رم - د . مهدي مبارك عبد الله
في صباح يوم الخميس الرابع من ديسمبر 2025 ومن قلب غزة التي تختنق تحت وطأة الحصار والفوضى استيقظ قطاع غزة على خبر مقتل العميل ياسر أبو الشباب زعيم المليشيات المتعاونة مع إسرائيل في القطاع والذي شغل الشارع الغزي بظهوره المفاجئ وهيمنته المثيرة للجدل داخل ما عُرف بالقوات الشعبية في جنوب القطاع حيث انتشر الخبر بسرعة خاطفة فيما تضاربت الأنباء حول الجهة التي اغتالته بين من يؤكد أن نهايته مع عدد من مرافقيه كانت على يد عناصر من حماس عبر كمين محكم نفذته الكتائب داخل مدينة رفح جنوب قطاع غزة فيما ربط البعض الاخر مقتله في سياق اشتباكات قبلية على أيدي اثنين من اقربائه بعد سلسلة توترات عشائرية وأمنية تراكمت طويلاً او جراء صراعات داخلية بين اطرف تنظيمه
مع توالي الصور الأولى للحادثة بدا واضحاً أن وقع الحدث تجاوز حدود الخبر العابر وقد خرجت ردود الافعال من المخيمات والأحياء الشعبية بسرعة غير مسبوقة بعضها يحتفي بما اعتبروه سقوط صفحة سوداء من تاريخ العمالة والخيانة وفي لحظة واحدة تحوّل موته إلى مادة خام للتحليل السياسي والشعبي لرجل انتقل من الظل إلى واجهة المشهد بطريقة أثارت كل الأعين والشكوك وظل لسنوات عنوانا لمرحلة ضبابية تحيطها العلاقات الغامضة والمشبوهة والاتهامات القذرة والمشينة التي قادته الى نهاية درامية صاخبة في مرحلة كاملة من الانهيار والاشتباك الداخلي وانكشاف جغرافيا الولاءات بكل تفاصيلها
حين يُذكر اسم المدعو أبو الشباب تطفو إلى السطح واحدة من أكثر الظواهر قبحًا في تاريخ غزة المعاصر فبعدما فوجئت إسرائيل بشراسة المقاومة على الأرض بحثت عن وسائل غير تقليدية لتخفيف الضغط عن جنودها عبر تفعيل قوى محلية مناوئة لحماس بخلق ظاهرة الانزلاق من هوامش المجتمع إلى أحضان الاحتلال ثم محاولة الظهور في ثوب المقاوم بينما الحقيقة أن المسار لم يكن يومًا أكثر من شبكة مصالح ملوّثة وارتباطات قذرة نسجتها يد الاحتلال لمن يبحث عن سلّم سريع نحو النفوذ والمال ولو كان على رقاب ودماء أبناء وطنه
تعود بداية تجنيده وجماعته إلى الأشهر الأخيرة من عام 2024 عندما وفرت اسرائيل مأوى لهم في المناطق الواقعة تحت سيطرتها في جنوب شرق مدينة رفح حيث أطلقت على نفسها اسم "جهاز مكافحة الإرهاب" قبل أن تظهر لاحقا في 10 مايو/ أيار 2025 تحت اسم "القوات الشعبية " وقد أشرف الاحتلال على تسليحها كعصابات إجرامية متخصصة في قطع الطريق أمام قوافل المساعدات الواردة من معبر كرم أبو سالم جنوبي قطاع غزة وسرقتها وإطلاق النار على المواطنين واعتقالهم كما اتهمت حماس عناصر ابو شباب بالقيام بعمليات ضد الفلسطينيين شملت تفتيش منازل وتفكيك عبوات ناسفة زرعتها المقاومة إضافة إلى جرائم قتل بحق عناصر مقاومة وسرقة أسلحتهم والهجوم على المؤسسات الصحية كمستشفى ناصر في خانيونس بالتنسيق المباشر مع الاحتلال بالإضافة الى خطف لنشطاء من الفصائل الفلسطينية لصالح جهاز الشاباك كما جرى مع القيادي في كتائب المجاهدين» محمد أبو مصطفى وفي واقعة اختطاف الممرضة تسنيم الهمص من خان يونس وتسليمها للقوات الإسرائيلية للضغط على والدها الطبيب مروان الذي اختطفته قوة إسرائيلية خاصة قبل عدة أشهر
أبو شباب ولد عام 1990 في رفح جنوب قطاع غزة ينتمي إلى قبيلة الترابين كان معتقلا قبل السابع من أكتوبر 2023 بتهم جنائية من بينها الاتجار بالمخدرات والسرقة وقد أطلق سراحه عقب قصف إسرائيل لمقرات الأجهزة الأمنية في القطاع وقد إلى استغلال انتمائه القبلي لتأمين غطاء اجتماعي لأنشطته إلا أن محاولاته باءت بالفشل بعدما أعلن وجهاء قبيلته براءتهم منه قطعيا واكدوا أن القبيلة التي قدّمت العديد من أبنائها شهداء في صفوف المقاومة الفلسطينية لا يمكن أن تحتضن من يعتدي على حقوق الناس ويتعاون مع الاحتلال
