رم - محرر الشؤون السياسية
أبو مصعب الزرقاوي كان واحداً من المنسحبين العرب من أفغانستان بعد إنهيار حكم حركة «طالبان» المستمر منذ العام 1996، ورحل معه أي نفوذ لتنظيم «القاعدة» الذي تشتت بالكامل في أعقاب معركة تورا بورا، في نهاية كانون الأول (ديسمبر) 2001.. وبما أنه كان على ارتباط وثيق بمجموعة من رفاقه الأردنيين والفلسطينيين الذين بنوا معسكراً لهم تحت عباءة تنظيم «أنصار الإسلام» في كردستان العراقية منذ التسعينات، فقد كان طبيعياً أن يلتحق بهم هناك. انتقل الزرقاوي إلى العراق وعينه، على الأرجح، منصبّة على بلده الأم الأردن، وليس لأنه كان يتوقع أن الأميركيين سيغزون في 2003 «بلاد الرافدين» بهدف إطاحة حكم صدام حسين.
يقول الليبي بن عثمان الذي كان بحكم اتصالاته الواسعة مع «الجهاديين العرب» في أفغانستان على احتكاك وثيق مع أعضاء في مجموعة الزرقاوي، إن الأخير كانت لديه تحفظات شرعية عن بعض سياسات حركة «طالبان»، إذ كان يراها «متساهلة» في أمور عقائدية مرتبطة مثلاً بمسألة الولاء والبراء. ويوضح: «كانت لأبي مصعب بعض الملاحظات (على «طالبان) إنطلاقاً من قضايا التوحيد والولاء والبراء التي كان يعتبر أنها يجب أن تكون صافية تماماً لا تشوبها شائبة. بقي مع مجموعة تضم قرابة 80 شخصاً في لوغر- وقد تغديت معهم هناك في موقعهم الذي كان بيتاً قديماً لقلب الدين حكمتيار. أكثر من 99 في المئة من عناصر المجموعة كانوا أردنيين أو فلسطينيين. حافظ الزرقاوي على مجموعته الخاصة هذه في أفغانستان وتولى قيادتها. بعد سقوط نظام حركة «طالبان» انتقل إلى العراق وقطن في أحد أحياء بغداد، ولكن هدفه كان الأردن.
ويقول بن عثمان إن «القاعدة» نجحت في بناء أول فرع فعّال لها عندما تمكنت من استقطاب الزرقاوي. ويوضح: «خدم انضمامه القاعدة في شكل كبير، لكنه جاء عليها أيضاً بأمور سلبية. ففي الجانب الإيجابي أعطى الزرقاوي «القاعدة» ما كانت تسعى إليه: وجود قتالي عسكري في شكل يومي ضد المحتلين الأميركيين في منطقة عربية. سلّم الزرقاوي «القاعدة» جماعة جاهزة لم يبنوها هم. كانت لديه «جماعة التوحيد والجهاد» منذ أيام معسكر هرات، وهو سلّمهم هذه الجماعة جاهزة في الفلوجة عندما انضم إلى «القاعدة» عام 2004». ويتابع: «في المقابل، عندما حصل الانضمام إلى القاعدة هم أعطوه إسمهم، وهذا شكّل مصدر راحة لجماعة التوحيد والجهاد التي كانت تتصارع مع تنظيمات أخرى حتى داخل الفلوجة المحاصرة من الأميركيين. فقد كانت جماعة الزرقاوي تتجادل مع جماعات أخرى حول مسائل من قبيل: من قتل من؟ نحن أم أنتم؟ كانوا يتصارعون حول من يمسك بالمعركة في الشارع الفلاني أو الحي الفلاني. عندما انضم الزرقاوي إلى القاعدة خرج من هذه الدوامة، وصار جزءاً من معركة عالمية وليس جزءاً من صراع محلي ضد جماعة منافسة له. الانضمام وفّر له تفوّقاً على غيره من الجماعات المحلية».
قبل أن ينضم الزرقاوي إلى صفوف «القاعدة» كانت خلاياه قد نجحت في التمدد في أكثر من دولة في المشرق العربي، بما في ذلك سورية التي كانت «الرئة» الخارجية الأساسية التي يتنفس منها «الجهاديون» في العراق. فقد فرض تنظيم الزرقاوي منذ نهايات 2003 سيطرته على المعابر التي تسلكها «قوافل» المتطوعين المتدفقين عبر سورية للمشاركة في قتال الأميركيين. ويوضح بن عثمان في هذا الإطار: «كانت للحدود السورية - العراقية خمسة مداخل يسلكها المتطوعون. مهما كانت الجهة التي تُرسلك إلى العراق لا بد لك من أن تمر عبر هذه النقاط الخمس التي يسيطر عليها الزرقاوي. وقد ورثت القاعدة السيطرة على هذه المعابر بعد انضمامه إليها».
لكن «القاعدة» لم تتمكن أبداً من التحكّم في تصرفات الزرقاوي. وقد أظهرت الأيام مدى الصعوبات التي واجهتها «قيادة القاعدة» (التنظيم الأم) في وزيرستان الباكستانية في إقناع الزرقاوي بتعديل سياساته والخضوع لتوجيهات بن لادن وقادة تنظيمه. بعثت له قيادة «القاعدة» في أكثر من مناسبة برسائل تدعوه فيها إلى تعديل سياساته، مثل الذبح أمام الكاميرا والقتل العشوائي البشع الذي لا يفرّق في كثير من الأحيان بين مواطنين مدنيين عاديين وبين قوات الاحتلال. وعلى ما يبدو، لم يقتنع الزرقاوي أيضاً بالدعوات التي حضته على وقف هجماته ضد من يسميهم الشيعة «الروافض»، على رغم أن هذا العمل يكاد يشعل حرباً أهلية بين العراقيين أنفسهم، كما أنه يثير حنق الإيرانيين الذين يمسكون بعدد كبير من «ضيوفهم» من قادة «القاعدة» الذين فروا من أفغانستان في نهاية العام 2001. لكن الشكاوى ضد أمير فرع «القاعدة» في «بلاد الرافدين» بلغت درجة لم يعد يمكن تجاهلها عندما قرر فتح معركة ضد خصومه من العشائر السنّية التي كانت حاضناً أساسياً لـ «فصائل المقاومة» منذ اليوم الأول للغزو في 2003، وأيضاً عندما انخرط في قتال فصائل المقاومة الأخرى الرافضة الخضوع لإمارته وعلى رأسها «الجيش الإسلامي».
أرسلت «القاعدة» آنذاك رسائل عديدة إلى الزرقاوي تدعوه فيها إلى التعقّل. راسله مثلاً أيمن الظواهري وأبو يحيي الليبي وعطية عبدالرحمن الليبي (الأخير وقّع الرسالة باسم «قيادة القاعدة في وزيرستان»). وعندما بلغت الأمور حداً لم يعد في الإمكان احتمالها قررت «قيادة القاعدة» أن ترسل عراقياً من أبرز قادتها الميدانيين - عبدالهادي العراقي - في محاولة لتسوية النزاعات قبل استفحالها. لكن عبدالهادي سقط من مكمن نصبه له الأميركيون في بلد شرق أوسطي قبل وصوله إلى العراق.
وفي هذا الإطار، يقول بن عثمان إن قيادة «القاعدة» تلقت شكاوى شديدة اللهجة من بعض مؤيديها في شأن تصرفات الزرقاوي. ويوضح أن بعض هذه الشكاوى مصدره «الجيش الإسلامي» الذي نقل إلى متعاطفين مع «القاعدة» في الخليج تفاصيل عن ممارسات منسوبة إلى الزرقاوي وقادة تنظيمه الميدانيين. ويشرح: «نقل الجيش الإسلامي اعتراضاته على تصرفات الزرقاوي إلى علماء وطلبة علم في دول الخليج، مثل السعودية والكويت. كان هناك في الحقيقة تأييد واسع في أوساط الجهاديين في الكويت لـ «الجهاد» في العراق، بحيث كان يتطوّع كثيرون من الشبان الكويتيين لتنفيذ عمليات تفجير في بلاد الرافدين. وما زاد الطين بلة أن أبا مصعب أصر على نقل المعركة إلى الأردن في عملية تفجير الفنادق في عمّان (تشرين الثاني/نوفمبر 2005) بحجة أنها تحوي مكاتب للمخابرات الأميركية. أوقعت التفجيرات عشرات القتلى المدنيين من المسلمين وأثارت استياء واسعاً في العالم العربي».
