الموازنة العامة بين تخبط الادراة وضعف الرقابة


رم -


الدكتور هاشم احمد بلص
تُعدّ الموازنة العامة للدولة الوثيقة المالية الأهم في المنظومة الاقتصادية والقانونية، فهي التي تعكس التوجهات الحكومية وتُجسّد أولويات الدولة وتحدّد قدرتها على مواجهة التحديات، ومع ذلك، فإن مشروع قانون الموازنة العامة لسنة (2026) يكشف عن جملة من الإشكاليات البنيوية التي تعكس ضعفاً في الرؤية الاقتصادية، وتراجعاً في القدرة الحكومية على توجيه الاقتصاد الوطني، إضافة إلى ضعف الدور الرقابي والتشريعي لمجلس النواب في معالجة الاختلالات الواردة في المشروع.
فقد نصت المادة (112) من الدستور الأردني على أن الموازنة يجب أن تتضمن تقديراً للإيرادات والنفقات للسنة المالية، وأن تكون مبنية على أسس واقعية تعكس حاجات الدولة وإمكاناتها. إلا أن مشروع الموازنة لا يزال يُعاني من ضعف في تحقيق هذه المتطلبات، ويتسم بعدم وضوح تقدير الإيرادات، حيث تعتمد الحكومة على تقديرات تفاؤلية للإيرادات الضريبية وغير الضريبية، دون مؤشرات اقتصادية داعمة أو خطط إصلاحية حقيقية تُبرر ارتفاع هذه الإيرادات.
إن غياب بيان واضح للأسس القانونية التي استندت إليها الحكومة في احتساب بعض البنود، يُضعف الرقابة الدستورية والبرلمانية على مشروعية التقديرات، كما ويتضح عدم توازن بين الإيرادات والنفقات، فيكرّس المشروع النهج التقليدي القائم على تضخم النفقات الجارية مقابل تدنّي النفقات الرأسمالية، ما يُفقد الموازنة دورها التنموي، وإن استمرار وجود عجز مالي مرتفع دون خطة قانونية واضحة لخفضه، رغم أن المادة (114) من الدستور تلزم الحكومة بإدارة المال العام بما يضمن الاستدامة المالية.
ضعف الشفافية في عرض الالتزامات المستقبلية يتجلى في غياب بيانات تفصيلية حول الديون، الفوائد المستقبلية، والالتزامات طويلة الأجل، بما يخالف مبادئ المحاسبة الحكومية والشفافية المالية المنصوص عليها في قانون الإدارة المالية رقم (6) لسنة (2020).
كما ويكشف مشروع موازنة (2026) عن استمرار الحكومة في النهج ذاته دون تقديم حلول اقتصادية مبتكرة، ويتضح ذلك في عدة جوانب، كغياب رؤية إصلاحية اقتصادية حقيقية، ولا تتضمن الموازنة إجراءات ملموسة لتحسين بيئة الاستثمار، أو محفزات اقتصادية قادرة على استعادة نمو القطاع الخاص، وإن عدم ربط الموازنة ببرامج اقتصادية واضحة ومعلنة، ما يُظهر انقطاعاً بين السياسة المالية والسياسة الاقتصادية العامة للدولة، واستمرار الاعتماد على الضرائب غير المباشرة فتعتمد الحكومة بشكل كبير على الضرائب على السلع والخدمات، وهو ما يُثقل كاهل المواطن ويعيق النشاط الاقتصادي، وعدم تقديم رؤية لإصلاح المنظومة الضريبية بما يحقق العدالة والكفاءة.
إن ضعف سياسات خفض النفقات مثل عدم وجود أي خطط لإعادة الهيكلة أو دمج المؤسسات الحكومية المتشابهة، او استمرار نمو بند “النفقات الجارية” وتحديداً الرواتب والتقاعد، دون أي إصلاحات هيكلية، كم نلاحظ فشل في إدارة ملف الديون حيث أن هناك نمو متزايد للدين العام دون استراتيجية قانونية واضحة لإدارته، وغياب خطة زمنية أو تشريعية لخفض نسبة الدين إلى الناتج المحلي.