لم يكن أبو شباب رجل عادي في نظر كثير من سكان غزة بعدما ارتبط اسمه بملفات حساسة واتُهم مراراً بالتعاون مع الجيش الإسرائيلي وهو ما جعل نبأ مقتله يشق الشارع إلى موجات متلاحقة من الدهشة والارتياح والغضب وقد توقعت عدة تقارير امنية وتحليلات سياسية تفكيك مجموعته بعد مقتله أو أن تدخل في مرحلة صراع داخلي أو ستنتقل سيطرتها إلى كيان آخر في ظل وجود مجموعة مسلحة أخرى في خان يونس تتبع لحسام الأسطل الضابط السابق في السلطة الفلسطينية
كما ان ظهوره السريع لم يكن حدثًا عفويًا بل جاء مترابطًا مع مرحلة حساسة حاول فيها الاحتلال خلق تشكيلات رديفة داخل غزة تخلط الأوراق وفتح مسارات جديدة من الفوضى تمنح أجهزة الأمن الإسرائيلية الفرصة لاختراق الداخل بكلفة قليلة وقد تزامنت هذه التحركات مع محاولات أطراف فلسطينية لكل منها حساباته استثمار لتحقيق مكاسب آنية حتى لو كان الثمن دفع المجتمع إلى مزيد من الانقسام والتفكك وهكذا تشكّلت البذرة الأولى لتنظيم مسلح مشوّه لم يكن مشروعًا وطنيًا بقدر ما كان أداة عميلة ومتواطئة بلا بوصلة
الرجل الذي خرج من بيئة هامشية مضطربة تحوّل تدريجيًا إلى واجهة لمشروع هجين لا يشبه المقاومة في شيء بل كان أقرب إلى تشكيل مسلح مشوّه خدمت وظيفته عن قصد أو عن غباء مقتضيات الاحتلال في لحظة حساسة من تاريخ القطاع سيما وان ظهوره العلني تزامن مع تحركات سياسية وأمنية معروفة ما جعل كثيرين يرون أن دوره لم يكن صدفة بل نتاج مسار طويل من العلاقات المتشابكة مع الاحتلال الذي أراد دائمًا خلق أدوات داخل غزة تضرب النسيج الداخلي وتشتت البوصلة الا ان الشارع الغزي أدرك باكرًا أن هذا التشكيل لم يكن يحمل سمات الفعل المقاوم
ومهما حاول البعض تجميل الصورة أو إلباسها شعارات وطنية فإن الوقائع التي عرفها الشارع في غزة بما فيها طريقة التمويل وطبيعة الظهور وخطوط الحركة وحجم الحماية غير المفهومة كانت كافية لتجعل التنظيم الذي قاده ابو شباب عنوانًا للفوضى وليس للمقاومة ومصدر تهديد ولا سبيل للأمان وقد فشل هذا التشكيل في أن يقنع أحدًا ببراءته بل رسّخ انطباعًا واسعًا بأنه مشروع اسرائيلي عابر وواجهة لمخطط أكبر وأكثر سوءا بعدما انكشفت هشاشة السردية التي حاول ابو شباب قائد التنظيم ترويجها وما بين صخب السلاح وتضارب الولاءات حين بدا كمن يسير نحو الهاوية وهو يظن أنه يصعد طريق المجد
في 6 يوليو الماضي نشر موقع كان العبري مقابلة مع أبو شباب أعلن فيها صراحةً حربه ضد حماس واستعداده لتولي حكم القطاع بعد انتهاء الحرب كما أقر بوجود تنسيق مع الجيش الإسرائيلي على مستوى توزيع المساعدات وبتلقيه دعمًا إداريًا من السلطة الفلسطينية وان سقوطه الدموي والمفاجئ لم يكن سوى النتيجة الطبيعية لمسار اختار صاحبه أن يضع نفسه فيه فالذي يفتح الباب للاحتلال ويتيح له أن يتسلل إلى داخل نسيج المجتمع، لا يمكن أن ينتظر نهاية مشرّفة وغزة ليست أرضًا رخوة لمن يبيع ضميره ووطنه بل هي أرض تبتلع الخائن قبل أن يكتمل صوته وتمسح أثره سريعًا حتى لا يتلوث وجهها بما تركه خلفه لقد انتهى الرجل داخل الدوامة نفسها التي صنعها بيده ليقدّم مثالًا جديدًا على أن الخيانة مهما تجمّلت بالشعارات فمصيرها المخزي واحد لأن المجتمع الذي يُحاصر منذ سنوات طويلة ويموت أبناءه يوميا بالقصف والجوع لن يسمح للطفيليات العفنة أن تستمر داخله كما اثبت غزة بتاريخها النضالي المقاوم انها تطهّر نفسها بنفسها وتطرد كل مشروع دخيل مهما حاول ارتداء العباءة الوطنية او تبنى الشعارات المزيفة
الرسالة الاهم لمن تبقى من عناصر تنظيمه المشتت ليست بحاجة إلى كثير شرح وإن كان ثمة لحظة للعودة فهي الآن قبل أن يُسدل الستار على ما تبقى من أسماء سلكت الطريق ذاته بإعلان التوبة ليس ضعفًا بل محاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من حياة ضائعة أُهدرت في مشروع لا هو مقاومة ولا هو سياسة ولا هو شرف وأنتم تعرفون قبل غيركم حجم الخراب الذي جرّه هذا المسار عليكم وعلى عائلاتكم ومجتمعكم وان الاعتذار للشعب الفلسطيني ليس مذلة بل واجب أخلاقي لمن شارك في تنظيم مسلح ارتبط اسمه بالفوضى والإضرار بالناس والتجاوزات التي يعرفها الجميع والشعب الذي صبر عليكم قادر على أن يسامح لكنه لن يمد يده لمن يُصرّ على تكرار الخطأ ذاته أو يظن أن الفوضى يمكن أن تتحول يومًا إلى بديل عن المشروع وطني
لتعزيز صورة العرض والتحليل لا بد من التذكير بحقيقة تتكرر دائما في العديد من التجارب الوطنية بان مشاريع العمالة الموازية التي تتعارض مع الشرعية الشعبية سرعان ما تتحول إلى عبء وخطر ثم تصبح صفحة مخزية لابد من اجتثاثها وكلما زاد اعتمادها على الخارج ازداد هشاشتها في الداخل ونموذج الخائن ابو سباب ليس أولًا ولن يكون آخرًا لكنه يقدم رؤية واضحة لمن يريد فهم كيف يصنع الاحتلال أدواته وكيف يسقطون جميعًا بمجرد انتهاء صلاحيتهم
البعد الاجتماعي في قضية ابو شباب هو الأخطر فالفوضى التي رافقت ظهور التنظيم خلقت حالة من الترويع داخل الأحياء وتورّطت في نزاعات محلية غذّت شعورًا عامًا بأن السلاح لم يعد موجّهًا نحو الاحتلال بل نحو الناس أنفسهم وقد شعر المواطن البسيط بأن أمنه اليومي صار سلعة، وبأن المتاجرة بشعارات المقاومة تحوّلت عند البعض إلى غطاء لفرض النفوذ الاجرامي وهذه التجاوزات لا يمكن أن تُترك بلا حساب مهما طال الزمن لأن المجتمع الذي يقاوم منذ عقود لا يحتمل مزيدًا من الانحراف والطعنات الداخلية
امام كل ذلك لا يمكن النظر إلى مقتل أبو الشباب إلا بوصفه نهاية حتمية لمسار صُنِع بيد صاحبه وإنه ليس حدثًا أمنيًا فقط بل فصل سياسي واجتماعي يفرض طرح الأسئلة الكبيرة حول معنى المقاومة وحدود الشرعية وضرورة حماية العقد الوطني من كل تجريب أرعن وبكل الاحوال فقد انتهى الرجل الى فبح ما صنع لكن ما يجب أن ينتهي حقيقة هو الوهم الذي حاول البعض تسويقه بأن الخراب يمكن أن يصنع مجدًا أو أن الفوضى قد تتحول يومًا إلى مشروع وطني تحرري وان رحيله لا يطوي صفحة شخص بقدر ما يكشف عمق الجرح الذي تركته مشاريع التخريب الداخلي عبر السنين لكن كل مشروع يشبهه سيُدفن بالطريقة ذاتها لأن غزة بكل بساطة لا تحتمل الازدواجية ولا تقبل أن يتحول سلاحها إلى لعبة في يد من لا يعرف معنى الوطن والشرف والمواطنة
في نهاية المطاف ان تصفية ابو شباب بهذه السرعة والكيفية ليست مجرد خاتمة لشخص بل تطهير حقيقي للمدينة من دمس العصابة الاجرامية كما انه رسالة صارخة لمن يظن أن الازدواجية يمكن أن تستمر أو أن العبث يمكن أن يختبئ طويلاً خلف الدخان فغزة لا تُدار بالارتجال ولا تمنح الشرعية لمن يبحث عنها في الأنفاق المظلمة والارتباط المشبوه وان من يضع نفسه في صف من يعادي شعبه سيكتشف أن لحظة الحقيقة أقرب مما يظن وأن التاريخ لا يحفظ إلا من خدم الوطن واخلص له ودافع عنه ويلفظ كل من تاجر به ومرغ وجهه بالخزي والعار وهكذا تُطوى الصفحة لتظل العبرة قائمة بان الخيانة طريق بلا عودة ومن يختارها يكتب نهايته بيده قبل أن يكتبها أحد غيره وهذه العملية بمجملها شكلت ضربة موجعة ليس فقط للمجموعة المسلحة بل لمنظومة الأمن الإسرائيلية وللمخطط الاستراتيجي الذي كان يستهدف فرض سيطرة المليشيا على مناطق في غزة وإنشاء ما يُسمى " منطقة آمنة " تخدم مصالحه وتضعف حضور المقاومة
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]