رم - عاطف أبوحجر
في عالمٍ باتت فيه الأسعار ترتفع أسرع من ضغط المواطن، وأصبح توفير لقمة العيش يحتاج إلى مهارات النينجا وصبر "توم على جيري"، يظهر موسم قطاف الزيتون كل سنة ليذكّرنا أن الضحك أحيانًا هو الطريقة الوحيدة لنُكمل الطريق دون أن نصاب بجلطة أو بانهيار عصبي من العيار الثقيل.
تبدأ القصة بشجرات زيتون تقبع أمام باب الدار، لا يطلبن سوى قليل من الماء وكثير من الاهتمام، وأحيانًا اشتراك بجمعية شهرية لتغطية نفقات العناية بها. عليك أن تحرث وتُقنّب وترش مبيدات وتسقي وتدلّل… وكأنك تربّي بناتك “المدلّلات”.
لكن ما إن يأتي الموسم حتى يتحوّل المشهد من رومانسيّ إلى فيلم أكشن.
تضطر لاستئجار عامل يساعدك لأنك لا تجد من يعينك – حتى أولادك أحيانًا – وتبدأ أنت والعامل، وحسب حالة الطقس، بفرط الزيتون. وبعد كل هذا الشقاء والتفاؤل تأتي النتيجة المخيبة: خمس شوالات فقط، لتكتشف أن مجموعها مئة كيلو لا أكثر. هنا يبدأ أول فصول المسرحية بنوبة ضحك هستيرية.
في اليوم التالي تذهب إلى المعصرة، وهناك تبدأ مرحلة “قتال الشوارع”: انتظار طويل، صراخ، ازدحام، شخص يدّعي أن دوره قبلك، وآخر يزاحمك بالقوة، ولولا “ولاد الحلال” — بارك الله فيهم — لكانت المعصرة أشهر فصل في مسرحية عنوانها “اللي سبق لبق”.
ثم تبدأ المعاناة الفكرية:
يجب أن تقنع أحدهم أن يعصر معك لمضاعفة الكمية، فالمعاصر لا تعصر أقل من ٢٠٠ كيلو. المشكلة ليست في الإقناع… بل في أنه سيحاسبك لاحقًا على كل نقطة زيت فرق، وكأنك أنت المتسبب في محاصيل الأرض.
وأخيرًا… يخرج الزيت!
تتوقع خيرات الأرض المباركة… فتتفاجأ بعشرة كيلو فقط. أي نعم… عشرة!
فتسأل نفسك: “هو أنا عصرت زيتون ولا عصروني أنا؟”
ولا تنتهي الكوميديا هنا…
فالشخص الذي شاركك يفتعل مشكلة لأن زيتك طلع عشرة كيلو وزيته تسعة فقط. وهو مقتنع تمامًا أن السر ليس في الزيتون… بل في نيتك! ومصرّ على معرفة سبب فارق الكيلو بينك وبينه.
وبينما أنت في قمة دهشتك، تقول في نفسك:
“والله كان لازم آخذ بنصيحة صاحب المعصرة وأبدّل الـ١٠ كيلو زيتون بكيلو زيت واحد… أريح لراسي واختصارًا للمشاكل!”
تعود إلى المنزل مُنهكًا، تحمل كنزك الصغير: بضع كيلوهات من الزيت.
وفور دخولك تستقبلك الزوجة بالسؤال الفلسفي المستفز:
“وين خبز الشراك؟ مش قلت بدنا نسوي لزيقيّات؟”
وهنا تكتشف أنك خرجت من حرب المعصرة لتدخل حرب المطبخ.
وفي نهاية الليلة، وبعد الحسابات الدقيقة، تكتشف الحقيقة الموجعة:
دفعت مبلغًا أكبر من قيمة الزيت الذي حصلت عليه. والأهم؟ تعب سنة كاملة… طلع “ببلاش”!
فتضع يدك على جبينك وتقول بكل رقي:
“يا مسخّم… يا حزين، شو سويت بحالك؟”
موسم الزيتون ليس موسمًا عاديًا… إنه اختبار صبر، مسابقة لياقة، دورة شجار متقدّم، وتجربة اقتصادية ونفسية مرهقة… لكننا نعود ونكررها كل سنة بنفس الحماس، وبنفس الغباء الجميل.
لأننا ببساطة… نحب الزيتون أكثر مما نحب راحتنا.