لم تمر شهور على عملية الفنادق حتى تمكن الأميركيون، في حزيران (يونيو) 2006 من قتل الزرقاوي نفسه في بعقوبة بعد معلومات ساهم الأردنيون، كما يُزعم، في توفيرها عنه.
لكن قبل مقتله كان الزرقاوي قد ساهم ببعض تصرفاته في ضرب أي مشروعية لشن «جهاد» ضد الأميركيين في العراق، حتى في أعين كثير من مناصريه. ذلك أن بعض الشبان الذين التحقوا بـ «الجهاد» في العراق وجدوا أنفسهم منخرطين في أحيان كثيرة في عمليات لا تستهدف الأميركيين بل أطياف من أبناء الشعب العراقي، خصوصاً الشيعة و»الجيش الإسلامي». ويقول بن عثمان إن بعض هؤلاء الجهاديين قد نجح في الفرار من العراق بعدما صار يجد نفسه في معمعة قتل عشوائي لا يمكنه أن يجد لها مبرراً وفق فهمه للشرع الإسلامي. ويوضح في هذا الإطار: «هناك شهود يتمتعون بالصحة والعافية والحرية عادوا إلى ليبيا الآن ويعرفون حقيقة ما حصل في العراق. بعضهم هرب من العراق إلى سورية حيث سلّم نفسه إلى السلطات هناك أو اتصل مباشرة بالسفارة الليبية طالباً إعادته إلى بلاده. وقد أفرجت ليبيا عن هؤلاء اليوم وعادوا إلى بيوتهم. بقوا في العراق 3 أو 4 سنوات، لكنهم قرروا ترك الجهاد هناك والعودة إلى ليبيا. يروون قصصاً عن تمردات حصلت خلال تنفيذ العمليات. فقد كان كثيرون من الشبان يعترضون على القتالات الداخلية، خصوصاً بعد دخول القاعدة في حرب ضد الجيش الإسلامي. صارت تحصل عمليات قتل دموية في ما بينهم، وصارت «القاعدة» تأخذ الشبان للقيام بعمليات من دون أن يعرف المشاركون فيها إلى أين يذهبون. وعندما كان بعضهم يسأل إلى أين نحن ذاهبون، يجيبه مسؤول العملية: لا تسأل حتى نصل إلى الميدان. كانوا يتحججون بالسرية، ولكن الحقيقة أن الهدف كان مرتبطاً بغياب عامل الثقة في أن الشباب سيوافقون على القيام بالعملية إذا ما عرفوا الهدف منها. بعض الليبيين وقعوا في مثل هذه المصيبة. أحدهم وجد نفسه يقاتل الجيش الاسلامي. رأى نفسه يقاتل أخوة يصلون ويكبّرون ويقاتلون الأميركيين. عندما كان ينتقد كان يُقال عنه إنك عميل أو خائن».
ومع غرق «جهاد القاعدة» في العراق في مستنقع الصراعات الداخلية مع بقية فصائل المقاومة واستفادة الأميركيين من ذلك لشن حملة واسعة لطرد «القاعدة» من معاقلها وتفكيك خلاياها، بدأ يُسجّل تراجع ملحوظ في اهتمام «قيادة القاعدة» - التنظيم «الأم» - بما يحصل في «بلاد الرافدين». لم يعد منظّرو التنظيم في وزيرستان يتحدثون سوى في النادر عما يحصل في العراق، وغالباً في إطار إصدار رثاء لقادة قُتلوا أو الإشادة بعمل ما نفّذته «دولة العراق الإسلامية» التي حلّت محل «القاعدة» إثر مقتل الزرقاوي آثار تفجير قامت به «القاعدة» في كربلاء.
ولا شك أن قيادة «القاعدة» ستجد نفسها مضطرة - إن لم تكن قد فعلت ذلك بعد - إلى مراجعة وضع فرعها في العراق لمعرفة هل تسرّعت فعلاً في استنتاج أن «الجهاد» هناك بقيادة الزرقاوي قد «خرج من عنق الزجاجة» ولم يعد في الإمكان وقفه. وعلى رغم الانشقاق الأخير في «الجيش الإسلامي» وظهور قيادة في داخل العراق ترفض موقف قيادة الخارج المعادي لـ «القاعدة»، إلا أن الأوضاع حالياً في بلاد الرافدين تدل على أن تنظيم بن لادن قد أخطأ بلا شك في استنتاجاته في خصوص الأوضاع في هذا البلد. ذلك أن «قاعدة بلاد الرافدين» تعاني في شكل جليّ نزفاً كبيراً يُنذر بانهيار كامل إذا ما استمر على هذه الوتيرة من تساقط سريع للخلايا واحدة تلو الأخرى.
كان أبو مصعب الزرقاوي أول من تنبّه إلى إمكان استغلال الساحتين اللبنانية والسورية لمصلحته، وذلك منذ فترة ما قبل غزو العراق عام 2003. فمنذ أيام أفغانستان كان الزرقاوي يعمل وفق مشروعه الخاص في «بلاد الشام» بعدما فشلت جهود أسامة بن لادن لضمه إلى «القاعدة» في أواخر التسعينات. وكما يقول الليبي نعمان بن عثمان، فقد كان الخلاف بين الرجلين يتركز أساساً على موضوع التكفير، إذ طلب الزرقاوي من بن لادن أن يُكفّر رسمياً إحدى الحكومات العربية، لكن زعيم «القاعدة» رفض ذلك. وعلى هذا الأساس، قرر الزرقاوي أن يقوم بمشروعه «الجهادي» الخاص في بلاد الشام، بما في ذلك الأردن.
كان لدى الزرقاوي في معسكره في هرات شاب لبناني يدعى حسن نبعة ولا يعرفه رفاقه سوى بـ «أبي مسلم»، وهي كنية من بين كنى عدة يحملها هذا الشاب الذي جاء إلى أفغانستان في عام 2000 بعد أحداث الضنّية (شمال لبنان) بين جماعة إسلامية مسلحة وبين الجيش اللبناني. وبعد فترة من التدرب في معسكر خلدن ثم في معسكر هرات، بايع اللبناني الزرقاوي أميراً عليه في إطار «جماعة التوحيد والجهاد». عاد «أبو مسلم» إلى لبنان بعد ذلك لكنه ظل بعيداً من الأنظار حتى ما بعد الحرب الأميركية «ضد الإرهاب» وإطاحة نظام «طالبان» في 2001. في تلك الفترة، كان الزرقاوي قد نجح في مغادرة هرات حيث بدأ التحضير لخطوته المقبلة وهي الانتقال إلى العراق. أرسل الزرقاوي رجلاً سعودياً من القصيم (ف. أ.) كان قد تدرّب في معسكره في هرات وبايعه. جاء السعودي إلى لبنان بهدف فتح قنوات اتصال مع جماعة فلسطينية «جهادية» ناشطة في مخيم عين الحلوة للاجئين في جنوب لبنان وإقناعها بالانضمام إلى «جماعة التوحيد والجهاد». لكنه لم ينجح في مهمته على ما يبدو، إذ بقيت الجماعة الفلسطينية تعمل في شكل مستقل.
غير أن الأحداث كانت تتسارع آنذاك في المنطقة في ظل مؤشرات إلى نية الأميركيين غزو العراق. فبدأ المتطوعون «الجهاديون» يتدفقون على «بلاد الرافدين» من دون أن يكونوا ينضوون إلى جماعة معينة بل كانوا خليطاً من الجماعات. كانت جماعة الزرقاوي (التوحيد والجهاد) واحدة من تلك الجماعات، وسرعان ما انخرطت في المعارك ضد الأميركيين. وكانت تلك المعارك فرصة كي يلتحق «أبو مسلم» اللبناني بأميره الزرقاوي في العراق، حيث خاض إلى جانبه معارك شديدة أبرزها معركة الفلوجة الأولى (نيسان/ابريل 2004).
كان دور اللبناني في هذه المعركة مناسبة لبروز نجمه في شكل سريع. إذ سرعان ما كلّفه الزرقاوي بالانتقال إلى سورية وتولي إمارة «التوحيد والجهاد» في «بلاد الشام» والإشراف بالتالي على شبكات إرسال المتطوعين إلى «بلاد الرافدين». كما عيّن الزرقاوي نائباً سورياً للأمير اللبناني هو سليمان درويش (أبو الغادية). افتتح الأمير «أبو مسلم»، أو كما بات يعرفه الذين يبايعونه في سورية باسم «الشيخ راشد»، مضافات مختلفة لاستيعاب المتطوعين «الجهاديين» كان أبرزها ثلاث مضافات في حمص وحلب ودمشق، إضافة إلى شبكة مضافات مختلفة في لبنان، أُخفي بعضها في مناطق ذات غالبية مسيحية لإبعاد الشبهات عنها (إحداها في منطقة عين الرمانة). وكان معظم التمويل الذي يأتي لفرع «التوحيد والجهاد» في «بلاد الشام» يشرف على تأمينه السعودي «ف. أ.» الذي كان يتنقل عبر أكثر من دولة في الشرق الأوسط من دون أن يثير شكوك أجهزة الأمن. وكاد هذا السعودي أن ينكشف في إحدى المرات عندما كان في سيارة تقل أربعة من «الجهاديين» في مدينة حلب حين انفجرت فيهم عبوة ناسفة كانوا ينقلونها، فقُتل اثنان من ركابها (أحدهما تركي) وأصيب الآخران. ولكن في حين قبضت الأجهزة السورية على أحد الجريحين، تمكن السعودي من الوصول إلى إحدى المضافات في المدينة حيث عولج وعاود نشاطه.
وشهدت «إمارة» حسن نبعة لفرع «التوحيد والجهاد» في «بلاد الشام» في أواخر عام 2004 انشقاقاً قاده أحد القادة المحليين ويدعى «أبو أنس» الذي صار يطلب من مناصريه أن يبايعونه هو وليس اللبناني. وقد حاول الزرقاوي التوسط بين الرجلين وحل خلافاتهما ولكن من دون جدوى.
ومع انتهاء معركة الفلوجة الثانية في كانون الأول (ديسمبر) 2004 أعلن الزرقاوي مبايعته أسامة بن لادن الذي عيّنه أميراً على فرع «القاعدة» في «بلاد الرافدين». ومع تحوّل جماعة «التوحيد والجهاد» في العراق إلى فرع لـ «القاعدة» بقيادة الزرقاوي، تحوّل نبعة بدوره إلى أمير لفرع «القاعدة ببلاد الشام»، وإن كانت علاقته المباشرة بقيت محصورة بالزرقاوي وليس بـ «قيادة القاعدة» في وزيرستان. كما أن نشاط فرع «بلاد الشام» بقي محصوراً في سورية ولبنان، بما في ذلك المخيمات الفلسطينية فيه، من دون أن يتمدد إلى الأردن الذي بقي على ما يبدو مرتبطاً مباشرة بالزرقاوي في العراق.
في النصف الثاني من عام 2006 كان نشاط فرع «القاعدة في بلاد الشام» قد بلغ ذروته، إذ تدفق آنذاك مئات «الجهاديين» من دول مختلفة - خصوصاً من المغرب العربي والخليج - إلى مضافات «القاعدة» في لبنان. وقد تم إيواء جزء كبير منهم في مخيم نهر البارد في شمال لبنان والذي كانت قد سيطرت عليه جماعة «فتح الإسلام» بقيادة شاكر العبسي المنشق عن «فتح الانتفاضة». وكانت ساحة العراق قد سمحت بفتح قنوات اتصال بين الطرفين، إذ كان كلاهما يشارك في إرسال متطوعين للقتال ضد الأميركيين في «بلاد الرافدين».
لكن هذا التمدد السريع لـ «القاعدة» في لبنان (وكذلك في سورية) سرعان ما تعرّض لنكسة شديدة. ففي ربيع عام 2007 بدأت سلسلة من المواجهات بين هؤلاء «الجهاديين» وبين الجيش اللبناني الذي لجأ إلى فرض حصار على معقلهم الأساسي في نهر البارد. وعلى رغم أن المواجهات في المخيّم استمرت منذ أواخر أيار (مايو) وحتى بدايات أيلول (سبتمبر) 2007 وحصدت مئات القتلى من الجانبين، إلا أن حصيلتها كانت واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار: القضاء على كتلة ضخمة من مقاتلي «القاعدة» وعلى النواة الصلبة لـ «فتح الإسلام» في لبنان. بقيت، بلا شك، بعض «الخلايا النائمة» التابعة لهذين التنظيمين والتي قامت أحياناً ببعض التفجيرات، خصوصاً ضد حافلات النقل العام التي تُقل جنوداً لبنانيين. إلا أن جماعة «فتح الإسلام» لم يعد لها وجود يُذكر سوى في جزء صغير من مخيم فلسطيني آخر هو مخيم عين الحلوة قرب صيدا في الجنوب اللبناني، في حين اختفى كلياً أي نشاط لـ «القاعدة» في لبنان، خصوصاً بعد سقوط أمير هذا التنظيم حسن نبعة في قبضة الأجهزة الأمنية اللبنانية. وكما تعرّضت خلايا «القاعدة في بلاد الشام» لنكسة كبيرة في لبنان، فإنها تعرضت لنكسة مماثلة في سورية (ومعها خلايا «فتح الإسلام»). فهذا البلد الذي غض الطرف طويلاً عن نشاط «الجهاديين» على أرضه كونهم يذهبون إلى العراق، بدأ فجأة حملة لا هوادة فيها ضد شبكاتهم. ربما شعر الحكم في سورية بأن لا حاجة له بهم الآن بعدما ساعدوه في الصمود في وجه الضغوط الهائلة التي مارستها إدارة جورج بوش (التي أغرقها «الجهاديون» في «مستنقع عراقي»). وربما شعرت سورية أيضاً بأن نشاط «الجهاديين» قد خرج عن القيود المفروضة وصار يسبب قلقاً أمنياً على أمن البلد نفسه. ومهما كانت الحقيقة، فإن النتيجة التي لا خلاف عليها هي أن «القاعدة» و 'فتح الإسلام' وجدتا باب سورية موصداً في وجهيهما كما أوصد من قبل باب لبنان أمامهما.
مصدر: الوجه الآخر لـ«القاعدة» - كميل الطويل
رم - محرر الشؤون السياسية
أبو مصعب الزرقاوي كان واحداً من المنسحبين العرب من أفغانستان بعد إنهيار حكم حركة «طالبان» المستمر منذ العام 1996، ورحل معه أي نفوذ لتنظيم «القاعدة» الذي تشتت بالكامل في أعقاب معركة تورا بورا، في نهاية كانون الأول (ديسمبر) 2001.. وبما أنه كان على ارتباط وثيق بمجموعة من رفاقه الأردنيين والفلسطينيين الذين بنوا معسكراً لهم تحت عباءة تنظيم «أنصار الإسلام» في كردستان العراقية منذ التسعينات، فقد كان طبيعياً أن يلتحق بهم هناك. انتقل الزرقاوي إلى العراق وعينه، على الأرجح، منصبّة على بلده الأم الأردن، وليس لأنه كان يتوقع أن الأميركيين سيغزون في 2003 «بلاد الرافدين» بهدف إطاحة حكم صدام حسين.
يقول الليبي بن عثمان الذي كان بحكم اتصالاته الواسعة مع «الجهاديين العرب» في أفغانستان على احتكاك وثيق مع أعضاء في مجموعة الزرقاوي، إن الأخير كانت لديه تحفظات شرعية عن بعض سياسات حركة «طالبان»، إذ كان يراها «متساهلة» في أمور عقائدية مرتبطة مثلاً بمسألة الولاء والبراء. ويوضح: «كانت لأبي مصعب بعض الملاحظات (على «طالبان) إنطلاقاً من قضايا التوحيد والولاء والبراء التي كان يعتبر أنها يجب أن تكون صافية تماماً لا تشوبها شائبة. بقي مع مجموعة تضم قرابة 80 شخصاً في لوغر- وقد تغديت معهم هناك في موقعهم الذي كان بيتاً قديماً لقلب الدين حكمتيار. أكثر من 99 في المئة من عناصر المجموعة كانوا أردنيين أو فلسطينيين. حافظ الزرقاوي على مجموعته الخاصة هذه في أفغانستان وتولى قيادتها. بعد سقوط نظام حركة «طالبان» انتقل إلى العراق وقطن في أحد أحياء بغداد، ولكن هدفه كان الأردن.
ويقول بن عثمان إن «القاعدة» نجحت في بناء أول فرع فعّال لها عندما تمكنت من استقطاب الزرقاوي. ويوضح: «خدم انضمامه القاعدة في شكل كبير، لكنه جاء عليها أيضاً بأمور سلبية. ففي الجانب الإيجابي أعطى الزرقاوي «القاعدة» ما كانت تسعى إليه: وجود قتالي عسكري في شكل يومي ضد المحتلين الأميركيين في منطقة عربية. سلّم الزرقاوي «القاعدة» جماعة جاهزة لم يبنوها هم. كانت لديه «جماعة التوحيد والجهاد» منذ أيام معسكر هرات، وهو سلّمهم هذه الجماعة جاهزة في الفلوجة عندما انضم إلى «القاعدة» عام 2004». ويتابع: «في المقابل، عندما حصل الانضمام إلى القاعدة هم أعطوه إسمهم، وهذا شكّل مصدر راحة لجماعة التوحيد والجهاد التي كانت تتصارع مع تنظيمات أخرى حتى داخل الفلوجة المحاصرة من الأميركيين. فقد كانت جماعة الزرقاوي تتجادل مع جماعات أخرى حول مسائل من قبيل: من قتل من؟ نحن أم أنتم؟ كانوا يتصارعون حول من يمسك بالمعركة في الشارع الفلاني أو الحي الفلاني. عندما انضم الزرقاوي إلى القاعدة خرج من هذه الدوامة، وصار جزءاً من معركة عالمية وليس جزءاً من صراع محلي ضد جماعة منافسة له. الانضمام وفّر له تفوّقاً على غيره من الجماعات المحلية».
قبل أن ينضم الزرقاوي إلى صفوف «القاعدة» كانت خلاياه قد نجحت في التمدد في أكثر من دولة في المشرق العربي، بما في ذلك سورية التي كانت «الرئة» الخارجية الأساسية التي يتنفس منها «الجهاديون» في العراق. فقد فرض تنظيم الزرقاوي منذ نهايات 2003 سيطرته على المعابر التي تسلكها «قوافل» المتطوعين المتدفقين عبر سورية للمشاركة في قتال الأميركيين. ويوضح بن عثمان في هذا الإطار: «كانت للحدود السورية - العراقية خمسة مداخل يسلكها المتطوعون. مهما كانت الجهة التي تُرسلك إلى العراق لا بد لك من أن تمر عبر هذه النقاط الخمس التي يسيطر عليها الزرقاوي. وقد ورثت القاعدة السيطرة على هذه المعابر بعد انضمامه إليها».
لكن «القاعدة» لم تتمكن أبداً من التحكّم في تصرفات الزرقاوي. وقد أظهرت الأيام مدى الصعوبات التي واجهتها «قيادة القاعدة» (التنظيم الأم) في وزيرستان الباكستانية في إقناع الزرقاوي بتعديل سياساته والخضوع لتوجيهات بن لادن وقادة تنظيمه. بعثت له قيادة «القاعدة» في أكثر من مناسبة برسائل تدعوه فيها إلى تعديل سياساته، مثل الذبح أمام الكاميرا والقتل العشوائي البشع الذي لا يفرّق في كثير من الأحيان بين مواطنين مدنيين عاديين وبين قوات الاحتلال. وعلى ما يبدو، لم يقتنع الزرقاوي أيضاً بالدعوات التي حضته على وقف هجماته ضد من يسميهم الشيعة «الروافض»، على رغم أن هذا العمل يكاد يشعل حرباً أهلية بين العراقيين أنفسهم، كما أنه يثير حنق الإيرانيين الذين يمسكون بعدد كبير من «ضيوفهم» من قادة «القاعدة» الذين فروا من أفغانستان في نهاية العام 2001. لكن الشكاوى ضد أمير فرع «القاعدة» في «بلاد الرافدين» بلغت درجة لم يعد يمكن تجاهلها عندما قرر فتح معركة ضد خصومه من العشائر السنّية التي كانت حاضناً أساسياً لـ «فصائل المقاومة» منذ اليوم الأول للغزو في 2003، وأيضاً عندما انخرط في قتال فصائل المقاومة الأخرى الرافضة الخضوع لإمارته وعلى رأسها «الجيش الإسلامي».
أرسلت «القاعدة» آنذاك رسائل عديدة إلى الزرقاوي تدعوه فيها إلى التعقّل. راسله مثلاً أيمن الظواهري وأبو يحيي الليبي وعطية عبدالرحمن الليبي (الأخير وقّع الرسالة باسم «قيادة القاعدة في وزيرستان»). وعندما بلغت الأمور حداً لم يعد في الإمكان احتمالها قررت «قيادة القاعدة» أن ترسل عراقياً من أبرز قادتها الميدانيين - عبدالهادي العراقي - في محاولة لتسوية النزاعات قبل استفحالها. لكن عبدالهادي سقط من مكمن نصبه له الأميركيون في بلد شرق أوسطي قبل وصوله إلى العراق.
وفي هذا الإطار، يقول بن عثمان إن قيادة «القاعدة» تلقت شكاوى شديدة اللهجة من بعض مؤيديها في شأن تصرفات الزرقاوي. ويوضح أن بعض هذه الشكاوى مصدره «الجيش الإسلامي» الذي نقل إلى متعاطفين مع «القاعدة» في الخليج تفاصيل عن ممارسات منسوبة إلى الزرقاوي وقادة تنظيمه الميدانيين. ويشرح: «نقل الجيش الإسلامي اعتراضاته على تصرفات الزرقاوي إلى علماء وطلبة علم في دول الخليج، مثل السعودية والكويت. كان هناك في الحقيقة تأييد واسع في أوساط الجهاديين في الكويت لـ «الجهاد» في العراق، بحيث كان يتطوّع كثيرون من الشبان الكويتيين لتنفيذ عمليات تفجير في بلاد الرافدين. وما زاد الطين بلة أن أبا مصعب أصر على نقل المعركة إلى الأردن في عملية تفجير الفنادق في عمّان (تشرين الثاني/نوفمبر 2005) بحجة أنها تحوي مكاتب للمخابرات الأميركية. أوقعت التفجيرات عشرات القتلى المدنيين من المسلمين وأثارت استياء واسعاً في العالم العربي».
لم تمر شهور على عملية الفنادق حتى تمكن الأميركيون، في حزيران (يونيو) 2006 من قتل الزرقاوي نفسه في بعقوبة بعد معلومات ساهم الأردنيون، كما يُزعم، في توفيرها عنه.
لكن قبل مقتله كان الزرقاوي قد ساهم ببعض تصرفاته في ضرب أي مشروعية لشن «جهاد» ضد الأميركيين في العراق، حتى في أعين كثير من مناصريه. ذلك أن بعض الشبان الذين التحقوا بـ «الجهاد» في العراق وجدوا أنفسهم منخرطين في أحيان كثيرة في عمليات لا تستهدف الأميركيين بل أطياف من أبناء الشعب العراقي، خصوصاً الشيعة و»الجيش الإسلامي». ويقول بن عثمان إن بعض هؤلاء الجهاديين قد نجح في الفرار من العراق بعدما صار يجد نفسه في معمعة قتل عشوائي لا يمكنه أن يجد لها مبرراً وفق فهمه للشرع الإسلامي. ويوضح في هذا الإطار: «هناك شهود يتمتعون بالصحة والعافية والحرية عادوا إلى ليبيا الآن ويعرفون حقيقة ما حصل في العراق. بعضهم هرب من العراق إلى سورية حيث سلّم نفسه إلى السلطات هناك أو اتصل مباشرة بالسفارة الليبية طالباً إعادته إلى بلاده. وقد أفرجت ليبيا عن هؤلاء اليوم وعادوا إلى بيوتهم. بقوا في العراق 3 أو 4 سنوات، لكنهم قرروا ترك الجهاد هناك والعودة إلى ليبيا. يروون قصصاً عن تمردات حصلت خلال تنفيذ العمليات. فقد كان كثيرون من الشبان يعترضون على القتالات الداخلية، خصوصاً بعد دخول القاعدة في حرب ضد الجيش الإسلامي. صارت تحصل عمليات قتل دموية في ما بينهم، وصارت «القاعدة» تأخذ الشبان للقيام بعمليات من دون أن يعرف المشاركون فيها إلى أين يذهبون. وعندما كان بعضهم يسأل إلى أين نحن ذاهبون، يجيبه مسؤول العملية: لا تسأل حتى نصل إلى الميدان. كانوا يتحججون بالسرية، ولكن الحقيقة أن الهدف كان مرتبطاً بغياب عامل الثقة في أن الشباب سيوافقون على القيام بالعملية إذا ما عرفوا الهدف منها. بعض الليبيين وقعوا في مثل هذه المصيبة. أحدهم وجد نفسه يقاتل الجيش الاسلامي. رأى نفسه يقاتل أخوة يصلون ويكبّرون ويقاتلون الأميركيين. عندما كان ينتقد كان يُقال عنه إنك عميل أو خائن».
