د . مهدي مبارك عبد الله
في هذه اللحظة التي تسقط فيها كل الأقنعة وتنكشف حقيقة المشهد بلا رتوش تظهر إسرائيل بوجهها الأكثر فجاجة وهي تطالب علنًا باعتقال رئيس السلطة الفلسطينية في خطوة لا تحتمل التأويل ولا يمكن تغطيتها بشعارات السلام ولا بخرافة الشراكة السياسية إذ لم يعد الاحتلال يرى في السلطة كيانًا سياسيًا بل يتعامل معها كما يتعامل مع موظف ميداني في إدارة تابعة يملك حق إيقافه وتهديده وسلبه أبسط حرياته متى شاء وهذا ليس تصعيدًا بل صفعة سياسية متعمدة تهدف إلى سحق ما تبقى من الهيبة الرمزية للقيادة الفلسطينية وتجريدها من مكانتها داخل مجتمعها قبل أن يكون ذلك أمام العالم
إن تهديدات بن غفير وسموتريتش وبينيت ليست مجرد سلوكيات تطرف عابر كما انها ايضا ليست نزوات متطرفين بل جزء من عقيدة سياسية تريد إنهاء أي بنية وطنية فلسطينية مهما كانت طريقتها أو خطابها أو التزامها بالتنسيق وهي خلاصة مشروع سياسي كامل يعتبر أن الفلسطيني لا يملك حقًا سياسيًا واحدًا وأن السلطة ليست سوى أداة أمنية لتسهيل حياة المستوطنين وحماية الجنود وكل ما يتجاوز ذلك يجب قمعه وإخضاعه وكتم أنفاسه إسرائيل لا تقول إنها ترفض مواقف السلطة بل ترفض وجودها السياسي أصلًا وهي تعلن بشكل مكشوف أن السلطة ليست شريكًا في عملية سياسية بل كيانًا مكبلًا لا يمتلك من أمره شيئًا وأن رئيسها لا يختلف في نظرها عن أي فلسطيني يمكن اعتقاله أو احتجازه أو منعه من الحركة بقرار عسكري
هذا الخطاب العدائي المتوحش تزامن مع توسع الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية ليس صدفة فإسرائيل شعرت بأن اللحظة السياسية قد تفلت من يدها وأن العالم بدأ يسمع الصوت الفلسطيني خارج مرشحات الاحتلال فاختارت الرد بإطلاق أعنف خطاب ممكن ضد القيادة الفلسطينية لإرسال رسالة واضحة للعالم أن تمثيل الفلسطيني هو قرار إسرائيلي وأن الفلسطيني لا يُسمح له بالتحرك سياسيًا إلا في الحدود التي يقررها الاحتلال فعندما تعاقَب السلطة على اعتراف دولي بدولة فلسطين فهذا يعني أن إسرائيل لا تعترض على خطوة سياسية بل تعترض على وجود فكرة الدولة نفسها لإفهام الجميع أن الفلسطيني لا يحق له تشكيل مستقبل سياسي إلا عبر بوابة الاحتلال وأن أي تقدم دبلوماسي سيواجه بالتحطيم قبل أن يترجم على الأرض وهذه ليست ردود أفعال بل استراتيجيا تقوم على خنق أي إمكانية لولادة كيان وطني فلسطيني قادر على التمثيل أو الفعل
لقد تحولت التهديدات الاسرائيلية إلى إجراءات فعلية مسّت الرئيس وقيادات السلطة بشكل مباشر إذ لم تعد إسرائيل تتحدث عن تقييد الحركة كخيار بل تمارسه كأداة إذلال سياسي تفرضها كما تفرض الحصار والمدن المغلقة فالرئيس ممنوع من زيارة غزة والرئيس ممنوع من السفر إلى دولة عربية دون إذن من الجيش والرئيس لا يستطيع الانتقال داخل الضفة إلا ضمن هوامش تحددها قوات الاحتلال وهذا ليس مجرد تعسف إداري بل إعلان واضح بأن رأس السلطة لا يملك من السيادة حتى ما يسمح له بعبور عشرات الكيلومترات داخل وطنه
الأمر يتجاوز شخص محمود عباس ليضرب جوهر السلطة بالكامل فكيف يمكن لأي فلسطيني أن يأخذ السلطة على محمل الجد وهي عاجزة عن حماية رئيسها وكيف يمكن إقناع شعب يعيش تحت القصف والاقتحامات بأن هذه السلطة تمثل سيادة أو مشروعًا سياسيًا بينما هي لا تستطيع حماية رمزها ولا حتى الاعتراض على تهديد يمس رأسها إن منع الرئيس من السفر ومنع مروحيات عربية من نقله والتحقيق مع قيادات السلطة على الحواجز ليست تفاصيل بل مشاهد مقصودة لعرض السلطة في حالة عجز كامل أمام الفلسطيني نفسه قبل أن تكون أمام العالم
