوسع دون قيود أو حدود مع الأساتذة والزملاء وهذا ما صقل شخصيتي، وعمق ثقتي والاعتماد على الذات وكان لهذا قيمة إضافية لي بأنني في هذا الجو مع حرية لا حدود لها، حرية فكرية وثقافية واجتماعية، ولا أحد يضع لي الخطوط إلا نفسي. ثقة أهلي بي وثقتي بنفسي ساعدتني أن أتعامل مع هذا الجو الجديد. فدخلت قسم علم الاجتماع، لأنه بالنسبة لي كان علماً جديداً لم أدرسه في المدرسة، وكان لدي حب الاستطلاع لأتوسع في معرفتي بالناس والحياة العامة.
وانخراطك في الحياة الحزبية التي كانت تستقطب الشباب المتحمس من كل أنحاء الوطن العربي؟
بالنسبة لي ومعظم زميلاتي في الجامعة لم تكن تستهوينا الأنشطة الحزبية كعمل جماعي. بالتأكيد كنا مثل جيلنا نتابع الأحداث والتطورات العربية الساخنة والمتسارعة من انقلاب 23 يوليو في مصر إلى تعريب الجيش في الأردن إلى العدوان الثلاثي وحرب السويس ..أحداث متوترة سريعة كنا نتابعها ونتفاعل معها لكن لم ننضم للعمل الحزبي المنظم علما انه عرض عليّ ذلك لكنني رفضت، ربما لصغر السن وعدم النضوج حيث كنت حينها في الـ16 من عمري.
من تذكرين من زميلات في الجامعة؟
زميلاتي كثر أتذكر منهن وصفية الدجاني، ورحاب ملحس زوجة زيد حمزة، ونجهود عربي كاتبة زوجة أحمد فوزي الذي كان أمينا للعاصمة، ومريان ملحس ومهى بسيسو.. ومن الزملاء الشباب أتذكر معتصم البلبيسي ووليد ملحس وينال حكمت وموسى الدجاني وكثير من الأردنيين والأردنيات ومن الزملاء والزميلات العرب كانوا موجودين، لكنني لم أكن في الجامعة الأميركية بل كنت في جامعة الـBCW والتي تسمى الآن LAU، وهي جامعة خاصة للفتيات فقط، وكانت تركز على التعليم وتهيئة الفتيات اكاديمياً في وقت كانت جميع النشاطات التي نمارسها مختلطة.وفي عام 1956تخرجت، وحضر أبو شاكر يرحمه الله حفل التخريج.
كيف تعرفت على أبي شاكر؟
عن طريق الأهل.. يوجد صداقة قديمة بين أهلي وأهل الشريف زيد وقد تعرفت عليه بلقاء عائلي مع مجموعة من أهلي، وهذا اللقاء لم يتبعه لقاءات أخرى، لكن في إحدى سفراته كان ذاهباً إلى مصر من خلال بيروت ومرعليَ في الجامعة وزارني مثلما زار كثيراً من الفتيات الأردنيات في ذلك الوقت. حيث كان يعرف أهلهم مثلما كان يعرف أهلي، وبعد عامين تمت خطبتنا بعد أن تعرفنا على بعضنا البعض، وكنت في الـ19 من عمري وكان أبو شاكرفي عمر 22عاما.. كان حينها مرافقا لجلالة الملك الحسين، وبعد تخرجي عدت الى الأردن، وفي اليوم الأول من زواجنا سافرنا إلى لندن لاستلام أبو شاكر عمله الجديد مساعدا للملحق العسكري، وكانت رتبته «كابتن» أي ملازم أول.
ماذا تختزن ذاكرتك من أجمل وأصعب المحطات؟
الذاكرة مليئة بكل شيء.. طفولتي دراستي أهلي زواجي من أبي شاكر واشياء كثيرة فيها الحلو والمر.. لكنني أحب أن أبدأ بالأجمل لأنني بطبعي متفائلة وأنظر للحياة دائماً بإيجابية. حتى المشاكل والصعاب التي مررت بها إن كنت لوحدي أو أنا وزيد فقد علمتني دروسا كبيرة. لذلك أنظر لها بإيجابية.
نبدأ بالأصعب؟
الأصعب يدمي القلب .. آلمني استشهاد شقيقي زياد في الثمانينيات .. لقد لوع قلب أمي كما تلوعت عليه كثيرا ومن بعده وفاة أمي يرحمهما الله..
فقداني لأبي شاكر مراة لم يستوعبها عقلي إلا أنني أنظر للحالة من زاوية انني ولله الحمد عشت معه 48 سنة أشكر ربي عليها، ولا أقول فقدته في آخر حياتي وأنا بحاجة لرفيق حياة مثله، فهو موجود معي وذكره موجود، لم يغب عني، ولم يغب عن الناس الذين حولي، مرافقتي له أغنت خبرتي في الحياة، وهذا أمر جعل حياتي غنية أكثر بكثير من أي شخص آخر لمجرد أن أكون رفيقة وشريكة حياته. راقبت أداءه أثناء الأزمات في الأردن، تعلمت الكثير.. وجودي بالقرب منه منحتني فرصاً فريدة من نوعها، للنمو والتطوير والتعليم والتعلم كل يوم، من خلال مقابلاتي لشخصيات عالمية، ووجودي في أحداث مهمة وهامة، ومن خلال ممارساتي لحياتي الشخصية وحريتي التي منحني إياها أن أعيش حياتي الشخصية كما أريدها بثقة منحني اياها لكن أصعب ما في وفاة أبو شاكر أنها كانت فجأة، كانت صدمة كبيرة، لكن كان هناك أمر واحد جعلني أتقبل قضاء الله هو إيماني بالله، وهذا الذي جعلني أصبر، ولله الحمد نتيجة زواجنا رزقنا بأولاد وأحفاد أفتخر بهم، وهذه من الأمور الأخرى التي اعتبرها عكازة لمشاعري، فاتكاليتي عاطفياً كانت على وجود اولادي وأحفادي، ولله الحمد انهم يشاركوني وأشاركهم كل شيء في الحياة.
التعليقات
قائدنا وإخواناومعلمنا ، كان مدرسه للأدب والأخلاق ، وكنا نحب طلته على وحداتنا برفقه ابو عبد الله . يصغي لكل واحد منا ويشعرنا انه صديق مقرب .
اختنا ام شاكر رفيقه مشواره كانت كبقيه عقائل رؤساء الحكومات وكبار المسؤولين في الاردن. بعيده عن الأضواء ولا تظهر الا في المناسبات التي تقتضي ذلك ، وهذا تقليد حميد تمتاز به مملكتنا الحبيبة .
ام شاكر لست وحدك تذكرين القائد العام ، بل كل جيلنا يذكره بالخير فله من الله ألرحمه والمغفرة ولكم الصبر واعطر الذكريات
رحمه الله واسكنه فسيح جناته