ومع غرق «جهاد القاعدة» في العراق في مستنقع الصراعات الداخلية مع بقية فصائل المقاومة واستفادة الأميركيين من ذلك لشن حملة واسعة لطرد «القاعدة» من معاقلها وتفكيك خلاياها، بدأ يُسجّل تراجع ملحوظ في اهتمام «قيادة القاعدة» - التنظيم «الأم» - بما يحصل في «بلاد الرافدين». لم يعد منظّرو التنظيم في وزيرستان يتحدثون سوى في النادر عما يحصل في العراق، وغالباً في إطار إصدار رثاء لقادة قُتلوا أو الإشادة بعمل ما نفّذته «دولة العراق الإسلامية» التي حلّت محل «القاعدة» إثر مقتل الزرقاوي آثار تفجير قامت به «القاعدة» في كربلاء.
ولا شك أن قيادة «القاعدة» ستجد نفسها مضطرة - إن لم تكن قد فعلت ذلك بعد - إلى مراجعة وضع فرعها في العراق لمعرفة هل تسرّعت فعلاً في استنتاج أن «الجهاد» هناك بقيادة الزرقاوي قد «خرج من عنق الزجاجة» ولم يعد في الإمكان وقفه. وعلى رغم الانشقاق الأخير في «الجيش الإسلامي» وظهور قيادة في داخل العراق ترفض موقف قيادة الخارج المعادي لـ «القاعدة»، إلا أن الأوضاع حالياً في بلاد الرافدين تدل على أن تنظيم بن لادن قد أخطأ بلا شك في استنتاجاته في خصوص الأوضاع في هذا البلد. ذلك أن «قاعدة بلاد الرافدين» تعاني في شكل جليّ نزفاً كبيراً يُنذر بانهيار كامل إذا ما استمر على هذه الوتيرة من تساقط سريع للخلايا واحدة تلو الأخرى.
كان أبو مصعب الزرقاوي أول من تنبّه إلى إمكان استغلال الساحتين اللبنانية والسورية لمصلحته، وذلك منذ فترة ما قبل غزو العراق عام 2003. فمنذ أيام أفغانستان كان الزرقاوي يعمل وفق مشروعه الخاص في «بلاد الشام» بعدما فشلت جهود أسامة بن لادن لضمه إلى «القاعدة» في أواخر التسعينات. وكما يقول الليبي نعمان بن عثمان، فقد كان الخلاف بين الرجلين يتركز أساساً على موضوع التكفير، إذ طلب الزرقاوي من بن لادن أن يُكفّر رسمياً إحدى الحكومات العربية، لكن زعيم «القاعدة» رفض ذلك. وعلى هذا الأساس، قرر الزرقاوي أن يقوم بمشروعه «الجهادي» الخاص في بلاد الشام، بما في ذلك الأردن.
كان لدى الزرقاوي في معسكره في هرات شاب لبناني يدعى حسن نبعة ولا يعرفه رفاقه سوى بـ «أبي مسلم»، وهي كنية من بين كنى عدة يحملها هذا الشاب الذي جاء إلى أفغانستان في عام 2000 بعد أحداث الضنّية (شمال لبنان) بين جماعة إسلامية مسلحة وبين الجيش اللبناني. وبعد فترة من التدرب في معسكر خلدن ثم في معسكر هرات، بايع اللبناني الزرقاوي أميراً عليه في إطار «جماعة التوحيد والجهاد». عاد «أبو مسلم» إلى لبنان بعد ذلك لكنه ظل بعيداً من الأنظار حتى ما بعد الحرب الأميركية «ضد الإرهاب» وإطاحة نظام «طالبان» في 2001. في تلك الفترة، كان الزرقاوي قد نجح في مغادرة هرات حيث بدأ التحضير لخطوته المقبلة وهي الانتقال إلى العراق. أرسل الزرقاوي رجلاً سعودياً من القصيم (ف. أ.) كان قد تدرّب في معسكره في هرات وبايعه. جاء السعودي إلى لبنان بهدف فتح قنوات اتصال مع جماعة فلسطينية «جهادية» ناشطة في مخيم عين الحلوة للاجئين في جنوب لبنان وإقناعها بالانضمام إلى «جماعة التوحيد والجهاد». لكنه لم ينجح في مهمته على ما يبدو، إذ بقيت الجماعة الفلسطينية تعمل في شكل مستقل.
غير أن الأحداث كانت تتسارع آنذاك في المنطقة في ظل مؤشرات إلى نية الأميركيين غزو العراق. فبدأ المتطوعون «الجهاديون» يتدفقون على «بلاد الرافدين» من دون أن يكونوا ينضوون إلى جماعة معينة بل كانوا خليطاً من الجماعات. كانت جماعة الزرقاوي (التوحيد والجهاد) واحدة من تلك الجماعات، وسرعان ما انخرطت في المعارك ضد الأميركيين. وكانت تلك المعارك فرصة كي يلتحق «أبو مسلم» اللبناني بأميره الزرقاوي في العراق، حيث خاض إلى جانبه معارك شديدة أبرزها معركة الفلوجة الأولى (نيسان/ابريل 2004).
كان دور اللبناني في هذه المعركة مناسبة لبروز نجمه في شكل سريع. إذ سرعان ما كلّفه الزرقاوي بالانتقال إلى سورية وتولي إمارة «التوحيد والجهاد» في «بلاد الشام» والإشراف بالتالي على شبكات إرسال المتطوعين إلى «بلاد الرافدين». كما عيّن الزرقاوي نائباً سورياً للأمير اللبناني هو سليمان درويش (أبو الغادية). افتتح الأمير «أبو مسلم»، أو كما بات يعرفه الذين يبايعونه في سورية باسم «الشيخ راشد»، مضافات مختلفة لاستيعاب المتطوعين «الجهاديين» كان أبرزها ثلاث مضافات في حمص وحلب ودمشق، إضافة إلى شبكة مضافات مختلفة في لبنان، أُخفي بعضها في مناطق ذات غالبية مسيحية لإبعاد الشبهات عنها (إحداها في منطقة عين الرمانة). وكان معظم التمويل الذي يأتي لفرع «التوحيد والجهاد» في «بلاد الشام» يشرف على تأمينه السعودي «ف. أ.» الذي كان يتنقل عبر أكثر من دولة في الشرق الأوسط من دون أن يثير شكوك أجهزة الأمن. وكاد هذا السعودي أن ينكشف في إحدى المرات عندما كان في سيارة تقل أربعة من «الجهاديين» في مدينة حلب حين انفجرت فيهم عبوة ناسفة كانوا ينقلونها، فقُتل اثنان من ركابها (أحدهما تركي) وأصيب الآخران. ولكن في حين قبضت الأجهزة السورية على أحد الجريحين، تمكن السعودي من الوصول إلى إحدى المضافات في المدينة حيث عولج وعاود نشاطه.
وشهدت «إمارة» حسن نبعة لفرع «التوحيد والجهاد» في «بلاد الشام» في أواخر عام 2004 انشقاقاً قاده أحد القادة المحليين ويدعى «أبو أنس» الذي صار يطلب من مناصريه أن يبايعونه هو وليس اللبناني. وقد حاول الزرقاوي التوسط بين الرجلين وحل خلافاتهما ولكن من دون جدوى.
ومع انتهاء معركة الفلوجة الثانية في كانون الأول (ديسمبر) 2004 أعلن الزرقاوي مبايعته أسامة بن لادن الذي عيّنه أميراً على فرع «القاعدة» في «بلاد الرافدين». ومع تحوّل جماعة «التوحيد والجهاد» في العراق إلى فرع لـ «القاعدة» بقيادة الزرقاوي، تحوّل نبعة بدوره إلى أمير لفرع «القاعدة ببلاد الشام»، وإن كانت علاقته المباشرة بقيت محصورة بالزرقاوي وليس بـ «قيادة القاعدة» في وزيرستان. كما أن نشاط فرع «بلاد الشام» بقي محصوراً في سورية ولبنان، بما في ذلك المخيمات الفلسطينية فيه، من دون أن يتمدد إلى الأردن الذي بقي على ما يبدو مرتبطاً مباشرة بالزرقاوي في العراق.
في النصف الثاني من عام 2006 كان نشاط فرع «القاعدة في بلاد الشام» قد بلغ ذروته، إذ تدفق آنذاك مئات «الجهاديين» من دول مختلفة - خصوصاً من المغرب العربي والخليج - إلى مضافات «القاعدة» في لبنان. وقد تم إيواء جزء كبير منهم في مخيم نهر البارد في شمال لبنان والذي كانت قد سيطرت عليه جماعة «فتح الإسلام» بقيادة شاكر العبسي المنشق عن «فتح الانتفاضة». وكانت ساحة العراق قد سمحت بفتح قنوات اتصال بين الطرفين، إذ كان كلاهما يشارك في إرسال متطوعين للقتال ضد الأميركيين في «بلاد الرافدين».
لكن هذا التمدد السريع لـ «القاعدة» في لبنان (وكذلك في سورية) سرعان ما تعرّض لنكسة شديدة. ففي ربيع عام 2007 بدأت سلسلة من المواجهات بين هؤلاء «الجهاديين» وبين الجيش اللبناني الذي لجأ إلى فرض حصار على معقلهم الأساسي في نهر البارد. وعلى رغم أن المواجهات في المخيّم استمرت منذ أواخر أيار (مايو) وحتى بدايات أيلول (سبتمبر) 2007 وحصدت مئات القتلى من الجانبين، إلا أن حصيلتها كانت واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار: القضاء على كتلة ضخمة من مقاتلي «القاعدة» وعلى النواة الصلبة لـ «فتح الإسلام» في لبنان. بقيت، بلا شك، بعض «الخلايا النائمة» التابعة لهذين التنظيمين والتي قامت أحياناً ببعض التفجيرات، خصوصاً ضد حافلات النقل العام التي تُقل جنوداً لبنانيين. إلا أن جماعة «فتح الإسلام» لم يعد لها وجود يُذكر سوى في جزء صغير من مخيم فلسطيني آخر هو مخيم عين الحلوة قرب صيدا في الجنوب اللبناني، في حين اختفى كلياً أي نشاط لـ «القاعدة» في لبنان، خصوصاً بعد سقوط أمير هذا التنظيم حسن نبعة في قبضة الأجهزة الأمنية اللبنانية. وكما تعرّضت خلايا «القاعدة في بلاد الشام» لنكسة كبيرة في لبنان، فإنها تعرضت لنكسة مماثلة في سورية (ومعها خلايا «فتح الإسلام»). فهذا البلد الذي غض الطرف طويلاً عن نشاط «الجهاديين» على أرضه كونهم يذهبون إلى العراق، بدأ فجأة حملة لا هوادة فيها ضد شبكاتهم. ربما شعر الحكم في سورية بأن لا حاجة له بهم الآن بعدما ساعدوه في الصمود في وجه الضغوط الهائلة التي مارستها إدارة جورج بوش (التي أغرقها «الجهاديون» في «مستنقع عراقي»). وربما شعرت سورية أيضاً بأن نشاط «الجهاديين» قد خرج عن القيود المفروضة وصار يسبب قلقاً أمنياً على أمن البلد نفسه. ومهما كانت الحقيقة، فإن النتيجة التي لا خلاف عليها هي أن «القاعدة» و 'فتح الإسلام' وجدتا باب سورية موصداً في وجهيهما كما أوصد من قبل باب لبنان أمامهما.
مصدر: الوجه الآخر لـ«القاعدة» - كميل الطويل
رم - محرر الشؤون السياسية
أبو مصعب الزرقاوي كان واحداً من المنسحبين العرب من أفغانستان بعد إنهيار حكم حركة «طالبان» المستمر منذ العام 1996، ورحل معه أي نفوذ لتنظيم «القاعدة» الذي تشتت بالكامل في أعقاب معركة تورا بورا، في نهاية كانون الأول (ديسمبر) 2001.. وبما أنه كان على ارتباط وثيق بمجموعة من رفاقه الأردنيين والفلسطينيين الذين بنوا معسكراً لهم تحت عباءة تنظيم «أنصار الإسلام» في كردستان العراقية منذ التسعينات، فقد كان طبيعياً أن يلتحق بهم هناك. انتقل الزرقاوي إلى العراق وعينه، على الأرجح، منصبّة على بلده الأم الأردن، وليس لأنه كان يتوقع أن الأميركيين سيغزون في 2003 «بلاد الرافدين» بهدف إطاحة حكم صدام حسين.
يقول الليبي بن عثمان الذي كان بحكم اتصالاته الواسعة مع «الجهاديين العرب» في أفغانستان على احتكاك وثيق مع أعضاء في مجموعة الزرقاوي، إن الأخير كانت لديه تحفظات شرعية عن بعض سياسات حركة «طالبان»، إذ كان يراها «متساهلة» في أمور عقائدية مرتبطة مثلاً بمسألة الولاء والبراء. ويوضح: «كانت لأبي مصعب بعض الملاحظات (على «طالبان) إنطلاقاً من قضايا التوحيد والولاء والبراء التي كان يعتبر أنها يجب أن تكون صافية تماماً لا تشوبها شائبة. بقي مع مجموعة تضم قرابة 80 شخصاً في لوغر- وقد تغديت معهم هناك في موقعهم الذي كان بيتاً قديماً لقلب الدين حكمتيار. أكثر من 99 في المئة من عناصر المجموعة كانوا أردنيين أو فلسطينيين. حافظ الزرقاوي على مجموعته الخاصة هذه في أفغانستان وتولى قيادتها. بعد سقوط نظام حركة «طالبان» انتقل إلى العراق وقطن في أحد أحياء بغداد، ولكن هدفه كان الأردن.
ويقول بن عثمان إن «القاعدة» نجحت في بناء أول فرع فعّال لها عندما تمكنت من استقطاب الزرقاوي. ويوضح: «خدم انضمامه القاعدة في شكل كبير، لكنه جاء عليها أيضاً بأمور سلبية. ففي الجانب الإيجابي أعطى الزرقاوي «القاعدة» ما كانت تسعى إليه: وجود قتالي عسكري في شكل يومي ضد المحتلين الأميركيين في منطقة عربية. سلّم الزرقاوي «القاعدة» جماعة جاهزة لم يبنوها هم. كانت لديه «جماعة التوحيد والجهاد» منذ أيام معسكر هرات، وهو سلّمهم هذه الجماعة جاهزة في الفلوجة عندما انضم إلى «القاعدة» عام 2004». ويتابع: «في المقابل، عندما حصل الانضمام إلى القاعدة هم أعطوه إسمهم، وهذا شكّل مصدر راحة لجماعة التوحيد والجهاد التي كانت تتصارع مع تنظيمات أخرى حتى داخل الفلوجة المحاصرة من الأميركيين. فقد كانت جماعة الزرقاوي تتجادل مع جماعات أخرى حول مسائل من قبيل: من قتل من؟ نحن أم أنتم؟ كانوا يتصارعون حول من يمسك بالمعركة في الشارع الفلاني أو الحي الفلاني. عندما انضم الزرقاوي إلى القاعدة خرج من هذه الدوامة، وصار جزءاً من معركة عالمية وليس جزءاً من صراع محلي ضد جماعة منافسة له. الانضمام وفّر له تفوّقاً على غيره من الجماعات المحلية».
قبل أن ينضم الزرقاوي إلى صفوف «القاعدة» كانت خلاياه قد نجحت في التمدد في أكثر من دولة في المشرق العربي، بما في ذلك سورية التي كانت «الرئة» الخارجية الأساسية التي يتنفس منها «الجهاديون» في العراق. فقد فرض تنظيم الزرقاوي منذ نهايات 2003 سيطرته على المعابر التي تسلكها «قوافل» المتطوعين المتدفقين عبر سورية للمشاركة في قتال الأميركيين. ويوضح بن عثمان في هذا الإطار: «كانت للحدود السورية - العراقية خمسة مداخل يسلكها المتطوعون. مهما كانت الجهة التي تُرسلك إلى العراق لا بد لك من أن تمر عبر هذه النقاط الخمس التي يسيطر عليها الزرقاوي. وقد ورثت القاعدة السيطرة على هذه المعابر بعد انضمامه إليها».
لكن «القاعدة» لم تتمكن أبداً من التحكّم في تصرفات الزرقاوي. وقد أظهرت الأيام مدى الصعوبات التي واجهتها «قيادة القاعدة» (التنظيم الأم) في وزيرستان الباكستانية في إقناع الزرقاوي بتعديل سياساته والخضوع لتوجيهات بن لادن وقادة تنظيمه. بعثت له قيادة «القاعدة» في أكثر من مناسبة برسائل تدعوه فيها إلى تعديل سياساته، مثل الذبح أمام الكاميرا والقتل العشوائي البشع الذي لا يفرّق في كثير من الأحيان بين مواطنين مدنيين عاديين وبين قوات الاحتلال. وعلى ما يبدو، لم يقتنع الزرقاوي أيضاً بالدعوات التي حضته على وقف هجماته ضد من يسميهم الشيعة «الروافض»، على رغم أن هذا العمل يكاد يشعل حرباً أهلية بين العراقيين أنفسهم، كما أنه يثير حنق الإيرانيين الذين يمسكون بعدد كبير من «ضيوفهم» من قادة «القاعدة» الذين فروا من أفغانستان في نهاية العام 2001. لكن الشكاوى ضد أمير فرع «القاعدة» في «بلاد الرافدين» بلغت درجة لم يعد يمكن تجاهلها عندما قرر فتح معركة ضد خصومه من العشائر السنّية التي كانت حاضناً أساسياً لـ «فصائل المقاومة» منذ اليوم الأول للغزو في 2003، وأيضاً عندما انخرط في قتال فصائل المقاومة الأخرى الرافضة الخضوع لإمارته وعلى رأسها «الجيش الإسلامي».
أرسلت «القاعدة» آنذاك رسائل عديدة إلى الزرقاوي تدعوه فيها إلى التعقّل. راسله مثلاً أيمن الظواهري وأبو يحيي الليبي وعطية عبدالرحمن الليبي (الأخير وقّع الرسالة باسم «قيادة القاعدة في وزيرستان»). وعندما بلغت الأمور حداً لم يعد في الإمكان احتمالها قررت «قيادة القاعدة» أن ترسل عراقياً من أبرز قادتها الميدانيين - عبدالهادي العراقي - في محاولة لتسوية النزاعات قبل استفحالها. لكن عبدالهادي سقط من مكمن نصبه له الأميركيون في بلد شرق أوسطي قبل وصوله إلى العراق.
وفي هذا الإطار، يقول بن عثمان إن قيادة «القاعدة» تلقت شكاوى شديدة اللهجة من بعض مؤيديها في شأن تصرفات الزرقاوي. ويوضح أن بعض هذه الشكاوى مصدره «الجيش الإسلامي» الذي نقل إلى متعاطفين مع «القاعدة» في الخليج تفاصيل عن ممارسات منسوبة إلى الزرقاوي وقادة تنظيمه الميدانيين. ويشرح: «نقل الجيش الإسلامي اعتراضاته على تصرفات الزرقاوي إلى علماء وطلبة علم في دول الخليج، مثل السعودية والكويت. كان هناك في الحقيقة تأييد واسع في أوساط الجهاديين في الكويت لـ «الجهاد» في العراق، بحيث كان يتطوّع كثيرون من الشبان الكويتيين لتنفيذ عمليات تفجير في بلاد الرافدين. وما زاد الطين بلة أن أبا مصعب أصر على نقل المعركة إلى الأردن في عملية تفجير الفنادق في عمّان (تشرين الثاني/نوفمبر 2005) بحجة أنها تحوي مكاتب للمخابرات الأميركية. أوقعت التفجيرات عشرات القتلى المدنيين من المسلمين وأثارت استياء واسعاً في العالم العربي».
لم تمر شهور على عملية الفنادق حتى تمكن الأميركيون، في حزيران (يونيو) 2006 من قتل الزرقاوي نفسه في بعقوبة بعد معلومات ساهم الأردنيون، كما يُزعم، في توفيرها عنه.
لكن قبل مقتله كان الزرقاوي قد ساهم ببعض تصرفاته في ضرب أي مشروعية لشن «جهاد» ضد الأميركيين في العراق، حتى في أعين كثير من مناصريه. ذلك أن بعض الشبان الذين التحقوا بـ «الجهاد» في العراق وجدوا أنفسهم منخرطين في أحيان كثيرة في عمليات لا تستهدف الأميركيين بل أطياف من أبناء الشعب العراقي، خصوصاً الشيعة و»الجيش الإسلامي». ويقول بن عثمان إن بعض هؤلاء الجهاديين قد نجح في الفرار من العراق بعدما صار يجد نفسه في معمعة قتل عشوائي لا يمكنه أن يجد لها مبرراً وفق فهمه للشرع الإسلامي. ويوضح في هذا الإطار: «هناك شهود يتمتعون بالصحة والعافية والحرية عادوا إلى ليبيا الآن ويعرفون حقيقة ما حصل في العراق. بعضهم هرب من العراق إلى سورية حيث سلّم نفسه إلى السلطات هناك أو اتصل مباشرة بالسفارة الليبية طالباً إعادته إلى بلاده. وقد أفرجت ليبيا عن هؤلاء اليوم وعادوا إلى بيوتهم. بقوا في العراق 3 أو 4 سنوات، لكنهم قرروا ترك الجهاد هناك والعودة إلى ليبيا. يروون قصصاً عن تمردات حصلت خلال تنفيذ العمليات. فقد كان كثيرون من الشبان يعترضون على القتالات الداخلية، خصوصاً بعد دخول القاعدة في حرب ضد الجيش الإسلامي. صارت تحصل عمليات قتل دموية في ما بينهم، وصارت «القاعدة» تأخذ الشبان للقيام بعمليات من دون أن يعرف المشاركون فيها إلى أين يذهبون. وعندما كان بعضهم يسأل إلى أين نحن ذاهبون، يجيبه مسؤول العملية: لا تسأل حتى نصل إلى الميدان. كانوا يتحججون بالسرية، ولكن الحقيقة أن الهدف كان مرتبطاً بغياب عامل الثقة في أن الشباب سيوافقون على القيام بالعملية إذا ما عرفوا الهدف منها. بعض الليبيين وقعوا في مثل هذه المصيبة. أحدهم وجد نفسه يقاتل الجيش الاسلامي. رأى نفسه يقاتل أخوة يصلون ويكبّرون ويقاتلون الأميركيين. عندما كان ينتقد كان يُقال عنه إنك عميل أو خائن».
ومع غرق «جهاد القاعدة» في العراق في مستنقع الصراعات الداخلية مع بقية فصائل المقاومة واستفادة الأميركيين من ذلك لشن حملة واسعة لطرد «القاعدة» من معاقلها وتفكيك خلاياها، بدأ يُسجّل تراجع ملحوظ في اهتمام «قيادة القاعدة» - التنظيم «الأم» - بما يحصل في «بلاد الرافدين». لم يعد منظّرو التنظيم في وزيرستان يتحدثون سوى في النادر عما يحصل في العراق، وغالباً في إطار إصدار رثاء لقادة قُتلوا أو الإشادة بعمل ما نفّذته «دولة العراق الإسلامية» التي حلّت محل «القاعدة» إثر مقتل الزرقاوي آثار تفجير قامت به «القاعدة» في كربلاء.
ولا شك أن قيادة «القاعدة» ستجد نفسها مضطرة - إن لم تكن قد فعلت ذلك بعد - إلى مراجعة وضع فرعها في العراق لمعرفة هل تسرّعت فعلاً في استنتاج أن «الجهاد» هناك بقيادة الزرقاوي قد «خرج من عنق الزجاجة» ولم يعد في الإمكان وقفه. وعلى رغم الانشقاق الأخير في «الجيش الإسلامي» وظهور قيادة في داخل العراق ترفض موقف قيادة الخارج المعادي لـ «القاعدة»، إلا أن الأوضاع حالياً في بلاد الرافدين تدل على أن تنظيم بن لادن قد أخطأ بلا شك في استنتاجاته في خصوص الأوضاع في هذا البلد. ذلك أن «قاعدة بلاد الرافدين» تعاني في شكل جليّ نزفاً كبيراً يُنذر بانهيار كامل إذا ما استمر على هذه الوتيرة من تساقط سريع للخلايا واحدة تلو الأخرى.
كان أبو مصعب الزرقاوي أول من تنبّه إلى إمكان استغلال الساحتين اللبنانية والسورية لمصلحته، وذلك منذ فترة ما قبل غزو العراق عام 2003. فمنذ أيام أفغانستان كان الزرقاوي يعمل وفق مشروعه الخاص في «بلاد الشام» بعدما فشلت جهود أسامة بن لادن لضمه إلى «القاعدة» في أواخر التسعينات. وكما يقول الليبي نعمان بن عثمان، فقد كان الخلاف بين الرجلين يتركز أساساً على موضوع التكفير، إذ طلب الزرقاوي من بن لادن أن يُكفّر رسمياً إحدى الحكومات العربية، لكن زعيم «القاعدة» رفض ذلك. وعلى هذا الأساس، قرر الزرقاوي أن يقوم بمشروعه «الجهادي» الخاص في بلاد الشام، بما في ذلك الأردن.
كان لدى الزرقاوي في معسكره في هرات شاب لبناني يدعى حسن نبعة ولا يعرفه رفاقه سوى بـ «أبي مسلم»، وهي كنية من بين كنى عدة يحملها هذا الشاب الذي جاء إلى أفغانستان في عام 2000 بعد أحداث الضنّية (شمال لبنان) بين جماعة إسلامية مسلحة وبين الجيش اللبناني. وبعد فترة من التدرب في معسكر خلدن ثم في معسكر هرات، بايع اللبناني الزرقاوي أميراً عليه في إطار «جماعة التوحيد والجهاد». عاد «أبو مسلم» إلى لبنان بعد ذلك لكنه ظل بعيداً من الأنظار حتى ما بعد الحرب الأميركية «ضد الإرهاب» وإطاحة نظام «طالبان» في 2001. في تلك الفترة، كان الزرقاوي قد نجح في مغادرة هرات حيث بدأ التحضير لخطوته المقبلة وهي الانتقال إلى العراق. أرسل الزرقاوي رجلاً سعودياً من القصيم (ف. أ.) كان قد تدرّب في معسكره في هرات وبايعه. جاء السعودي إلى لبنان بهدف فتح قنوات اتصال مع جماعة فلسطينية «جهادية» ناشطة في مخيم عين الحلوة للاجئين في جنوب لبنان وإقناعها بالانضمام إلى «جماعة التوحيد والجهاد». لكنه لم ينجح في مهمته على ما يبدو، إذ بقيت الجماعة الفلسطينية تعمل في شكل مستقل.
غير أن الأحداث كانت تتسارع آنذاك في المنطقة في ظل مؤشرات إلى نية الأميركيين غزو العراق. فبدأ المتطوعون «الجهاديون» يتدفقون على «بلاد الرافدين» من دون أن يكونوا ينضوون إلى جماعة معينة بل كانوا خليطاً من الجماعات. كانت جماعة الزرقاوي (التوحيد والجهاد) واحدة من تلك الجماعات، وسرعان ما انخرطت في المعارك ضد الأميركيين. وكانت تلك المعارك فرصة كي يلتحق «أبو مسلم» اللبناني بأميره الزرقاوي في العراق، حيث خاض إلى جانبه معارك شديدة أبرزها معركة الفلوجة الأولى (نيسان/ابريل 2004).
كان دور اللبناني في هذه المعركة مناسبة لبروز نجمه في شكل سريع. إذ سرعان ما كلّفه الزرقاوي بالانتقال إلى سورية وتولي إمارة «التوحيد والجهاد» في «بلاد الشام» والإشراف بالتالي على شبكات إرسال المتطوعين إلى «بلاد الرافدين». كما عيّن الزرقاوي نائباً سورياً للأمير اللبناني هو سليمان درويش (أبو الغادية). افتتح الأمير «أبو مسلم»، أو كما بات يعرفه الذين يبايعونه في سورية باسم «الشيخ راشد»، مضافات مختلفة لاستيعاب المتطوعين «الجهاديين» كان أبرزها ثلاث مضافات في حمص وحلب ودمشق، إضافة إلى شبكة مضافات مختلفة في لبنان، أُخفي بعضها في مناطق ذات غالبية مسيحية لإبعاد الشبهات عنها (إحداها في منطقة عين الرمانة). وكان معظم التمويل الذي يأتي لفرع «التوحيد والجهاد» في «بلاد الشام» يشرف على تأمينه السعودي «ف. أ.» الذي كان يتنقل عبر أكثر من دولة في الشرق الأوسط من دون أن يثير شكوك أجهزة الأمن. وكاد هذا السعودي أن ينكشف في إحدى المرات عندما كان في سيارة تقل أربعة من «الجهاديين» في مدينة حلب حين انفجرت فيهم عبوة ناسفة كانوا ينقلونها، فقُتل اثنان من ركابها (أحدهما تركي) وأصيب الآخران. ولكن في حين قبضت الأجهزة السورية على أحد الجريحين، تمكن السعودي من الوصول إلى إحدى المضافات في المدينة حيث عولج وعاود نشاطه.
وشهدت «إمارة» حسن نبعة لفرع «التوحيد والجهاد» في «بلاد الشام» في أواخر عام 2004 انشقاقاً قاده أحد القادة المحليين ويدعى «أبو أنس» الذي صار يطلب من مناصريه أن يبايعونه هو وليس اللبناني. وقد حاول الزرقاوي التوسط بين الرجلين وحل خلافاتهما ولكن من دون جدوى.
ومع انتهاء معركة الفلوجة الثانية في كانون الأول (ديسمبر) 2004 أعلن الزرقاوي مبايعته أسامة بن لادن الذي عيّنه أميراً على فرع «القاعدة» في «بلاد الرافدين». ومع تحوّل جماعة «التوحيد والجهاد» في العراق إلى فرع لـ «القاعدة» بقيادة الزرقاوي، تحوّل نبعة بدوره إلى أمير لفرع «القاعدة ببلاد الشام»، وإن كانت علاقته المباشرة بقيت محصورة بالزرقاوي وليس بـ «قيادة القاعدة» في وزيرستان. كما أن نشاط فرع «بلاد الشام» بقي محصوراً في سورية ولبنان، بما في ذلك المخيمات الفلسطينية فيه، من دون أن يتمدد إلى الأردن الذي بقي على ما يبدو مرتبطاً مباشرة بالزرقاوي في العراق.
في النصف الثاني من عام 2006 كان نشاط فرع «القاعدة في بلاد الشام» قد بلغ ذروته، إذ تدفق آنذاك مئات «الجهاديين» من دول مختلفة - خصوصاً من المغرب العربي والخليج - إلى مضافات «القاعدة» في لبنان. وقد تم إيواء جزء كبير منهم في مخيم نهر البارد في شمال لبنان والذي كانت قد سيطرت عليه جماعة «فتح الإسلام» بقيادة شاكر العبسي المنشق عن «فتح الانتفاضة». وكانت ساحة العراق قد سمحت بفتح قنوات اتصال بين الطرفين، إذ كان كلاهما يشارك في إرسال متطوعين للقتال ضد الأميركيين في «بلاد الرافدين».
لكن هذا التمدد السريع لـ «القاعدة» في لبنان (وكذلك في سورية) سرعان ما تعرّض لنكسة شديدة. ففي ربيع عام 2007 بدأت سلسلة من المواجهات بين هؤلاء «الجهاديين» وبين الجيش اللبناني الذي لجأ إلى فرض حصار على معقلهم الأساسي في نهر البارد. وعلى رغم أن المواجهات في المخيّم استمرت منذ أواخر أيار (مايو) وحتى بدايات أيلول (سبتمبر) 2007 وحصدت مئات القتلى من الجانبين، إلا أن حصيلتها كانت واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار: القضاء على كتلة ضخمة من مقاتلي «القاعدة» وعلى النواة الصلبة لـ «فتح الإسلام» في لبنان. بقيت، بلا شك، بعض «الخلايا النائمة» التابعة لهذين التنظيمين والتي قامت أحياناً ببعض التفجيرات، خصوصاً ضد حافلات النقل العام التي تُقل جنوداً لبنانيين. إلا أن جماعة «فتح الإسلام» لم يعد لها وجود يُذكر سوى في جزء صغير من مخيم فلسطيني آخر هو مخيم عين الحلوة قرب صيدا في الجنوب اللبناني، في حين اختفى كلياً أي نشاط لـ «القاعدة» في لبنان، خصوصاً بعد سقوط أمير هذا التنظيم حسن نبعة في قبضة الأجهزة الأمنية اللبنانية. وكما تعرّضت خلايا «القاعدة في بلاد الشام» لنكسة كبيرة في لبنان، فإنها تعرضت لنكسة مماثلة في سورية (ومعها خلايا «فتح الإسلام»). فهذا البلد الذي غض الطرف طويلاً عن نشاط «الجهاديين» على أرضه كونهم يذهبون إلى العراق، بدأ فجأة حملة لا هوادة فيها ضد شبكاتهم. ربما شعر الحكم في سورية بأن لا حاجة له بهم الآن بعدما ساعدوه في الصمود في وجه الضغوط الهائلة التي مارستها إدارة جورج بوش (التي أغرقها «الجهاديون» في «مستنقع عراقي»). وربما شعرت سورية أيضاً بأن نشاط «الجهاديين» قد خرج عن القيود المفروضة وصار يسبب قلقاً أمنياً على أمن البلد نفسه. ومهما كانت الحقيقة، فإن النتيجة التي لا خلاف عليها هي أن «القاعدة» و 'فتح الإسلام' وجدتا باب سورية موصداً في وجهيهما كما أوصد من قبل باب لبنان أمامهما.
مصدر: الوجه الآخر لـ«القاعدة» - كميل الطويل
التعليقات