إسرائيل تعمل بوعي تام على نزع شرعية السلطة من الداخل قبل الخارج فهي تعرضها أمام الناس باعتبارها بلا حصانة ولا قدرة ولا أثر سياسي كيانًا يعيش برسم الاحتلال ويستمد وجوده من موافقة جنرال إسرائيلي لا من ثقة شعبه فحين يرى الفلسطيني أن رئيس السلطة الذي حافظ على التنسيق الأمني وفق شروط الاحتلال يواجه تهديدًا باعتقاله يصبح استمرار العلاقة مع الاحتلال مدعاة للسخرية لا لمفهوم الشراكة ويصبح التنسيق الأمني عبئًا أخلاقيًا وسياسيًا يفجر غضب الشارع بدل أن يحافظ على الاستقرار
وفي ظل أزمة داخلية أصلاً تعاني منها السلطة تزداد الأمور تعقيدًا فالشعب الذي يقاتل ليلًا ونهارًا من أجل كرامته يرى قيادته عاجزة عن الدفاع عن نفسها فتتعمق الهوة وتتفكك الثقة وتتحول السلطة إلى كيان يستهلك ما تبقى من شرعيته مع كل تهديد يصدر من وزير إسرائيلي إذ كيف لقيادة لا تستطيع دخول غزة أن تقنع الناس بأنها قادرة على تحرير غزة وكيف لسلطة لا تستطيع حماية حرية حركة رئيسها أن تطلب من الناس الدفاع عن مشروع سياسي بات في نظر كثيرين مشروعًا مستنزفًا لا يملك أدوات البقاء
إن تهديد الاحتلال باعتقال رئيس السلطة ليس حدثًا عابرًا بل إعلان سقوط معادلة كاملة حكمت العلاقة بين الطرفين منذ أوسلو فالاحتلال يقول بصوت عال إنه لا يعترف بسيادة ولا برمز ولا بدولة ولا بقيادة وإن كل ما يريده من السلطة هو الاستمرار في الدور الأمني دون أي بعد وطني أو سياسي وإذا كانت إسرائيل لا ترى في الرئيس سوى موظف يخضع لها فما معنى وجود سلطة أصلًا وما الجدوى من استمرار علاقة تصادر حتى حق رئيسها في الحركة والكلام
ويقف الفلسطيني اليوم أمام سؤال لم يعد بالإمكان تجاهله لماذا تستمر منظومة التنسيق الأمني وما قيمتها بعد كل هذا الإذلال وكيف يمكن لسلطة لا تحمي نفسها أن تحمي شعبها وكيف تطلب من الناس احترام منظومة لا يعترف الاحتلال بها ولا يقيم لها وزنًا وكيف يمكن بناء مستقبل وطني في ظل علاقة قائمة على الإهانة اليومية وعلى تجريد القيادة من كل معنى سياسي حتى تتحول إلى ظل بلا حضور
السلطة في شكلها الحالي لا تستطيع الاستمرار دون خسارة ما تبقى من شرعية أو كرامة فالسلطة التي لا تحمي رئيسها لن تحمي وطنًا والسلطة التي تصمت أمام تهديدات وزرائها المحتلين لا يمكنها أن تقود شعبًا يدفع ثمنًا دمويًا يوميًا إن استمرار العلاقة كما هي لا يبقي للسلطة إلا شكلًا هشًا بلا مضمون ويجعلها أقرب إلى إدارة خدمية تحت الاحتلال منها إلى نواة دولة حقيقية
في وسط هذا المشهد يقف السؤال الذي يطرحه كل فلسطيني لماذا يستمر التنسيق الأمني وما قيمته بعد هذا الإذلال وكيف يمكن لسلطة لا تحمي رأسها أن تحمي شعبها وكيف يطلب من الناس احترام منظومة لا يحترمها الاحتلال ولا يعترف بها وكيف يمكن بناء مستقبل وطني في ظل علاقة محكومة بالإهانة والإخضاع وتعرية القيادة أمام جمهورها
إن اللحظة التي نعيشها هي لحظة انكشاف كامل إما أن تعيد السلطة بناء علاقتها مع الاحتلال على أساس يحفظ كرامة الشعب ويعيد لها معنى ودورًا أو ستظل غارقة في هيكل فارغ يفقد كل يوم جزءًا من شرعيته إلى أن يسقط من تلقاء نفسه وفي المحصلة سيبقى الشعب الفلسطيني هو صاحب الكلمة الأخيرة وهو من سيختار من يمثله ومن يدافع عن قضيته في مواجهة احتلال لا يعترف إلا بمن يقف ثابتًا أمامه لا بمن يرتجف تحت تهديده
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]
|
لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
|
|
| الاسم : | |
| البريد الالكتروني : | |
| التعليق : | |