هذا من جهة ومن جهة اخرى هناك ضعف من مجلس النواب في الرقابة والتشريع والتي تعتبر من أهم أدواره الرقابة على الإنفاق العام والتأكد من قانونية الموازنة وواقعيتها، إلا أن دوره في التعامل مع موازنة (2026) جاء ضعيفاً لاسباب عدة منها عدم القدرة على تحليل البنود المالية المعقدة، لم يقدّم المجلس مراجعة فنية متخصصة للإنفاق العام، اكتفى بعض النواب بخطابات عامة دون تقديم تعديلات جوهرية على بنود الإيرادات أو النفقات، كما وأن غياب الرؤية التشريعية الواضحة لمعالجة الثغرات فلم يعمل المجلس على اقتراح تشريعات موازية لتعزيز كفاءة الإنفاق أو إصلاح النظام الضريبي، وانعدام المبادرات لإخضاع المؤسسات المستقلة للرقابة الفعلية أو إعادة هيكلتها، وهناك ضعف بعدم الاستعانة بالخبراء والمختصين فلم يشكل المجلس لجاناً اقتصادية قانونية فاعلة تستند إلى دراسات علمية في تقييم مشروع الموازنة، مما يدل على تراجع الدور المؤسسي للجان المالية في دراسة المشروع بعمق، فلم يستخدم المجلس أدوات المساءلة مثل الاستجوابات أو طلب الوثائق التفصيلية، رغم وجود فجوات واضحة في مشروع الموازنة.
يظهر المشروع عدداً من الثغرات القانونية والمالية، من أبرزها: غياب خطة واضحة لتخفيض العجز، ضعف التقديرات الواقعية للإيرادات، تضخم بند النفقات الجارية، استمرار الهدر في الإنفاق دون ضبط إداري أو مالي، عدم ربط الموازنة بخطط تنموية مستقبلية، عدم تضمين مؤشرات قياس الأداء الحكومي(KPIs)، وغياب رؤية إصلاحية للقطاعات الحيوية كالطاقة والمياه والنقل.
وعليه وتحقيقا لضمان موازنة أكثر واقعية وعدالة واستدامة، اقدم بعض الاقتراحات وإجراء التعديلات مثل إعادة هيكلة النفقات العامة،
تخفيض النفقات الجارية بنسبة لا تقل عن (10%)، دمج أو إلغاء المؤسسات و/او الهيئات ذات الوظائف المتكررة، الحدّ من السفر والمخصصات والمكافآت غير الضرورية، إصلاح المنظومة الضريبية، تخفيض الضرائب غير المباشرة على السلع الأساسية، تحسين التحصيل الضريبي بدلاً من زيادة العبء على المواطنين، مكافحة التهرب الضريبي عبر إطار قانوني أكثر صرامة، زيادة النفقات الرأسمالية، توجيه الاستثمار إلى قطاعات إنتاجية كالتكنولوجيا والزراعة والصناعة، وضع مشاريع تنموية حقيقية لها أثر مباشر على النمو، تحسين إدارة الدين العام، اعتماد استراتيجية قانونية تمتد لخمس سنوات لخفض الدين، طلب موافقة مجلس النواب على كل قرض جديد مع بيان مبرراته بشكل تفصيلي، تعزيز الشفافية المالية، نشر جميع بيانات الإيرادات والنفقات بالتفصيل، إخضاع المؤسسات المستقلة لرقابة حقيقية وربط إنفاقها بقانون الموازنة، ربط الموازنة بخطط تنفيذية واضحة، وضع مؤشرات أداء قابلة للقياس، ربط الصرف الحكومي بالإنجاز الفعلي للبرامج.
إن مشروع قانون الموازنة العامة لعام (2026) يعكس استمرار الإشكاليات الهيكلية التي تُعاني منها المالية العامة في الأردن، سواء على مستوى غياب الرؤية الحكومية أو ضعف الدور الرقابي لمجلس النواب، ولا بدّ من إجراء تعديلات جذرية على المشروع لضمان توافقه مع أحكام الدستور ومبادئ الإدارة المالية الرشيدة، وبما يحقق التوازن بين حاجات الدولة وقدرتها المالية، ويعزز ثقة المواطنين بالمؤسسات المالية والتشريعية.




عدد المشاهدات : (4606)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :