الحياصات يكتب : حين تُدار الهوية بالخوف لا بالدين


رم -

أ‌. د. علي حياصات
لا يمكن فهم الجدل المتكرر حول معايدة المسلم للمسيحي إلا باعتباره جزءًا من معركة أوسع على الوعي، تُدار باسم الدين لكنها في جوهرها سياسية وثقافية. فالمسألة لم تعد سؤالًا فقهيًا بسيطًا، بل أداة لفرز المجتمع، وشدّ العصبية.
السؤال المنطقي الذي يتم تجاهله عمدًا ، هو كيف أباح الإسلام زواج المسلم من كتابية تبقى على دينها وطقوسها، وتشاركه أدق تفاصيل الحياة اليومية، ثم يَضيق اليوم عن كلمة تهنئة في مناسبة دينية؟ إذا كان التعايش مقبولًا داخل بيت واحد، فكيف يصبح مرفوضًا في المجتمع؟ وأي منطق ديني يجعل الزواج أهون من المعايدة؟
هذا التناقض يعكس طريقة انتقائية في قراءة النصوص والتاريخ. فكما يُختزل التاريخ العربي الإسلامي في لحظات صراع ويُهمل تاريخه الطويل من التعايش، يُختزل الدين في آراء محددة تُقدَّم وكأنها الحقيقة الوحيدة. والأخطر أن الخطاب الذي يرفض اليوم معايدة أتباع دين آخر لا يتوقف عند هذا الحد، بل يفتح الباب لإقصاء كل من يختلف في الرأي، ثم من يختلف في الاجتهاد، ثم حتى من ينتمي إلى الدين والطائفة نفسها. هذا ليس دفاعًا عن العقيدة، بل تغول على الآخر واحتكار للحقيقة باسم الدين.
في الواقع الأردني والعربي، حيث التعدد الديني والمجتمعي حقيقة يومية، يبدو هذا الخطاب منفصلًا عن المجتمع بقدر ما هو مرتبط بصراعات أيديولوجية عابرة للحدود. العلاقة بين المسلمين والمسيحيين لم تُبنَ تاريخيًا على فتاوى موسمية، بل على شراكة يومية في الحياة والعمل والوطن. لكن هذا التاريخ لا يخدم خطاب التشدد، فيُهمش، بينما تُستحضَر قراءات ضيقة على أنها تمثل الحرص الوحيد على الهوية.
المفارقة أن هذا الخطاب لا يحمي الدين بقدر ما يُفرغه من روحه. فهو يتجاهل المقاصد، ويتغافل عن أثر الفتوى على السلم الاجتماعي، ويحوّل الدين من منظومة قيم جامعة إلى أداة ضبط وخوف. وهكذا تُدار الهوية بالتحريم بدل الثقة، ويُعاد إنتاج الانقسام داخل المجتمع الواحد عامًا بعد عام.
في النهاية، ليست المشكلة في المعايدة، بل في العقل الذي يخاف من كلمة تهنئة، ولا يخاف من تفكيك النسيج الاجتماعي. وليست في النص الديني، بل في القراءة التي تفصله عن مقاصده. فالدين الذي قبل التعايش في أعمق العلاقات الإنسانية لا يمكن أن يرفضه في أبسط مظاهره، إلا إذا كان الهدف ليس حماية العقيدة، بل إدارة الخلاف باسمها. فالمسألة في جوهرها ليست كلمة تهنئة، بل سلطة تُمارس باسم الدين، تبدأ بمنع كلمة، ثم تتوسع لإقصاء المختلف، وتنتهي باحتكار الحقيقة، وحين تُحتكر الحقيقة لا يبقى مجتمع ، بل طاعة مفروضة.




عدد المشاهدات : (4536)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :